بسم
الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله
رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، وبعد ...
فيقول الله
- تعالى - في كتابه العظيم : ((وَمِمَّنْ خَلَقْنَا
أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)) (الأعراف 181) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ ,
يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ , وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ ،
وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ »[1]
، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ
قَالَ: " الْإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، لَوْلَا الْإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ
شَاءَ مَا شَاءَ " [2].
وقال أبو علي
الجَيَّاني – رحمه الله - :
"خص الله هذه الأمة بثلاثة أشياء لم
يعطها من قبلها : الإسناد والأنساب والإعراب"[3] .
ورُوِّينَا عن إمامنا البخاري - رحمه الله – أنه قال بَابٌ: كَيْفَ يُقْبَضُ العِلْمُ ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ وَذَهَابَ العُلَمَاءِ ، وَلاَ تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم: «وَلْتُفْشُوا العِلْمَ ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ، فَإِنَّ العِلْمَ لاَ يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا»[4] .
ورُوِّينَا عن إمامنا البخاري - رحمه الله – أنه قال بَابٌ: كَيْفَ يُقْبَضُ العِلْمُ ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ وَذَهَابَ العُلَمَاءِ ، وَلاَ تَقْبَلْ إِلَّا حَدِيثَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلم: «وَلْتُفْشُوا العِلْمَ ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ، فَإِنَّ العِلْمَ لاَ يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا»[4] .
وبعد ... فحفاظًا على هذه السنة من الاندثار ، ونشرًا للعلم في شتَّى القرى
والأمصار ، وسيرًا على خُطَى المهاجرين والأنصار ، أقام مركز الفردوس التعليمي بالمغرب
"عروس الأقطار" ، وملحقته مقرأة الدرة المضية العالمية للعلوم العربية
والإسلامية مجالس سماع وتعليق وإجازة بصحيح الإمام البخاري (20 شوال إلى 26 ذو
القَعْدَة 1437 هـ) ، ثم طلب مني بعض الإخوة أن أذكر لهم بعض أسانيدي
لصحيح الإمام البخاري -رحمه الله - فأجبت رغبتهم سائلًا الله الإخلاص والتوفيق ،
عائذًا بالله من التسميع والرياء ، وقبل أن أعرض لذلك أقول : ينبغي أن لا يجعل طلاب
العلم - لا سِيَّمَا المبتدئين منهم - الرواية وجمع الأسانيد غاية همهم ؛ لأن
الرواية وسيلة الدراية ، والدراية وسيلة التقوى التي هي غاية الغايات ، قال الله –
تعالى - : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))
(البقرة
21) ، ورُوِّينا عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أنه قال : "لَيْسَ الْعِلْمُ مِنْ
كَثْرَةِ الْحَدِيثَ وَلَكِنَّ الْعِلْمَ مِنَ الْخَشْيَةِ"[5]
وعن إمامنا مالك – رحمه الله – أنه قال : "لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ
الرِّوَايَةِ ، إِنَّمَا الْعِلْمُ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي القلب"[6] .
وقد أدرك سلفنا الصالح – رضي الله عنهم – هذه
الحقيقة فوفقهم الله لخَصْلَتين نفقدهما في أكثر الطلاب اليوم :
الخصلة الأولى : أنهم
طلبوا العلم لله .
