موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة اخترت لكم 29 في الحب ___ ومن حَرَّمَ الكلام في الحب؟

       بسم الله الرحمن الرحيم
 (*) سلسلة اخترت لكم 29 (*)
في الحب


________________________



ومن حَرَّمَ الكلام في الحب؟

(والله الذي أمال الزهرة على الزهرة حتى تكون الثمرة، وعطف الحمامة على الحمامة حتى تنشأ البيضة، وأدنى الجبل من الجبل حتى يولد الوادي، ولوى الأرض في مسراها على الشمس حتى يتعاقب الليل والنهار، هو الذي ربط بالحب القلب بالقلب حتى يأتي الولد.

ولولا الحب ما التفَّ الغصن على الغصن في الغابة النائية، ولا عطف الظبي على الظبية في الكناس البعيد، ولا حنى الجبل على الرابية الوادعة، ولا أمد الينبوع الجدول الساعي نحو البحر.


ولولا الحب ما بكى الغمام لجدب الأرض، ولا ضحكت الأرض بزهر الربيع، ولا كانت الحياة
(1) ).



ما في الحب شيء ولا على المحبين سبيل، إنما السبيل على من ينسى في الحب دينه، أو يضيع خلقه، أو يهدم رجولته أو يشتري بلذَّة لحظة في الدنيا عذاب ألف سنة في جهنم ، أوَلم يؤلف ثلاثة من أعلام الإسلام ، ثلاثة كتب في



(1) (فقرة من قصة (ابن الحب) من كتابي (قصص من التاريخ)


الحب(1) ، وهم: صاحب الأعلام(2) ، ومصنف المُحلَّى (ابن حزم)، والإمام ابن الإمام.


ويا ليت الشبّان يعودون إلى الحب ، فتقلّ هذه الشرور ، ويخفّ هذا الفساد ،
ولكن أنّى يكون الحب مع كل هذه الشهوات المتسعّرة ؟


إنها إذا لم تُطمر الفحمة في بطن الأرض دهراً ، لا تصير ألماساً ،
وإذا لم تُدفن الشهوة في جوف القلب عمراً ، لا تكون حُبّاً ،
ولكن كيف أكتبُ عن الحب ؟
وهل تسع هذه المقالة حديث الحب ؟




(1) الزهرة لابن داوود الظاهري . وروضة المحبّين
لابن القيّم . طوق الحمامة لابن حزم . الأول طبع أوروبا ، والثاني طبع المكتبة العربية في دمشق ، والثالث طبع مكتبة عرفة في دمشق .

(2) أعلام الموقعين عن رب العالمين . وهو كتاب جليل فيه علم كثير ، وفيه شغب على المذاهب الفقهية المدروسة المحققة ، ومثله في ذلك المحلّى لابن حزم . ونحن لا نقول أن كل ما في المذاهب الأربعة معًا يجب اتباعه ، ولا تجوز مخالفته ، ولكن نقول ، إن من كان مقلدا على كل حال ، فأولى به أن يتبع مذهبا خُدم أكثر من ألف سنة من أن يتبع فقيها منفردًا برأيه أو يتبع محدِّثًا غير فقيه ، والحديث هو الأصل ، ولكن ليس كل محدث فقيها ، ولا كل صيدلي طبيبا ، ولا كل من وقف على نصوص القوانين ، يكون قاضيا أو محاميًا .
هذا وأنا أعلم أن الاثنين (ابن القيم وابن حزم) من أجل العلماء الذين ازدان بهم تاريخ الإسلام ، ولكن لكل عالم هفوة ، والعصمة للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته فيما ينعقد عليه (اجماع) مجتهديها .


