موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة اخترت لكم 6 يا ابني

(*) بسم الله الرحمن الرحيم (*)
(*) سلسلة اخترت لكم 6 (*)


يا ابني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت سنة ١٩٥٥ م

(إلي السيد ((م. أ)) من ((الإسماعيلية)) بمصر الذي كتب إلي واستحلفني أن أقرأ كتابه، وأن أرد عليه )

لماذا تكتب إليَّ على تردد واستحياء؟ أتحسب أنك أنت وحدك الذي يحس هذه الوقدة في أعصابه من ضَرَم الشهوة ، وأنك أنت وحدك الذي اختص بها دون الناس أجمعين ؟

لا يا ابني ، هوِّن عليك، فليس الذي تشكو داءك وحدك ، ولكنه ( داء الشباب ) ، وقد كتبت فيه قديماً وحديثاً، ولولا أني لا أحب الحديث المعاد، ولا أقتني (مع الأسف) إلا الأقل من مقالاتي القديمة لنقلتها إليك، أو لأحلتك عليها . ولئن أرقك هذا الذي تجد وأنت في السابعة عشرة، فلطالما أرق كثيرين غيرك ، صغاراً وكباراً ، ولطالما نفى عن عيونهم لذيذ الكرى ، ولطالما صرف عن درسه التلميذ ، وعن عمله العامل ، وعن تجارته التاجر ، وما الحب الذي افتنَّ في وصفه الشعراء ، وفي تحليله الأدباء ، إلا ما تجده أنت سواء بسواء ، ولكنك أخذته مجرداً مكشوفاً ، فعرفه الناس فلم يخدعوا عنه ، وأخذوه فلفوه بمثل الورق (الشكلاطة) ليخدعوا عن حقيقته الناس . وشربت بفيك من الينبوع ، وشربوا بالكأس المذهبة الحواشي . والماء في كأس أبي نواس التي أقام في قراراتها كسرى ، كالماء في الساقية، والشهوة في رسالتك إليَّ كالشهوة في غزل الشعراء ، وشعر الغزليين ، ولوحات المصورين ، وألحان المغنين ، ولكن الضمير ها هنا بارز ظاهر ، والضمير هنالك مستتر خفي ، وشر الداء ما خفي واستتر !

إنه ما أشرف على مثل سنك أحد إلا توقد في نفسه شيء كان خامداً ، فأحس حرَّه في أعصابه، وتبدلت في عينه الدنيا غير الدنيا ، والناس غير الناس ، فلم يعد يرى المرأة على حقيقتها إنساناً من لحم ودم ، له ما للإنسان من المزايا ، وفيه ما فيه من العيوب ، ولكن أملاً فيه تجتمع الآمال كلها ، وأمنية فيها تلتقي الأماني ، ويلبسها من خيال غريزته ثوباً يخفي عيوبها ويستر نقائصها ، ويبرزها تمثالاً للخير المحض والجمال الكامل ، ويعمل منها ما يعمل الوثني من الحجر : ينحته بيده صنماً ، ثم يعبده بطوعه رباً ! إن الصنم للوثني رب من حجر ، والمرأة للعاشق وثن من خيال!

كل هذا طبيعي (1) معقول ، ولكن الذي لا يكون أبداً طبيعياً ولا معقولاً ، أن يحس الفتى بهذا كله في سن خمس عشرة ، أو ست عشرة سنة ، ثم يضطره أسلوب التعليم إلى البقاء في المدرسة إلى سن العشرين أو خمس وعشرين.


(1) (طبيعي هي الدائرة على أقلام البلفاء من القدم ، وإن كان القياس طبعي ) .
فماذا يصنع في هذه السنوات ، وهي أشد سني العمر اضطرام شهوة ، واضطراب جسد ، وهياجاً وغلياناً ؟

ماذا يصنع ؟

هذه هي المشكلة !

أما سنة الله ، وطبيعة النفس ، فتقول له : تزوج.

وأما أوضاع المجتمع وأساليب التعليم فتقول له: اختر إحدى ثلاث كلها شر ، ولكن إياك أن تفكر في الرابعة التي هي وحدها الخير ، وهي الزواج …

إما أن تنطوي على نفسك ، على أوهام غريزتك وأحلام شهوتك ، تدأب على التفكير فيها ، وتغذيها بالروايات الداعرة ، ( والأفلام ) الفاجرة ، والصور العاهرة ، حتى تملأ وحدها نفسك ، وتستأثر بسمعك وبصرك ، فلا ترى حيثما نظرت إلا صور الغيد الفواتن ، تراهن في كتاب الجغرافيا إن فتحته ، وفي طلعة البدر إن لمحته ، وفي حمرة الشفق ، وفي سواد الليل ، وفي أحلام اليقظة ، وفي رؤى المنام.

أريد لأنسى ذكرها ...... فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل

ثم لا تنتهي بك الحال إلا إلى الهوس أو الجنون أو انهيار الأعصاب .

وإما أن تعمد إلى ما يسمونه اليوم العادة السرية ( الاستمناء ) ، وقد كان يسمى قديما غير هذا ، وقد تكلم في حكمه الفقهاء ، وقال فيه الشعراء ، وكان له في كتب الآداب باب لا أحب أن أدل عليه أو أرشد إليه ، وهو إن كان أقل الثلاثة شراً ، وأخفها ضراً (1) ؛ ولكنه إن جاوز حده وكثر استعماله ركب النفس بالهم ، والجسم بالسقم ، وجعل صاحبه الشاب محطماً ، كئيباً ، مستوحشاً ، يفر من الناس ، ويجبن عن لقائهم ، ويخاف الحياة ويهرب من تبعاتها ، وهذا حكم على المرء بالموت وهو في رباط الحياة .

(1) لست أدعو إليه ولكن أقرر حقيقة قررها كثير من كبار الأطباء و وافقوا فيها رأي الفقهاء من الحنفية في الجملة .

وإما أن تغرف من حمأة اللذة المحرمة ، وتسلك سبل الضلال ، وتؤم بيوت الفحش ، تبذل صحتك وشبابك ومستقبلك ودينك في لذة عارضة ومتعة عابرة ، فإذا أنت قد خسرت الشهادة التي تسعى إليها ، و ( الوظيفة ) التي تحرص عليها ، والعلم الذي أملت فيه ، ولم يبق لك من قوتك وفتوتك ما تضرب به في لج العمل الحرّ .

ولا تحسب بعد انك تشبع ، كلا ، إنك كلما واصلت واحدة زادك الوصال نهماً ، كشارب الماء الملح ( أي المالح ) لا يزداد شرباً إلا ازداد عطشاً ، ولو أنك عرفت آلافاً منهن ثم رأيت أخرى متمنعة عليك ، معرضة عنك ، لرغبت فيها وحدها ، وأحسست من الألم لفقدها مثل الذي يحسه من لم يعرف امرأة قط ، و هاك فاروق –الملك- مثلا !.

وهبك وجدت منهن كل ما طلبت ، ووسعك السلطان والمال ، فهل يسعك الجسد ؟ وهل تقوى الصحة على حمل مطالب الشهوة ؟ دون ذلك وتنهار أقوى الأجساد . وكم من رجال كانوا أعاجيب في القوة وكانوا أبطالا في الربع ( أي رفع الأثقال وصاحبه الرباع ) والصرع والرمي والسبق ، ما هي إلا أن استجابوا إلى شهواتهم ، وانقادوا إلى غرائزهم ، حتى أمسوا حطاماً

عن من عجائب حكمة الله انه جعل مع الفضيلة ثوابها : الصحة والنشاط ، وجعل مع الرذيلة عقابها : الانحطاط والمرض ، ولرب رجل ما جاوز الثلاثين يبدو مما جار على نفسه كابن ستين ، وابن ستين يبدو من العفاف كشاب في الثلاثين ، ومن أمثال الإفرنج التي سمعناها وهي حق وصدق : من حفظ شبابه حفظ له شيخوخته .


ولو ترك الرجل لغريزته، ولم تكن هذه المغريات من الصور والروايات والأفلام ، وتكشف النساء وشيوع الفاحشة ، لما هاجت به الغريزة إلا مرة أو مرتين في الشهر والشهرين ، لأن من القواعد الثابتة في العلم أنه كلما ارتقى الحيوان - والإنسان هنا حيوان - في سلم التطور ، قل عنده السفاد وطال الحمل ، فالديك والدجاجة يتسافدان كل يوم لأن مدة الحمل ( بالبيضة ) يوم واحد، أما القط ) وهو من ذوات الأثداء ) فيسافد القطة مرة أو مرتين في السنة لأن حملها مرة في السنة أو مرتين. وأظن أن الإنسان أرقى من القط ، فلماذا يكون للقط موسم واحد ، هو عندنا شباط ( فبراير ) وتكون شهور السنة كلها شباط عند بعض الناس ؟ لهذه المغريات!

فالبلاء كله من هذه المغريات ، من دعاة الشر ورسل إبليس ، الذين يزينون للمرأة التكشف والتبرج و الاختلاط باسم المدنية والتقدمية والنهضة النسائية ، وما يعنون بالمرأة إلا كعناية الجزار بالنعجة : يطعمها ويدفع عنها ويحميها ويسمنها ، ولكن للذبح

والذين دأبوا على نشر صور العاريات في مجلاتهم من الممثلات الأجنبيات أولاً ، ثم من بنات المدارس بدعوى الرياضة ، ونساء السواحل بحجة الاصطياف ، وعملوا على ذلك الدهر الطويل ، على خطة مرسومة ، وسبيل معينة ، صابرين محتسبين لوجه إبليس، ولولاهم ولولا مجلاتهم ولولا تلك الروايات من قبل و هاتيك الأفلام من بعد ، ولولا الذين تخرجوا بمدرسة الضلال ، ثم ولوا - مع الأسف - أمر أبنائنا وبناتنا في مدارسنا ، ما رأينا ولا توهمنا أننا سنرى يوماً ، بنات المسلمين يكشفن عن سيقانهن وأفخاذهن ، للعبة بكرة السلة ، أو لعرض في حفلة الرياضة ، أو لاصطياف على الساحل ، ولو بعث قاسم أمين ومن شايعه على دعوته ، من رؤوس الفتنة ، ورأوا إلام انتهت إليه المرأة بدعوتهم - التي أرادوا بها غير هذا - لأخذتهم الصعقة .

وأؤكد لك أن ( ذلك الأمر ) في حقيقته أتفه وأهون مما تظن ، وأن الحديث عنه أعظم منه، ووصفه أكبر أثرا في النفس من فعله ، ولولا هذا الفن : فن الشعر والقصة والتصوير والغناء ، ولولا هذا الذي يجمل المرأة ، ويحسن الحب ، لما رأيت لتلك ( الصلة الجسمية ) في نفسك ولا نفس غيرك من الشباب عشر معشار ما تحسه اليوم، إنها عملية كالعمليات الطبية كلها، إنها قذرة حقاً ، لذلك وضع الله لها هذا ( البنج ) الذي يعمي ويصم ، فلا يرى المرء القبح فيها ، وهذا البنج هو الشهوة ، ولو فكر المرء فيها هادئاً . لو فكر فيها بعقل رأسه لا بعقل أعصابه لما رآها إلا كما أقول .


وهذه المغريات كلها لا تعمل عملها ، ولا تؤتي المر من ثمرها ، ما لم يوجد رفيق السوء ، الذي يدلك على طريق الفاحشة ، ويوصلك إلى بابها ، إنها كالسيارة الكاملة العدة ، وهذا الرفيق كالزناد (المارش) ، وليس تمشي السيارة مهما كانت قوتها إلا بالزناد.

* * *
وكأني أسمعك تقول: هذا هو الداء، فما الدواء؟

الدواء أن نعود إلى سنة الله ، وطبائع الأشياء التي طبعها عليها ، إن الله ما حرم شيئاً إلا أحل شيئا مكانه ، حرم المراباة وأحل التجارة ، وحرم الزنا وأحل الزواج ، فالدواء هو الزواج .

الزواج وحده طريق الإصلاح ، وأنا أقترح على الجمعيات الإسلامية والنوادي الإصلاحية أن تؤسس قسماً جديداً يرغب الشبان في الزواج ، ويدعوهم إليه ، ويسهله عليهم ، ويدل الخاطب على الفتاة التي تصلح له ويصلح لها ، ويقرضه المال إن كان معسراً ، ولهذا الاقتراح تفصيلات وذيول ، من استجاب له وأراد العمل به ، شرحت له تفصيلاته .

فإذا لم يتيسر لك الزواج ، ولم ترد الفاحشة ، فليس إلا التسامي ، وأنا لا أريد أن أعقد هذا الفصل الذي أكتبه ليكون مفهوماً واضحاً ، بمصطلحات علم النفس ، لذلك أعمد إلى مثال أمثله لك : أترى إلى إبريق الشاي الذي يغلي على النار . إنك إن سددته فأحكمت سده ، وأوقدت عليه ، فجره البخار المحبوس ، وإن خرقته سال ماؤه فاحترق الإبريق ، وإن وصلت به ذراعاً كبيراً كذراع القاطرة ، أدار لك المصنع وسير القطار ، وعمل الأعاجيب . فالأولى حالة من يحبس نفسه عن شهوته ، يفكر فيها ويعكف عليها ، والثانية حال من يتبع سبل الضلال ، ويؤم مواطن اللذة المحرمة ، والثالثة حالة المتسامي.

فالتسامي هو أن تنفس عن نفسك بجهد روحي أو عقلي أو قلبي أو جسدي يستنفد هذه القدرة المدخرة ، ويخرج هذه الطاقة المحبوسة ، بالالتجاء إلى الله ، والاستغراق في العبادة ، أو بالانقطاع إلى العمل والانغماس في البحث أو بالتفرغ للفن والتعبير عن هذه الصور التي تصورها لك غريزتك بالألفاظ شعراً ، أو بالألوان لوحة ، أو بالألحان نغماً ، أو بالجهد الجسدي والإقبال على الرياضة ، والعناية بالتربية البدنية أو بالبطولة الرياضية .

والإنسان يا ابني محب لنفسه لا يقدم أحداً عليها ، فإذا وقف أمام المرآة ، ورأى استدارة كتفيه ومتانة صدره ، وقوة يديه ، كان هذا الجسم الرياضي المتناسق القوي أحب إليه من كل جسد أنثى ، ولم يرض أن يضحي به ، ويذهب قوته ، ويعصر عضلاته ويعود به جلداً على عظم ، من أجل سواد عيني فتاة ، ولا من أجل زرقتهما .

هذا هو الدواء : الزواج ، وهو العلاج الكامل ، فإن لم يمكن فالتسامي ، وهو مسكن مؤقت ، ولكنه مسكن قوي ، ينفع ولا يؤذي .

أما ما يقوله المغفلون ، أو المفسدون ، من أن دواء هذا الفساد الاجتماعي هو تعويد الجنسين على الاختلاط حتى تنكسر بالاعتياد حدة الشهوة، وفتح ( المحلات العمومية ) حتى يقضى بها على البغاء السري ، فكلام فارغ ، وقد جربت الاختلاط أمم الكفر فما زادها إلا شهوة وفساداً ، أما المحلات العمومية فإننا إذا أقررناها وجب أن نوسعها حتى تكفي الشبان جميعاً ، وإذن فينبغي أن يكون في القاهرة أكثر من عشرة آلاف بغي ، لأن في القاهرة ( من أصل المليونين ونصف المليون من سكانها) مئتي ألف شاب على الأقل .... وإذا نحن جوزنا للشباب ارتيادها فاستغنوا بذلك عن الزواج ، فماذا نصنع بالبنات ؟ هل نفتح لهن محلات عمومية فيها ( بغايا ) من الذكور؟!
* * *
كلام فارغ يا ابني والله ، وما تقوله عقولهم ولكن غرائزهم ، وما يريدون إصلاح الأخلاق ولا تقدم المرأة ، ولا نشر المدنية ، ولا الروح الرياضية ، ولا الحياة الجامعية ، إنما هي ألفاظ يتلمظون بها ، ويبتدعون كل يوم جديداً منها يهولون به على الناس ، ويروجون به لدعوتهم ، وما يريدون إلا أن تخرج لهم بناتنا وأخواتنا ، ليستمتعوا برؤية الظاهر والمخفي من أجسادهن ، وينالوا الحلال والحرام من المتعة بهن ، ويصاحبوهن منفردات في الأسفار، ويراقصوهن متجملات في الحفلات ، وينخدع مع ذلك بعض الآباء ، فيضحون بأعراض بناتهم ليقال أنهم من المتمدنين ...

و بعد يا ابني : فلا تتردد في الكتابة إليَّ إن لم يرضك هذا الجواب ، ولا تستحي مما تجد من حر هذه الشهوة التي ركبها الله في النفس ، إنها علامة القوة والأيْد والشباب ، وعليك بالزواج ، ولو أنك طالب لا تزال . فإن لم تستطعه فاعتصم بخوف الله ، والانغماس في العبادة والدرس ، والاشتغال بالفن ، وعليك بالرياضة فإنها نعم العلاج.

والحديث طويل ، وهذا ما اتسع له مجال المقال ، ومن استزادني زدته رسالة إن شاء ، أو مقالة إن شاء الناشرون.


أديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله - صور وخواطر (214:205).


الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©