موضوع عشوائي

آخر المواضيع

تقاييد على كتاب الله المجيد - إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ- إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ...

بسم الله الرحمن الرحيم
((يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) ))
قال الإمام عبد القاهر الجُرجاني - رحمه الله 471 هـ - عن ابن الأنباريِّ أَنه قال: ركبَ الكنْديُّ المتفلسِف (1) إلى أبي العبّاس (2) وقال له: إني لأَجِدُ في كلامِ العَرب حَشْواً! فقال له أبو العباس: في أيِّ وضع وجَدْتَ ذلك؟ فقال: أَجدُ العربَ يقولون: "عبدُ الله قائمٌ"، ثم يقولون "إنَّ عبدَ الله قائمٌ"، ثم يقولونَ: "إنَّ عبدَ اللهَ لقائمٌ"، فالألفاظُ متكررةٌ والمعنى واحدٌ. فقال أبو العباس: بل المعاني مختلفةٌ لاختلافِ الألفاظِ، فقولُهم: "عبدُ الله قائمٌ"، إخبار عن قيامه وقولهم: "إن عبدَ الله قائمٌ"، جوابٌ عن سؤالِ سائلٍ وقوله: "إنَّ عبدَ اللهِ لقائمٌ"، جوابٌ عن إنكارِ مُنْكِرٍ قيامَهُ، فقد تَكرَرَّت الألفاظُ لتكرُّرِ المعاني. قال فما أَحَارَ المتفلسِفُ جواباً .
وإِذا كان الكنديُّ يذَهْبُ هذا عليهِ حتى يَرْكَبَ فيه ركُوبَ مستفهِمٍ أو معْترِضٍ، فما ظنُّكَ بالعامَّة ، ومَنْ هو في عِدادِ العامَّة ، ممَّنْ لا يَخْطُرُ شبْهُ هذا بباله؟ (3)
قلت :

والأول : "عبدُ اللهِ قائمٌ" يسمى أسلوبًا خبريا ابتدائيًا ، والثاني : "إن عبدَ اللهِ قائمٌ" يسمى أسلوبًا خبريًا طلبيًا ، والثالث : "إن عبدَ اللهِ لقائمٌ" يسمى أسلوبًا خبريًا إنكاريًا . ولعل المتدبر القرآنَ يدرك هذا في سورة يس : بسم الله الرحمن الرحيم ((يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ(3) )) ، ((وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) )) ، فكأن إنكار المشركين رسالةَ سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - استدعت الرد الإلهي بـ"إنَّ" للتوكيد مع اللام المزحلقة الداخلة على الخبر ، وسميت باللام المزحلقة ؛ لأنها في الأصل لام ابتداء للتوكيد ، فلما دخلت "إنَّ" وهي أشد توكيدًا من اللام زحلقتها إلى الخبر كما في الآية ، أو إلى الاسم - خلافًا للمشهور ، كما في قوله - تعالى - : " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ" (آل عمران 13) .
وما نقله الإمام الجُرجَاني ما هو إلا قطرة من بحور لغتنا الثرية ، والتي شرفنا الله - سبحانه - بأن أنزل القرآن الكريم بها ، وفي اللغة العربية من الفصاحة والبيان ما ليس في غيرها ؛ لذا خاطب الله بها العالمين ، قال - تعالى - :
((بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)) (الشعراء 195) ،
((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) (يوسف - صلى الله عليه وسلم - 2) 
((وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا)) (طه 113) 
((قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) (الزمر 28)
((كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) (فصلت 3)
((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)) (الشورى 7)
((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (الزخرف 3) ،
 وعلم القراءات القرآنية في غاية الثراء اللغوي والنحوي والتصريفي والبلاغي حتى إن النحوي اللبيب الذي يحب أن يحبب الناس في النحو يسلك بهم طريق الاستدلال بالقراءات القرآنية المتواترة والشاذة أحيانًا ليبين لهم سهولة النحو وجماله .
وإذا ذهبت تستقصي أوجه إعراب ألفاظ القرآن الكريم أو بلاغة آياته أو تصريف كلماته لأنفقت عمرك كله دَهِشًا دون بلوغ مطلوبك ، ((قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا)) (الكهف 109) ،
((وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (لقمان 27)  .
قال الإمام السيوطي - 911 هـ رحمه الله -  :
لزمته - أي شيخه محيي الدين الكافيَجِي - 879 هـ رحمه الله - أربع عشرة سنة ، فما جئته من مرة إلا وسمعت منه من التحقيقات والعجائب ما لم أسمعه من قبل ذلك ، قال لي يومًا : أعرب : "زيدٌ قائمٌ" فقلت : قد صرنا في مقام الصغار ، ونُسأل عن هذا ! فقال لي : في "زيدٌ قائمٌ" مائة وثلاثة عشر بحثًا ، فقلت : لا أقوم من هذا المجلس حتى أستفيدها ، فأخرج لي تَذْكِرَتَه فكتبتها منها . (4)   
قلت : هذا في "زيدٌ قائمٌ" فما بالك بكلام الله الدائم ؟!
ولله دَرُّ حافظٍ إذ يقول :

وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً ... وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة ٍ ... وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أنا البحر في أحشائه الدر كامن ... فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي (5)

نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا ويزيدنا علمًا ، والحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، والله أعلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الْكِنْدِيُّ (185 هـ- 256 هـ/805 - 873) علاّمة عربي مسلم، برع في الفلك والفلسفة والكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والموسيقى وعلم النفس والمنطق الذي كان يعرف بعلم الكلام، والمعروف عند الغرب باسم (باللاتينية: Alkindus)، ويعد الكندي أول الفلاسفة المتجولين المسلمين ، كما اشتهر بجهوده في تعريف العرب والمسلمين بالفلسفة اليونانية القديمة والهلنستية. (الموسوعة الحرة) .
(2)هو ثعلب كما صرح بذلك الجُرجاني ، وهو أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني بالولاء ، المعروف بثعلب (200 - 291 هـ = 816 - 914 م) إمام الكوفيين في النحو واللغة. كان راوية للشعر، محدثا، مشهورا بالحفظ وصدق اللهجة، ثقة حجة. ولد ومات في بغداد.وأصيب في أواخر أيامه بصمم فصدمته فرس فسقط في هوة، فتوفي على الأثر. من كتبه (الفصيح - ط) و (قواعد الشعر - ط) رسالة، و (شرح ديوان زهير - ط) و (شرح ديوان الأعشى - ط) و (مجالس ثعلب - ط) مجلدان، وسماه (المجالس) و (معاني القرآن) و (ما تلحن فيه العامة) و (معاني الشعر) و (الشواذ) و (إعراب القرآن) وغير ذلك .الأعلام للزِّرِكْلي (1/ 267).
وقيل هو أبو العباس محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالى الأزدي المعروف بالْمُبَرِّدِ (210 - 286 هـ = 826 - 899 م) إمام العربية ببغداد في زمنه، وأحد أئمة الأدب والأخبار. ولد بالبصرة ومات ببغداد . الأعلام للزِّرِكْلي (7/ 144)، وهو محتمل ، والصحيح الأول ، والله أعلم .
(3) دلائل الإعجاز (1/ 315) .
(4) بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة (1/ 118) .
(5) لمتابعة القصيدة كاملة : http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=13086

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©