هل يوضع القمر في كفّ غُلام ، هل يُصبّ البحر في كأس مُدام ؟ وأين لعمري الألفاظ التي أحمِّلها معاني الحب ؟
أين التعبير الذي يترجم عن العاطفة ؟ إنّ البشر لا يزالون أطفالاً ما تعلَّموا الكلام ، إنهم خُرس يتكلّمون بالإشارات ،
وما هذه اللغات البشرية إلاّ إشارات الخرسان ، وإلاّ فأين الألفاظ التي تصف ألوان الغروب ، ورجفات الأنغام ، وهواجس القلوب ؟
نقول للّون أحمر ، وفي صفحة الأفق عند المساء عشرات الألوان كلّها أحمر ، وما يشبه لون منها لوناً ،
وما عندنا لهذه (العشرات إلاّ هذا اللفظ الواحد) . ونقول للّحن رَصْد ، ولكن رجفة في صوت المغنّي ، أو مدّة أو غُنّة ، تجعل من الرَّصْد مئة رَصْد ، وما عندنا لهذه (المئة) إلّا اللفظ (الواحد) .

ونقول قصة (جميلة) ، ونغمة (جميلة) ، ومنظر (جميل) ، وطفل (جميل) ، ما عندنا إلاّ هذا اللفظ الواحد ، نكرِّره كالببغاوات ،
نعبِّر به عن ألف جمال ، ما منها جمال يشبه جمالاً ، وأين جمال القصة من جمال الوادي ، وجمال العمارة من جمال المرأة ؟
وجمال المرأة ... ؟ أهو لون واحد ، حتى نطلق عليه الوصف الواحد؟
لو حشدت مئة من أجمل الجميلات في مكان ، لرأيت مئة لون من ألوان الجمال تشعر بها ، ولكن لا تملك وصفها .. !
إنّ في الأرض اليوم أربعة مليارات من العيون البشرية نِصْفها في أوجه الأنثيات ، ونصف النصف تحت حواجب الغيد
الفاتنات ، وما فيها عينان هما في شكلهما ووحيهما ، وأثرهما في النفس ، كعينين أُخريين ، ثم إنّ لكلّ عين حالات
مختلفات لا يحصيها العد ، ولغات لو كان يدركها البشر ، لكان لكلّ عين قاموس يترجم عنها ، كالقاموس المحيط ،
وما عندنا لهذا كلّه ، إلاّ هذا اللّفظ الواحد : جميل ، جميل ، نكرّره ونعيده ...

وكذلك الحبّ .
الحبّ عالم من العواطف ، ودنيا من الشعور ، فيها كل عجيب وغريب ، وليس لنا إليه إلاّ هذه الكوَّة الضيّقة ،
الكلمة القصيرة ذات الحرفين : الحاء والباء ،

الحاء التي تمثّل الحنان ، والباء التي تجعل الفم وهو ينطق بها ، كأنه مُتهيّئ لِقبلة كلمة ( الحبّ ) . ولكن ، كم بين حبّ وحبّ ؟
بين ( حب ) التلميذ مدرسته ، و( حب ) الوالد ولده ، و( حب ) الصديق صديقه ، و( حب ) أكلة من الأكلات ،
و( حب ) منظر من مناظر الطبيعة ، و( حب ) كتاب من الكتب ... وبين ( حب ) المجنون ليلاه ؟
وحب العاشقين أنواع وأنواع .

ففي أيّ الحب أتحدّث ؟ وكيف أجمع أطراف الكلام حتى أحشره في هذه الصفحات ، ولو لبثت شهراً أكتب كل يوم فصلاً ما أتيت على ما في نفسي ولما وفيت حقّه الموضوع ؟

ولكنني مع ذلك سأحاول .
أحاول أن أكتب في الحب ، وقد تقَضَّى الصبا ، وتولّى الشباب ، وما كان يوماً يملأ القلب .. صار ذكرى لا تكاد تخطر على البال .

لقد كنت إذ أكتب في الحب ، أغرف من معين في نفسي يتدفّق ، فجفّ النبع حتى ما يبضُّ بقطرة ،
وخلا الفؤاد من ألم الهجر ، وأمل الوصال ، وبطل سحر الغيد ، وطَمَست شمسُ الحقيقة سُرُجَ الأباطيل ؟
ولو أني بُليتُ بحبٍ جديد ، لأعاد لي الحب أيامي التي مضت .. والحب يصنع المعجزة التي تتقطّع دونها آمال البشر .
يُعيد للمحبّ ماضيات الأيام ، ويرجع له خوالي الليالي ، ويردّ الكهل فتى ، والفتى طفلاً ، وأين منِّي الحب ؟ لم يعد ينقصني بعد السن والتجربة إلاّ أن يتعبّدني الحب .. وأن أعود إلى تلك الحماقات !

أعوذ بالله .. من الجنون بعد العقل .
كلا ، ما أنا من دَدٍ
(1) ، ولا دَدٌ مني ، فاتركوني أيها العشَّاق ، اتركوني فقد أنستني الأيام كيف يكون الغرام .
وماذا يبتغي (العشَّاق) منِّي وقد جاوزت حدَّ الأربعين ؟
ولكن هل تركني العشَّاق ؟ هذي كتبهم بين يدي ، يستنجزون بها الوعد ، ويطلبون منّي أن أكتب لهم في الحب ،
كأننا لسنا في حرب مع اليهود ، وليس في الدنيا غلاء وبلاء ، ولا مفاسد ولا عيوب ، ما بقي علينا إلاّ الكلام في الحب ؟




(1) الدَّدُ : اللهو واللعب .

ومتى كان المحبّون يحفلون في الدنيا ، بغير المحبوب ؟ لا يعرف المحبّ إلاّ ليلاه ، يَحيَا لها ، ويموت فيها ، أكبر همّه
من العيش أن تَعطف عليه بنظرة ، أو تجود له ببسمة ، أو أن تمسّ بيدها يده فتمشي في أعصابه مثل هِزّة الكهرباء ،
ويسكر منها بلا دنٍّ ولا قدح ، ويطرب بلا حَنْجَرة ولا وتر ، وغاية أمانيه من الدنيا أن يلقي برأسه على صدرها ،
أو يجمع فاهُ إلى فَيْها ، في ذهلة لذّة عميقة تحمله إلى عالم مسحور ، يجتمع فيه الزمان كلّه ، وتختصر فيه الأمكنة جميعاً
، فتكون هذه اللحظة هي الأزل وهي الأبد ، وهي الماضي وهي المستقبل ، ويكون المحبّان هما وحدهما الناس ...

أولئك هم العاشقون .
وأولئك هم ( عند أنفسهم ) أرباب القلوب ، وهل يكون ذا قلب من لم يلامس قلبه الحب ؟
وأولئك هم أولو الأبصار ، وهل تبصر عين جمال الوجود إن لم تفتحها يد الهوى ؟
وأولئك هم المعذَّبون الصابرون ، يعيشون فلا يدري بآلامهم أحد ، ويموتون فلا يُقام لِشهيدهم قبر ،
لا يهدأون ولا يهنأون .. إن اشتهى الناس المسرّة استمتعوا هم بالآلام ، وإن اطمأنّ الناس إلى الحقائق طاروا هم وراء
الأوهام ، وإن أنِسوا بالضحك استراحوا هم إلى البكاء ، يبكون في الفراق من لوعة الإشتياق ، ويبكون في الوصال من
خوف الفراق ، ! يريدون أن يطفئوا بالدمع حُرقَ القلب ، وما يزيدها الدمع إلاّ شِرَّة وضراماً .
يبكون لأنهم يطلبون ما لا يكون ، فلا يصلون إليه أبداً .
يترك العاشق النساء جميعاً ، ويهتم بها وحدها ، فهو يريد أن تترك الرجال وتنظر إليه وحده ، وأن تدع لأجله الدنيا وما
فيها ، وتغمض عينيها فلا ترى فيها غيره ، وتوصد أذنيها فلا تصغي إلى سواه ، فهو يغار عليها من القريب والبعيد ،
ومن أمها ومن أبيها ، ومن الشمس أن تبصرها عين الشمس ، ومن الكأس أن تُقَبِّل ثغرها شفة الكأس .
ماذا يريد العاشقون ؟


سلوا الشعراء يحلفوا لكم إنهم لا يطلبون إلا نظرة تروي الغليل ، وبسمة تطفي الجوى ، وأن يندمج بها ، ويفنى فيها ، فهو يعانقها ( والنفس بعد مشوقة ) إليها ، ويضمها وهو يحس أنه لا يزال بعيداً عنها ، وهو لو استطاع لعصَرها مصـَّاً ولأكلها عضـَّـاً ...