ومثال ذلك إمامنا الشافعي – رحمه الله - ؛ فقد
اشتهر بإخلاصه الشديد لله – عز وجل - ، مع همته العالية في طلب العلم وتعليمه ،
يقول – رحمه الله – "حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين" ، ولما
ارتحل إلى إمام دار الهجرة مالك – رحمه الله – ليطلب عليه الحديث والفقه أُعْجِبَ الإمام مالك
بحفظه وذكائه فقال "إني أرى الله قد ألقى عليك من نور العلم فلا تطفئه بظلمة المعصية"
، وقد ذكر بعض علمائنا قصة عن
الشافعي - رحمه الله – تقول إنه قد آتاه الله الذاكرة التصويرية بحيث إذا نظر إلى صفحة يضع يده على الأخرى ؛ حتى لا تشوش عليه حفظ الأولى ، ثم خرج يومًا فنظر إلى كعب امرأة فلما رجع إلى بيته ليحفظ عانى من النسيان ، فشكا لشيخه وكيع فقال له "العلم نور الله للطائعين لا العصاة ؛ فاحرص على طاعة الرحمن" فنظم الشافعي – رحمه الله – ما حدث فقال :
الشافعي - رحمه الله – تقول إنه قد آتاه الله الذاكرة التصويرية بحيث إذا نظر إلى صفحة يضع يده على الأخرى ؛ حتى لا تشوش عليه حفظ الأولى ، ثم خرج يومًا فنظر إلى كعب امرأة فلما رجع إلى بيته ليحفظ عانى من النسيان ، فشكا لشيخه وكيع فقال له "العلم نور الله للطائعين لا العصاة ؛ فاحرص على طاعة الرحمن" فنظم الشافعي – رحمه الله – ما حدث فقال :
شكوت
إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يُهْدَى لعاصي[7]
وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يُهْدَى لعاصي[7]
ولا يخفى على طالب العلم أن العجب والفخر
والمباهاة والمكاثرة من محبطات الأعمال ، فنعوذ بالله أن يشوب أعمالَنا شيءٌ من
ذلك ، وعَنِ الْحَسَنِ البصري – رضي الله عنه – قَالَ : " الْعِلْمُ عِلْمَانِ
: فَعِلْمٌ فِي الْقَلْبِ فَذَلِكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَعِلْمٌ عَلَى اللِّسَانِ
فَذَلِكَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى ابْنِ آدَمَ "[8].
الخصلة الثانية : أنهم
قدموا الدراية على الرواية .
فإذا وجدوا شيخًا ذا إسناد عال ، وعلم قليل وآخر
ذا إسناد نازل وعلم رصين قدموا الثاني ، قال يحيى
بن معين لأحمد بن حنبل – رحمهما الله - وقد رآه يمشي خلف بغلة الشافعي: "يا
أبا عبد الله تركت حديث سفيان بعلوِّه ، وتمشي خلف بغلة هذا الفتى وتسمع منه؟ "،
فقال له أحمد: "لو عرفت لكنت تمشي من الجانب الآخر،
إنَّ علم سفيان إن فاتني بعُلُوٍّ أدركتُه بنزول، وإن عقل هذا الشاب إن فاتني لم
أدركه بِعُلُوٍّ ولا نزول".[9]
وأعجبتني كلمة فضيلة الشيخ عبد العزيز الفيومي
لما رأى أكثر الطلاب يقبلون على الرواية المجردة (وبالقراءة المهذرمة[10])
قال : "كان علماء السلف يحرصون على الرواية مع إتقانهم الدراية ، واليوم أقبل
طلاب بلا دراية على الرواية" ومما عاينته أقول إن هؤلاء فوتوا الدراية وضيعوا
الرواية وأرجع مرة ثانية فأستثني ، وأقول إلا من رحم الله ، وقليل ما هم . نسأل
الله أن يجعلنا من القليل .
ولعلك – أيها القارئ الكريم - بعد هذه التوطئة عرفت
مذهبنا ، فنحن بحمد الله – أنا ومن على شاكلتي – نقدم الدراية على الرواية ، وإذا
تيسرت لنا الإمكانات للارتحال إلى المحدثين وأصحاب الأسانيد ما قصرنا في ذلك سبيلًا
ولتجشمنا لقاءهم لنتشرف بالرواية عنهم ، ويذكرنا الله فيمن عنده ، وفوائد مجالس
الحديث[11]
والرواية عمومًا أكثر من أن تحصى[12]
، نسأل الله أن يكرمنا ببركاتها[13]
في الدنيا والآخرة .
فالهدف من هذه الرسالة ذكر السلاسل الإسنادية
والتبرك بذكر رواتها الصالحين ، والترحم عليهم ، والدعاء لهم ، كما ذكرت تراجم بعض شيوخنا ومجيزينا –
حفظ الله أحياءهم ، ورحم أمواتهم - ؛ ليأبه طلاب العلم إليهم ؛ فيفيدوا من علمهم .
