موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة حكم من مدرسة الحياة 2-الْأَقْوَالُ وَسَائِلُ الْأَعْمَالِ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحكمة الثانية : الْأَقْوَالُ وَسَائِلُ الْأَعْمَالِ .

.......................
يقول الله تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) (70 ، 71 الأحزاب) .

والمتدبر لآيات الأقوال في القرآن الكريم يلمح أن الأقوال ليست أهدافًا مقصودة لذاتها ، وإنما هي وسائل لتحريك القلوب والجوارح ، وإلا فما بال الذين أنعم الله عليهم بفقد النطق ؟! أفقدوا مع النطق التكليفَ ؟!
إن الكلام لفي الفؤاد ... وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا ، فكثيرًا ما نجد أن القول السديد من العمل الصالح كالابن البار من أمه الصالحة ، وأحيانًا يكون الكلم الطيب كالمركب الهانئ الذي يوصل إلى جنة فيحاء ، وكلاهما مرفوع ومعروض على رب العباد ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)) (10 فاطر) ، وانظر - يرحمك الله - لبعض هذه الآيات القرآنية على سبيل المثال لا الحصر :
- وردت لفظة "قولوا" مجردة في القرآن الكريم مرتين :

الموضع الأول : في معرَض الرد على اليهود والنصارى الذين يريدون أن يعصِفُوا بعقيدة المسلمين ويحولوهم عن دين الحق يقول الله تعالى :
((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) (136 البقرة) فالهدف إظهار الإسلام والاعتزاز به ؛ لأنه دين الأنبياء من لدن آدم عليه السلام أبي البشر وأول الأنبياء ومرورا بالأب الثاني وأول الرسل نوح عليه السلام ، وأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام إلى إمامهم وأفضلهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا طريق الأنبياء وهو يذكرنا بطريق الدعاة إلى الله ورثة الأنبياء: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) (33 فصلت) فهو عمل صالح مغلف بالقول ، والإيمان ذو ثلاثة أركان: قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالجوارح والأركان ، فإن كان القول خالصًا لله فهو عمل صالح ، وإلا فلا ، ولعل أبلغ دليل على هذا قول الله تعالى :
((لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)) (114 النساء) .
الموضع الثاني : عندما زعم بعض الأعراب أنهم تحققوا بالإيمان : ((قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا)) رد الله تعالى عليهم بقوله :
((قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)) لأنهم جهروا بالإسلام تَعَوُّذًا ؛ ليأمنوا على دمائهم وأموالهم ، وفي الحديث : " الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ ". حسنه بعض أهل العلم ، رواه أحمد (12381) (19/374) وأبو يعلى (2923) (5/301) وغيرهما .
ثم بين الله سبحانه وتعالى لهم كيف يبرهنون على صدق أقوالهم فقال((وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (14 الحجرات)
قوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال ابن عباس: إِن تخلصوا الإيمان لا يَلِتْكُمْ ، قرأ البصريان : «يَألِتْكُم» بألف وهمز ، ولأبي عمرو التحقيق والإبدال ، من ألَتَ يألِتُ مثل : صَدَفَ يَصْدِفُ ، وقرأ الباقون: «يَلِتْكُم» بغير ألف ولا همز من لاتَ يَلِيتُ مثل : باع يبيع ، وهما لغتان بمعنى واحد . والمعنى: لا يَنْقُصكم . مِنْ أَعْمالِكُمْ أي: من ثوابها.
ثم بين سبحانه سبيل الإيمان الصادق فقال :
((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)) (15 الحجرات) (زاد المسير 4 / 154 ، 155 - المهذب 2 / 346 بتصرف) .
إذن العبرة بانسجام القول مع العمل ، ومواطئة اللسان لأعمال القلب والجوارح ، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((التَّقْوَى هَاهُنَا)) وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . رواه مسلم (2564) (4/1986) .
أما عن الأقوال فما أكثر القائلين ، وما أقلَ العاملين ، يقول الحسن البصري رحمه الله :
«إِنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي، إِنَّمَا الْإِيمَانُ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ، وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ» رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (30351) (6/163) ، وفي غيره : "وإن قوما غرتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم , وقالوا نحن نحسن الظن بالله , وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل"
قال العلامة الشيخ محمد عبده رحمه الله :
"إن من أخس الأوصاف وأدناها أن يقول الإنسان ما لا يفعل، وأن يدل غيره علي ما ضل عنه، وأن يعيب علي الناس ما لا يعيبه هو علي نفسه، وذلك أن من كانت هذه صفته فهو جاهل من وجه، ومعترف بنقصه من وجه آخر، وخبيث المقصد دنئ الهمة من الوجه الثالث، ...إلى أن قال :

فالقول الذي لا يعضده الفعل يحسب من أردأ الأوصاف وأقبحها؛ لأنه يشعر بوجود أوصاف تشهد البداهة بقبحها، ومن الأسف أن الوصف يوجد في كثير من أهالي بلادنا، بل في الغالب منهم، بل لا يوجد القائل الفاعل إلا قليلا جدا (قال : وإننا نخجل من تسجيل مثل ذلك في الجرائد، ولكن أي فائدة في إخفاء عيب فينا عرفه الغير منا، فحق علينا أن نذكر به لعلها تنفع الذكري)" ا هـــ .
وتأمل قول الله تعالى :
((وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ)) لو أحبكم ما عذبكم في الدنيا والآخرة ؛إن المحب لا يعذب حبيبه ، وأي دليل على صدقكم في محبتكم الله ؟!
تعصى الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمري في القياس شنيع
لو كان حبك صادقًا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
؛ ولأجل ذلك جعل الله اتباع نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم دليل محبته فقال سبحانه :

((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)) (32 آل عمران)
ويقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله : "الأعمال صور قائمة ، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها" ، وزاد بعض شيوخنا : "ولا إخلاص في علم حفظته ولم تعمل به" . نسأل الله أن يمنّ علينا بالعلم والعمل والإخلاص والقبول ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©