يمضي عمره بعيداً عنها خالياً قلبه من حبّها ، لا يدري بوجودها ، ثم يراها مرة واحدة ، ينظر إليها نظرة ، فيحسب أنه قد عرفها من الأزل ، وأنه لم يفارقها ساعة ، ويقسم أنها ما خـُلقت إلا له ، ولم يُخلق إلا لها ، ولا يعيش إلا لها وبها ..
فهما روح في جسدين
(1) ، هي هو ، وهو هي ، ينظر بعينيها ويسمع بأذنيها




(1) وهذا ما أراده بقوله :
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
ولكن قصرت به العبارة .

ويجوع ببطنها ، فإن أكلـَت شبع ، وإن شربت روي ، وإن سُرَّت ضحك ، وإن تألـَّمت بكى ، وإن أصابها الصداع وجعه رأسه ...
يطرب وهو بعيد عنها إن سمعت نغماً عذباً ، ويبتسم وهو في أعماق منامه إن رأت في منامها حلماً حلواً .


يتَّبع هواها على القرب والبُعد ، ويُؤثِر رضاها في الغيبة والحضور ، ويطيعها إطاعة لو أن العباد أطاعوا ربهم مثلها لأقفرت من أهلها جهنم . يسهر الليل كله يتقلـَّب على فراش السهد من الشوق إليها ، والخوف منها ، والطمع فيها ، ويُعد الكلام الطويل ليقوله لها ، فإذا لقيها نسي ما كان أعدّه من هيبتها .

إن تكلـَّـم لم ينطق بغير حديثها ، وإن سكت لا يفكر إلا فيها ، قد جهل كل طريق كان يعرفه إلا طريقها ، فما يمشي إلا توجَّـه إليها ، يحوم حولها علـَّه يرى البيت الذي تسكنه ، أو ينشق الهواء الذي تنشقه ، ينام الناس ويسهر ليله ، يساير النجوم في مسالكها ، ويعد الدقائق في مجراها ، لا يرى حيثما نظر غيرها ، ولا يبصر سواها ، يراها بين سطور الكتاب إن نظر في صفحات الكتاب ، وفي وجه البدر إن رنا طلعة البدر ، وبين النجوم إن قلب نظره في النجوم ، يراها في كل شيء تفتح عليه العيون ، فإن أغمضها رأى طيفها في ثنايا الأحلام ..

يذكّره بها وميض الزهر في الروض ، وحديث الساقية للسفح ، والحمامة تسجع على الغصن ، والمغنـّي يصدح في هدأة الليل بـ ( يا ليل ) فيصغي طرباً إليه الليل ، ولفتة الجدول عند الرابية ، وفتنة الوادي عند الجزع ، والدرب الحالم تحت فروع الدلب ، والصفصاف على كتف النهر ، والشلال الهادر في الليل الداجي ، والتلال الخضراء اللابسة جلابيب الصنوبر ، والجبل الأجرد المتوّج بعمامة من الصخر ...


إن هبّ النسيم من نحو أرضها شجته النسائم ، أو جرى السيل من جهتها أجرت دموعه السيول ، أو طلع الكوكب من أفقها أهاجت أشواقه الكواكب ، أو رأى طيراً تمنى لو استعار ( ليزورها ) أجنحة الطير .

يحب لأجلها كل ما كان منها وما اتصل بها ، الرضاب الذي تنفر منه النفوس إن كان رضابها فهو خمر ، وريح العرق الذي تأنف منه الطباع إن كانت ريحها فهو عطر ، والألم إن جاء منها كان لذة ، والذم إن جرى على لسانها كان ثناء ، والظلم إن وقع منها أشهى إلى قلبه من نيل الحقوق من أيدي الغاصبين ، والأهل أهلها أحباؤه وأصدقاؤه ، ولو عدَوا عليه ، وأساؤوا إليه .

يرضى منها بالقليل الذي لا يرضي ، إن بسمت له بسمة فكأن قد بسم له الدهر ، وواتته الأماني ، وإن كلَّمته كلمة فكأن قد صبَّت في روحه الحياة ، وإن وعدته بقبلة عاش دهره يذكر الوعد ويتعلّل بذكراه.


يعاف لحبها طعامه وشرابه ، ويهجر راحته ومنامه ، والمجد يزهد فيه ولا يباليه ، والدين يتركه ، والمال لا يفكر فيه ، وإن هو ابتغى المعالي يوماً فإنما يبتغيها ليسرّها ويرضيها ، وإن نظم أو كتب فلها وحدها ، يقرؤها عليها وإن كانت لا تدركه ولا تفهمه ، ولا تستطيع أن ترقى إلى سمائه ، وإن أغار في الحرب فلِينال إعجابها ، وإن طلب العظائم فليعظم في عينها ، إن سعد الناس بالغنى والجاه لم يسعده إلا لقاؤها ، وإن حرص العقلاء على رضا الله لم يحرص إلا على رضاها ، وإن افتخروا بالصحة والقوة ؛ فخر بالمرض والضعف والهزال ، يرى القصر إن خلا منها سجناً ، والسجن إن كان معها قصراً ، والقفر إن كانت فيه روضة ، والروضة إن فارقتها قفراً ، واليوم إن واصلته لحظة ، واللحظة إن هجرته دهراً ، يرى الشمس من هجرها سوداء مظلمة ، والليل البهيم من وصالها شمساً مشرقة .

تؤرقه ويرجو لها طيب المنام ، وتـُسقمه ويسأل لها البُعد عن الأسقام ، يعتذر من ذنبها وهي المذنبة ، ويبكي من حبها وهو القتيل، فهي شفاؤه وهي دواؤه ، وهي نعيمه وهي شقاؤه ، وهي جنته وهي ناره ، يطلب أن تلتقي الروحان ويتوحّد الاثنان ، وهذا ما لا يكون أبداً ، لذلك يترك حاضره ويحن إلى الماضي ، يعود بالذكرى إليه ، يفتش في زواياه عن هذه الأمنية ، أو يتطلع إلى المستقبل ، يستشف بالخيال ما فيه ، فلا يرجع له ماضٍ ، ولا ينجلي له آتٍ ولا يثبت له حاضر .

وهذا أبداً دأب العاشقين ، إنهم يئسوا من أن يساعدهم الناس على بلواهم ، فتركوا دنيا الناس وعاشوا وحدهم في دنياهم ، هاموا على وجوههم يبحثون عن قطع قلوبهم التي خلـّفوها في مدارج الهوى ، وملاعب الصبا ، وتحت الأطلال ، يسائلون الحفر والحجارة ، ويناجون الأحلام والأوهام .

يقول العاذلون : انسَ ليلاك ، ففي الأرض ليلات كـُثر ، واستبدِل بها ...
وما يدري العاذلون ماذا يلاقي ، لا ، ولا نظروا إلى ليلى بعينيه ، ولا شعروا بها بقلبه ...

فيا رحمتا للعاشقين مما تقول العواذل ....
* * *

هذا هو الحب عند الأدباء ، فما الحب عند النفسيين ؟
أنا أقول لكم ما الحب عند النفسيين .
لا يرى النفسي في الحب ، إلاّ رغبة في متاع الجسد ، قابلها امتناع وإباء فاشتدّت وامتدّت ، وكانت بين الرغبة والإمتناع شرارة ، كالتي تكون بين سلكتي الكهرباء ، وهذه الشرارة هي الحب ، ما الحبُّ إلاّ شهوة لم تُقضَ ورغبة لم تتحقق ، وكل ما يقول المحبّون العذريون وهم وضلال ، يقولون إنهم لا يطلبون إلاّ المجالسة والكلام ، ولو كانت مجالسة وكلام ، لطلبوا لمسة اليد وقبلة الخد ، ولو كانتا ، لطلبوا العناق والضمّ ، ورشفة الفم ، كصاعِد الجبل ، يرى الذروة أمامه فيحسبها القمّة التي لا شيء فوقها ، فإذا بلغها تكشّفت له ذروة أعلى ، إنها سلسلة لها حلقات متّصلات ، ما أمسكت بواحدة منها إلاّ جرّت معها التي بعدها ، حتى تصل إلى آخر حلقة فيها :
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
. . . فالمحكمة الشرعية لِعقد العقد ، أو محكمة الجنايات لتلقّي العقوبة ، هذه هي سُنّة الله ، ما جعل الله طريقاً للصداقة بين الشاب القويّ والصبيّة الحسناء ، لا ، ولا بين الكهل والشوهاء ، لا صداقة قط بين رجل وامرأة ، ما بينهما إلاّ الحب المفضي إلى الإجتماع ، إنّ الصداقة صلة بين متشابهين ، بين الرجل والرجل ، وبين المرأة والمرأة ، والحب صلة بين مختلفين ليتكاملا به فيغدوَا بالحب كالكائن الواحد .
فإن لم تكن رغبة يقابلها امتناع لم يكن حب ، والمرأة التي تمنح جسدها كل طالب ،
تكون مطلوبة وتكون مرغوباً فيها ، لِلَّذّة العابرة والمتعة السائرة ، ولكنها لا تكون محبوبة أبداً !
والحب إن حَلَّلْته إلى عناصره ، كما يفعل الكيميائيون بالجسم المركَّب وجدته يرجع إلى ( غريزة الإستطلاع ) وإلى ( غريزة التغلُّب )، وهما من أصول الغرائز الإنسانية ، وقد تعرف عشرات من النساء ، ثم تلمح في الترام فتاة تجلس أمامك يلوح بياض فخذيها من تحت ذيلها ، فتحاول أن تعرف ماذا هناك ؟! ، وترى الممثلة في الفيلم بلباس البحر وتُبَّـانه
(1) المشدود على فخذيها ، فلا يثيرك تبَّانها ، ما تثيرك خرقة مهدلة ممزّقة ، قد لفَّتها عليها تهتزّ مع الريح ، ولو لم تظهر منها أكثر ممّا يُظهر التبّان ، ! والفتاة التي




(1) التّبان : المايوه .

تصعد المسرح عارية لا تصنع بأحد مثلما صنعت ( ريتا هوارث ) لمّا صعدت بثيابها كلّها ، ثم ما زالت تلقيها عنها قطعة قطعة ، وتُكوِّمها عند قدميها ، حتى بدت كالعارية ... ومن هنا كانت الثياب من أسباب الأنوثة ، ودواعي الإغراء ، ولو أنّ الناسكانوا كالحمير عراة دائماً ، لَما بقي من هذه ( الرغبة الجنسية ) واحد من كل مئة ، ولقد قرأت مرة نكتة في مجلة ، ولكنها كانت حقّاً وصِدقاً ، أنَّ تلميذاً في مدرسة الفنون الجميلة في مصر ، كانت المدرسة تأتي بالصبايا العاريات تماماً لِيصوِّرهن التلاميذ ، إنّ هذا التلميذ قال لرفيقه :
أما ترى جمال هذه الفتاة ؟ قال : أراه .. فقال التلميذ له : فكيف لو رأيتها لابسة ثيابها ؟!
أمّا كون الحب غريزة تغلّب ، فظاهر من أحوال الناس ، والنفس تكون متعتها باللقاء الجنسي أكبر ، كلّما كانت العوائق أكثر ، والطريق أبعد وأصعب ، ومن أجل هذا ترون أناساً يتركون زوجات لهم كالبدور ، يتبعون نساء كالقردة ، ما يستمتعون بالجمال وحده ، بل بالوصول بعد العناء والظفر بعد النضال ، وأنتم تعرفون قصة النّوّار مع زوجها الفاسق الفرزدق الشاعر ، وقوله لها : أنتِ أجمل ولكنّ الحرام ألذّ من الحلال !

ويسخر النفسيّون من رجل يتوسَّل إلى المرأة التي يحبُّها بالأرق والسُّهاد والضعف والنحول ، والهزال المميت ، والسلّ الرئوي ... وبأنه شبح يمشي وخيال يتحرّك ، فماذا تصنع المحبوبة بهذا ( البلاء ...) ؟
إنَّ المرأة تريد في العاشق رجلاً ، متين البناء ، قويّ الجسد ، مفتول العضل ، يسند ضعفها بقوَّته ، ويتمّ أنوثتها برجولته ، لا تريد ميتاً ( إن توكَّأت عليه انهدم ) .
فإن كان ( شعراء النحول ) هؤلاء ، صادقين بهذا الهذر الذي ملأوا به نسيبهم ، وحشوا به أشعارهم ، فَليفتِّشوا لهم عن ( ممرّضات ) ، لا عن ( حبيبات ) !

ولا يُصدّق النفسيّون أوصاف الشعراء المحبِّين ، إنّ المُحبَّ عندهم لايرى الفتاة على حقيقتها ، ولكنه يُلبسها من حُبِّه ثوباً يراها فيه أجمل الناس ، ولا يُصدِّقون دعوى الحب من النظرة الأولى ، إنّ النظرة الأولى تنشئ ( الحسّ بالجمال ) لا الحب ، وقد وصف ( وليم جيمس ) هذا الحسّ بأنه هزّة في الأعصاب يعقبها خدر سريع ، فإذا أحسستَ جمال فتاة قد طلعت عليك من الطريق فَصَبَرت عنها نفسك ، وغضضتَ بصرك ، وثَبَتَّ لحظة واحدة حتى تمرّ بك وتمضي عنك ، واشتغلتَ عنها بغيرها ، نَسيتَها ، وإن كررت النظر إليها (1) أو تبعتها لِتعرف مقرّها ، ولد حبّكَ إيّاها ، أي رغبتك في ( الإجتماع ... ) بها !.
والحب عاطفة عابرة ، تدوم ما دامت الرغبة والإمتناع ، فإن زال أحدهما زالت ، فإن كان ( اللقاء ) لم يبق حب ، لأنه يختنق تحت اللحاف ، ومن هنا يستبين لك أنَّ الزواج إن بُنيَ على الحب



وفي الحديث : ( لكَ النظرة الأولى ، أي التي تلقيها عرضاً بلا تعمُّد ولا قصد ، وعليك الثانية ، أي المعتمدة المقصودة .



وحده ، لم يكن فيه خير ، ولو أنّ المجنون تزوّجَ ليلى ، زواج عاطفة فقط بلا مراعاة مصلحة ، ولا نظر في كفاءة ،
لكان بينهما بعد ثلاث سنين ( دعوة تفريق ) !

* * *
فإذا جئت علماء الحياة ، وجدت للحب عندهم ، منزلة أدنى ، ورتبة أخسّ ، الحب عندهم غريزة جعلها الله في نفس الإنسان لئلا ينقرض ويَمَّحي ، فالجوع منبّه له ليأكل فيبقى شخصه ، والحب ( أو الرغبة ...) منبّه له ليعمل على ما يُبقي نوعه ، أو هو شيء (أبسط)(1) من ذلك وأحقر . تمتلئ المثانة فيذهب المرء ليبول ، وتمتلئ الحويصلة بالسائل الآخر ، فيذهب لــ ( يعمل ) !
لا فرق في ذلك بين المجنون وليلى ، وبول وفرجيني ، وبين الحمار والأتان ، والديك والدجاجة ، وبين تلاقح الزهر والورد ، وسواء بعد ذلك كل ( إناء ... ) يُلقى فيه هذا الماء !

(عملية) غير جراحية ، ولكنها عملية قذرة بشعة ، ولا بدَّ في (العمليات) من (بنج) ، والبنج هنا ، البنج الذي يُذهب الحسّ ، ويُضيِّع العقل ، هو هذا ( الحب ) أو هذه ( الرغبة ) ، لولا ذلك ما قبل عاقل أن يعمل ذلك العمل ! هل يقبل عاقل أن يُدخل إصبعه في أنف المحبوبة ؟! إنّ ذلك الفعل أبشع وأشنع ، ولكننا نفكِّر فيه ونحن ( تحت البنج ) ! فلا ندرك بشاعته .




(1) البسيط في اللغة : الواسع . وقد اضطررت لاستعمال الكلمة بالمعنى العاميّ .
والمقصود هو بقاء النسل ، وكلّما عَلا الحيّ منزلة ، قلَّ اللقاء ، وطال الحمل ،الديك والدجاجة يجتمعان كل يوم ، لأنَّ مدة الحمل بالبيضة ليلة ، أما الهرّ والهرّة فيجتمعان مرّة في السنة أو مرّتين ، لأنَّ الهرّة تَلِد مرّة في السنة أو مرّتين ، ولولا المغريات في الناس ، لكفى بين نوعي البشر اجتماع مرّةً في العام .
والحبّ العذري ، أي الحب الشريف الذي ليس فيه مطلب جنسي هو في نظر العِلم كذبة حمراء ، وفَريّة ليس لها أصل ، وإنما هما غريزتان ، حفظ الذات بالطعام ، وحفظ الجنس بالإتصال ، فهل تُصدِّق الجائع إذا حلفَ لك أنه لا يريد من المائدة الملوكيّة(1) إلا أن ينظر إليها ، ويشمّ على البعد ريح طعامها .. ؟!
كلا ؛ كلّ حبّ مصيره إلى النكاح أو السفاح .
* * *

هذا هو الحبّ ، فَصَدِّق ما يقوله المحبُّون ، أو صَدّق ما يقوله المفَكِّرون العالِمون ، هو عند الأدباء والشعراء ، و عند المحبّين والعشّاق، سلطانٌ عَنَت له القلوب ، وذُلَّت له الملوك ، فباعوا في سبيله التيجان ، من لدن أنطونيوس و كليوباترة ، إلى إدوار و سمبسون .



(1) القياس ملكي ، ولكن البلغاء قالوا (ملوكي) . كما قالوا رسائل إخوانية وغيرها ، والجمع إذا أجري مجرى العلم جازت النسبة إليه . كما قالوا : عالم أصولي ورجل شعوبي .


والمحبوبة عندهم هي الدنيا ، دينهم التوحيد في الحبّ ،
لكلَّ شاعرٍ عاشقٍ ( واحدةٌ ) وقف عليها قلبه ، وأدارَ عليها شِعره ، وقرنَ نفسه حياته(1) بها ، فقرنَ التاريخ اسمه بعد موته باسمها ، فلا تُعرف إلاّ به ، ولا يُعرف إلاّ بها ، قيس وليلى ، وقيس ولُبنى ، وجميل وبثينة ، وكُثيِّر وعزّة ، وعروة وعفراء ، وذو الرمّة وميّ ، وتوبة والأخيلية ، والعباس وفوز ، وعنتر وعبلة ، وبول وفرجيني ، وروميو وجولييت ، فكان رباطاً لم تقدر على حلّه يد الزمان .
وهو عند النفسيّين والطبيعيّين ، ما قد رأيت وسمعت ، وهو الحق ، لا ما يقول العاشقون .
والحبّ بعد ذلك كلّه سرّ الحياة ، وروح الوجود .




(1) أي مدة حياته .
أديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله ، صور وخواطر - في الحب (ص 279 : 295) .

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©