واللهَ أسأل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم ، وأن يجمعني وإياك أيها
القارئ الفطين بكل المسندين المهتدين في جنات النعيم مع إمام المحدثين وقائد
الغُرِّ المُحَجَّلين إخوانًا على سرر متقابلين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلِّ
اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
[1]
صحيح ، رواه البزار (9423 ، 9429) (16/
247) والطحاوي في شرح مشكل الآثار (3844) (10/ 17) وغيرهما .
[2]
رواه مسلم في مقدمة صحيحه
(1/ 15) ، وانظر "معرفة أنواع علوم الحديث" ، ويُعرف بمقدمة ابن الصلاح
للإمام عثمان بن عبد الرحمن ، أبي عمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح (ت 643هـ)
، (1 / 255 : 264) . ت: نور الدين عتر - دار الفكر- سوريا، دار الفكر
المعاصر – بيروت - سنة النشر: 1406هـ - 1986م ، للمزيد انظر بحثي "تعريف
الإسناد" :
[3]
تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي ، للإمام
السوطي رحمه الله، 2/159، تحقيق : عبد الوهاب عبد اللطيف، مكتبة الرياض الحديثةـ
الرياض . وانظر بحثي الرواة بصفة عامة :
[7]
وصية الشيخ ابن باز – رحمه الله - لطلاب الجامعة
الإسلامية بالمدينة المنورة ، و"ففروا إلى الله" للشيخ أبي ذر القلموني
(33) بتصرف يسير .
[8]
أثر صحيح ، رواه الدارمي (376) (1/ 373) موقوفًا ، ورواه ابن
المبارك في الزهد (1161) (1/ 407) وابن أبي شيبة (34361) (7/ 82) وغيرهما مرفوعًا
، والصحيح هو الموقوف كما ذكر أ/حسين سليم أسد – حفظه الله – في تحقيق سنن الدارمي
.
[9]
علو الهمة للشيخ د.محمد إسماعيل المقدم – حفظه الله – (407) و السلوك في طبقات العلماء
والملوك لأبي عبد الله ، بهاء الدين الجُنْدي (1/ 155) .
[11]
وقبل أن أذكر طرفًا منها أقول : ينبغي أن يخلص الطالب والشيخ النية لله - سبحانه
وتعالى - ليحصدوا هذه الفوائد ، ومنها : ضبط الأحاديث وأسماء الرواة ، غَشَيَان
الرحمة ، ونزول السكينة ، وحضور الملائكة ، وذِكْرُ الله - عز وجل - للحضور في
الملإ الأعلى بإذن الله ، واستفادة علم ينير لنا الدنيا والآخرة (وهل ثَمَّةَ
مخرجٌ للأمة من الفتن المعاصرة إلا في الاعتصام بالكتاب والسنة ؟!) ، واكتساب
مهارة الصبر في طلب العلم ، والتأدب بآداب طالب العلم ، واستغفار الجمادات للحضور
، وثواب الحج والعمرة تامَّين بإذن الله ، وكثرة الصلاة والسلام على النبي - صلى
الله عليه وآله وسلم - ، وشرف رواية أحاديث النبي - عليه الصلاة والسلام -
بالأسانيد المتصلة ، وهو من خصائص هذه الأمة المباركة ، للمزيد تابع هذه الرسالة
لشيخنا الفاضل وحيد عبد السلام بالي - حفظه الله - كما في الرابط التالي :
[12]
انظر على سبيل المثال لا الحصر "شرف أصحاب الحديث" للخطيب
البغدادي – رحمه الله - ، و"الرحلة في طلب الحديث" للمصنف نفسه .
[13]
من الطريف لما ذهبت إلى أحد علماء الحديث المشاهير في مصر ، واستجتزته
قال "الشيخ أجازنا للبركة ، ولم نجد شيئا منها ، فرفض أن يجيزني وقال يكفيك
شيخك بدر الدين" .
ليست هناك تعليقات: