موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة تقاييد على كتاب الله المجيد - ولن يتمنوه ، ولا يتمنونه

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
ففي قول الله - تعالى - :
((وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) (البقرة 95)
((وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) (الجمعة 7)
بيان لطائفتين من اليهود ، الطائفة الأولى (أشد الناس حرصًا على حياة) لن يتمنوا الموت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بعد موته - صلى الله عليه وسلم - ، وهذه الطائفة هم أكثر اليهود اليوم ، ونلاحظ المؤكدات لذلك النفي :
1- ((وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدً)) ، و"لن" : حَرْفُ نَفيٍ وَنَصْبٍ واستِقْبال ؛ فهي نافية للحال والاستقبال ، ولا تَقْتَضِي تَأبِيدَ النَّفي ولا تَوْكِيدَه خلافًا للزَّمَخْشَرِي (1)
بِدَلِيل قولِه تَعَالى: {فَلَنْ أُكَلَّمَ اليَومَ إنْسِيّاً} الآية "26" من سورة مريم "19" ، (2)
و"لن" حرف بسيط غير مركب خلافًا للخليل (3)، والفعل المضارع بعدها ((يَتَمَنَّوْهُ)) منصوب بلن وعلامة نصبه حذف النون ؛ لأنه من الأفعال الخمسة .
وهذا التمني منفي في الدنيا ، وأما في الآخرة فيقول الله - سبحانه - : ((إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)) (الزخرف 74 : 77) . 
2 ، 3 ، 4 - ((وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاس)) أكد الكلام بلام التوكيد ثم بأفعل التفضيل ، التي تدل على أنه لا أحد أحرص من هؤلاء الناس ((عَلَى حَيَاةٍ)) ولم يقل الحياة ، والتنكير في هذا السياق يعني أي حياة ، ذليلة كانت أو عزيزة ، حقيرة أو عظيمة ، فوق الأرض أو تحت الأرض ، المهم أن يبقوا أحياء ، وليس خافيا على أحد ما يصنعه اليهود من حصون وملاجئ وأنفاق ليحافظوا على حياتهم ؛ لأن فقد فرد واحد يهودي أكبر من فقد آلاف البشر ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))  (آل عمران 75) .
ولا ننسى شجر الغَرْقَد الذي زرعوه بكثرة في فلسطين ليحتموا خلفه ، ومصداق ذلك ما ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ " (4)
، وسبب حرصهم على الحياة أنهم يعلمون العذاب الأليم الذي ينتظرهم في الآخرة ، وبدايته بعد الموت مباشرة  : ((وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)) (البقرة 96) ، فالصبر على ضنك الدنيا المر أهون من عذاب الآخرة المستمر ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)) (طه 124)
 هذا الفلس اليهودي  يناقض فلسفة الجهاد في سبيل الله عندنا معشر المسلمين : ((احرص على الموت توهب لك الحياة)) (5)
يا معشر اليهود اعلموا أن الموت آت لا محالة ((وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)) (التوبة 52) ، ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ)) (الأعراف 167) .
إن الشيء الوحيد الذي إن فررتم منه وجدتموه أمامكم هو الموت ، ((قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) (الجمعة 8)
وإِذا المنيةُ أنشبتْ أظفارَها * ألفيْت كُلَّ تميمةٍ لا تنفعُ


ولعل آية البقرة وردت في هذه الطائفة لأنهم أكثر اليهود ، ولاعتناء السورة بهم عن غيرهم بخلاف سورة الجمعة ، والله أعلم .
 

وأما الطائفة الثانية المذكورة في قوله - تعالى - : ((وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) (الجمعة 7) 
، وقد جاء النفي هنا بـ "لا" النافية المهملة التي تنفي الحال لا الاستقبال - والفعل المضارع بعدها ((يَتَمَنَّوْنَهُ)) مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون ؛ لأنه من الأفعال الخمسة -
 فهم طائفة قليلة من اليهود لا يتمنون الموت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكنهم قد يتمنونه في غير عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -  ؛ ذلك لأنه قد ضاقت بهم الدنيا فتوهموا أن الموت سبيل الخلاص كالمستجير من الرمضاء بالنار ، وقد سجل في الجيش الصهيوني حالات من الانتحار ، آخرها ما نقلته بعض وكالات الأنباء هذا الأسبوع من انتحار ثلاثة ، وإحالة 100 إلى مصحات نفسية ؛ نظرًا لما عاينوه من بأس المجاهدين الفلسطينيين - نصرهم الله - ، وكم من داع على المجرم الهالك شارون - لعنه الله - بأن يتمنى الموت فلا يجده ، فحبس في سريره أكثر من ثمان سنوات لا يدرك شيئا ويتمنى الموت في كل لحظة فلا يجده ((وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ)) (إبراهيم 17) ، إنها السنن يا عباد الله ، ((فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)) (فاطر 43) وصدق الله ورسوله ، وما زادنا إلا إيمانا وتسليما ، والحمد لله رب العالمين ، وصل اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (ت 538هـ)  كان إمامًا في التفسير والنحو واللغة والأدب، واسع العلم، كبير الفضل متفننًا في علوم شتى. ولد بزمخشر من ضواحي خوارزم، وتوفي بقصبة خوارزم ليلة عرفة. وكان معتزلي المذهب. قال السيوطي - (ت 911هـ) رحمه الله -  : "ذهب الزَّمَخْشَرِيّ فِي مفصله إِلَى أَن (لن) لتأكيد مَا تعطيه (لَا) من نفي الْمُسْتَقْبل قَالَ تَقول لَا أَبْرَح الْيَوْم مَكَاني فَإِذا أكدت وشددت قلت لن أَبْرَح الْيَوْم قَالَ تَعَالَى: {لَا أَبْرَح حَتَّى أبلغ مجمع الْبَحْرين} [الْكَهْف: 60] وَقَالَ: {فَلَنْ أَبْرَح الأَرْض حَتَّى يَأْذَن لي أبي} [يُوسُف: 80] وَذهب الزَّمَخْشَرِيّ فِي أنموذجه إِلَى أَنَّهَا تفِيد تأبيد النَّفْي قَالَ فقولك لن أَفعلهُ كَقَوْلِك لَا أَفعلهُ أبدا وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {لن يخلقوا ذبابا} [الْحَج: 73] قَالَ ابْن مَالك وَحمله على ذَلِك اعْتِقَاده فِي (لن تراني) أَن الله لَا يري وَهُوَ بَاطِل ورده غَيره بِأَنَّهَا لَو كَانَت للتأبيد لم يُقيد منفيها بِالْيَوْمِ فِي {فَلَنْ أكلم الْيَوْم إنسيا} [مَرْيَم: 26] وَلم يَصح التَّوْقِيت فِي قَوْله {لن نَبْرَح عَلَيْهِ عاكفين حَتَّى يرجع إِلَيْنَا مُوسَى} [طه: 91] ولكان ذكر (الْأَبَد) فِي قَوْله {وَلنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا} [الْبَقَرَة: 95] تكْرَار إِذْ الأَصْل عَدمه وَبِأَن استفادة التَّأْبِيد فِي آيَة {لن يخلقوا ذبابا} [الْحَج: 73] من خَارج وَقد وَافقه على إِفَادَة التَّأْبِيد ابْن عَطِيَّة وَقَالَ فِي قَوْله {لن تراني} [الْأَعْرَاف: 143] لَو بَقينَا على هَذَا النَّفْي لتضمن أَن موسي لَا يرَاهُ أبدا وَلَا فِي الْآخِرَة لَكِن ثَبت فِي الحَدِيث الْمُتَوَاتر (أَن أهل الْجنَّة يرونه) وَوَافَقَهُ على إِفَادَة التَّأْكِيد جمَاعَة مِنْهُم ابْن الخباز بل قَالَ بَعضهم إِن مَنعه مُكَابَرَة فَلِذَا اخترته دون التَّأْبِيد وَأغْرب عبد الْوَاحِد الزملكاني فَقَالَ فِي كِتَابه (التِّبْيَان فِي الْمعَانِي وَالْبَيَان) إِن (لن) لنفي مَا قرب وَلَا يَمْتَد معنى النَّفْي فِيهَا قَالَ وسر ذَلِك أَن الْأَلْفَاظ مشاكلة للمعاني (وَلَا) آخرهَا ألف وَالْألف يكون امتداد الصَّوْت بهَا بِخِلَاف النُّون وَنقل ذَلِك عَنهُ ابْن عُصْفُور وَأَبُو حَيَّان ورداه وَالْجُمْهُور على أَن الْفِعْل بعد (لن) لَا يخرج عَن كَونه خَبرا كحاله بعد سَائِر حُرُوف النَّفْي غير لَا ". انتهى من همع الهوامع في شرح جمع الجوامع - الإمام عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (ت 911هـ) (2 / 365 ، 366) .
(2) معجم القواعد العربية - أ/ عبد الغني بن علي الدقر (ت 1423هـ) (2 / 108) .
(3)  أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (ت 170هـ) إمام النحاة على الإطلاق ، وشيخ الكسائي (ت 189 هـ) وسيبويه (ت 180 هـ) ، عربي الأصل من أزْد عُمان. لغوي ومعجمي ومنشئ علم العروض وصاحب أول معجم عربي ، وهو "العين" .
قال ابن الوراق - (ت 381هـ). رحمه الله - :
"وَاعْلَم أَنه قد حكى الْخَلِيل - رَحمَه الله - أَن أصل (لن) : لَا أَن، وَلكنهَا حذفت، فَبَقيت (لن) تَخْفِيفًا، فَردُّوا ذَلِك عَلَيْهِ بِأَن قَالُوا: إِن مَا بعد (أَن) لَا يعْمل فِيمَا قبلهَا، وَلَو كَانَت (لن) على مَا زعم الْخَلِيل لم يجز: زيدا لن أضْرب، فَتقدم مَا بعد (لن) عَلَيْهَا.
وللخليل أَن ينْفَصل من هَذَا بِأَن يَقُول: وجدت الْحُرُوف مَتى ركبت خرجت عَمَّا كَانَت عَلَيْهِ، فَمن ذَلِك (هَل) أَصْلهَا الِاسْتِفْهَام، وَلَا يجوز أَن يعْمل مَا بعْدهَا فِيمَا قبلهَا، لَو قلت: زيدا هَل ضربت، لم يجز، فَإِذا زيد على (هَل) (لَا) ودخلها معنى التحضيض، جَازَ أَن يتَقَدَّم مَا بعْدهَا عَلَيْهَا، قَوْلك: زيدا هلا ضربت". انتهى . علل النحو - الإمام محمد بن عبد الله بن العباس ، أبو الحسن ، ابن الوراق (ت 381هـ).

(4) رواه مسلم (2922) (4 / 2239) .
(5) جزء من وصية أبي بكر الصديق - (ت 13 هـ) رضي الله عنه - لخالد بن الوليد - (ت 21 أو 22 هـ) رضي الله عنه - عند بعثه لحرب الردة . انظر "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" - الإمام أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر ابن خلكان البرمكي الإربلي (ت 681هـ) (3/ 67) .

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©