موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة تقاييد على كتاب الله المجيد-من سورة الملك ((أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ))

بسم الله الرحمن الرحيم
من سورة الملك
((أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ)) (16 ، 17) .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فإننا نسلك في هاتين الآيتين وما شابههما مسلك السلف الصالح - رضوان الله عليهم - وذلك بأن نؤمن بما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم الخلق بالله - من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف ولا تأويل ولا تعطيل ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) (الشورى 11) ، وكل ما خطر عن الله ببالك فهو هالك ، والله بخلاف ذلك . وأقول : إذا كانت المعاني تتغاير بتغاير من نُسِبت إليه فإن نِسْبَة هذه الأمور المتشابهة إلى الله - تعالى - تفيد ثبوت أصل المعنى بما يتناسب مع جلال الخالق - عز وجل -  وهذا مذهب جماهير السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان ، والنقول في ذلك أكثر من أن تُحْصَى ، قال الوليد بن مسلم - ت 194 هـ -: "سألت الأوزاعي -ت 157 هـ - ، ومالك بن أنس - ت 179 هـ - ، وسفيان الثوري -ت 161 هـ - ، والليث بن سعد - ت 175 هـ - ، عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة؟ فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف". (*)

 وليس معنى قوله سبحانه (( مَنْ فِي السَّمَاءِ)) أو إقرار النبي صلى الله عليه وسلم قولَ الجارية عن الله تعالى((فِي السَّمَاءِ))(1) أن السماء تحده أو تشمله ، حاشَا وكلا ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا ، بل إن الله خالق الزمان والمكان ، والمعنى لمن أنار الله بصيرته إثبات صفة العلو والفوقية ، قال الله تعالى : ((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)) (1 الأعلى) ، ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ )) (الأنعام 18 ، 61) .

، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما السمواتُ السبعُ في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة)) (2) .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم " . (3)
وقد ذكر علماء الفلك أن مجرة دَرْبِ التِّبَّانة التي تشتمل على مجموعات منها المجموعة الشمسية التي منها كوكبنا الصغير الأرض ، هذه المجرة ما هي إلا مجرة صغيرة من ملايين المجرات المشاهدة بالتلسكوبات الفضائية المكبرة !
فكل صولات وجولات الفضاء لا تعدو أنملة من السماء الدنيا في كون يتمدد كل ثانية . (4)

((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)) (الذرايات 47)
((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ)) (الرحمن 33 : 35) .

، وتبقى السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة ........
إنه عالم بلا حدود ، فإذا كنت أيها الإنسان الضعيف المحدود لم تدرك شيئًا من سعة الكون المخلوق ، كيف تقدر على إدراك ذات الخالق ؟!
رُوِيَ أن الزمخشري سأل أبا حامد الغزالي رحمه الله تعالى عن قوله تعالى ((الرحمن على العرش استوى)) فأجابه :
قل لمن يفهم عني ما أقول ... قَصِّر اللوم فذا شرح يطول
ثَمَّ سِرٌ غامض من دونه ... ضُرِبَتْ - واللهِ - أعناقُ الفحول
أنت لاتعرف إياك ولا ... تدري من أنت ولا كيف الوصول
لا ولا تدري صفاتٍ ركبت ... فيك حارت في خفاياها العقول

أين منك الروح في جوهرها ... هل تراها أو ترى كيف تجول
أين منك القلب في قالبه ... وهو بيت الرب حقاً إذ يقول
أين نور العقل والفهم إذا ... غلب النوم فقل لي يا جهول
أين نور الشمس لَمَّا أن جدا ... غيهب الليل وفاءت للأفول
هذه الأنفاس لا تعرفها ... لا ولا تدري متى عنك تزول
أنت لا تدري صفات ركبت ... فيك حارت في خفاياها العقول
أنت أكل الخبز لا تعرفه ... كيف يجري منك أم كيف تبول
فإذا كانت خفاياك التي ... بين جنبيك بها أنت ضَلُول
كيف تدري من على العرش استوى ... لا تقل كيف استوى كيف النزول
كيف تَجَلَّى لم تدر كيف يُرَى .. فلعمري ليس ذا إلا فضول
(وتُرْوَى : كيف يُحْكَي الرَّبُّ أم كيف يُرَى ... فلعمري ليس ذا إلا فضول)
إن تقل كيف فقد مثلته ... أو تقل أين فقد رُمْتَ الْحُلُول
فهو لا أين ولا كيف له ... وهو رب الكيف والكيف يحول
وهو فوق الفوق لا فوق له .. وهو في كل النواحي لا يزول
جل ذاتاً وصفات وسما .. وتعالى وصفه عما تقول (5)

نسأل الله أن يثبتنا على التوحيد حتى نلقاه ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .




(*) تحقيق د/محمد بن خليفة بن علي التميمي ، قال : أخرجه أبو بكر الخلال في السنة (1/259، برقم313) . وأخرجه الآجري في الشريعة (3/1146، رقم720) . وأخرجه الدارقطني في الصفات (ص44، برقم67) . وأخرجه ابن بطة في الإبانة (تتمة كتاب الرد على الجهمية) ، (3/241-242، برقم183) . وأخرجه ابن مندة في التوحيد (3/307، برقم894) . وأخرجه اللالكائي في السنة (930) . والصابوني في عقيدة السلف (ص70، برقم90) . وأورده أبو يعلى في إبطال التأويلات (1/47، برقم16) . وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (2/377) ، وفي الإعتقاد (ص118) ، وسننه (3/2) . وابن عبد البر في التمهيد (7/149، 158) . وأورده الذهبي في العلو (ص104، و105) ، بسنده من طريق الدارقطني، وأورده في سير أعلام النبلاء (8/105) ، وتذكرة الحفاظ (1/304) ، وأورده في الأربعين في صفات رب العالمين (ص82، برقم82) . وقال قبله: "صح عن الوليد"، وعلق بعده بقوله: "قلت: مالك في وقته إمام أهل المدينة، والثوري إمام أهل الكوفة، والأوزاعي إمام أهل دمشق، والليث إمام أهل مصر، وهم من كبار أتباع التابعين". وأورده السيوطي في الأمر بالإتباع والنهي عن الإبتداع (ص206، برقم326) .
(1) وهو حديث طويل في صحيح مسلم (537) (1 / 381) ، في نهايته سأل النبي صلى الله عليه وسلم الجارية «أَيْنَ اللهُ؟» قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «مَنْ أَنَا؟» قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: «أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» .
(2) رواه محمد بن أبي شيبة في " كتاب العرش " (114 / 1) ، والبيهقي في " الأسماء والصفات " (ص 290) وابن جرير في " تفسيره " (5 / 399) وغيرهم ، وهذا تخريج العلامة الألباني رحمه الله كما في الصحيحة (109) (1 / 223) ، ثم قال : ((واعلم أنه لا يصح في صفة الكرسي غير هذا الحديث، كما في بعض الروايات أنه موضع القدمين. وأن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد، وأنه يحمله أربعة أملاك، لكل ملك أربعة وجوه، وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة ... إلخ فهذا كله لا يصح مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعضه أشد ضعفا من بعض)) .
(3) إسناده جيد كما قال العلامة ابن باز رحمه الله ، وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الفتاوى (1125/10) موقوف له حكم الرفع ، رواه الدارمي في الرد على الجهمية (ص275 -ضمن عقائد السلف) ، وأخرجه ابن خزيمة في التوحيد (1/242-243، ح149) ، وأخرجه الطبراني في الكبير (9/228) ، وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (2/688-689، ح279) ، وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (7/139) ، وابن قدامة في إثبات صفة العلو (ص104-105، ح75) ، والذهبي في العلو للعلي الغفار (74) (1 / 45) (وله كلام نفيس قبله فراجعه إن شئت) ، ورواه الذهبي أيضًا في العرش (105) (2 / 164 ، 165) وصححه ، وهذا تخريج أ/محمد بن خليفة بن علي التميمي ، وانظر حاشية كتاب التوحيد للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي القحطاني الحنبلي النجدي (ت 1392هـ) ، وسد الذرائع في مسائل العقيدة على ضوء الكتاب والسنة الصحيحة (السنة الرابعة والثلاثون العدد (114) لشيخنا الفاضل عبد الله بن شاكر الجنيدي حفظه الله ،
وقال العلامة الحَكَمي (1377 هـ) رحمه الله في سُلَّمِه :

عُلُوَّ قَهرٍ وَعُلُوَّ الشَّـــانِ جَلَّ عَنِ الأضْدَادِ وَالأعْوَانِ
كَذَا لَهُ الْعُلُوُّ والفَوْقِـيَّـهْ عَلَى عِبَادِهِ بِلاَ كَيْفِـيَّـهْ
وَمَعَ ذَا مُطَّلِعٌ إلَيْهِـــمُ بعلْمِهِ مُهَيْمنٌ عَلَيْهِـــمُ
وَذِكرُهُ لِلقُرْبِ وَالْمَعِيَّــةْ لَمْ يَنْفِ لِلْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيــهْ
فَإِنَّهُ الْعليُّ في دُنُـــوِّهِ وَهُوَ الْقَريِبُ جَلَّ في عُلُوِّهِ
(4) للمزيد تابع الموضوع في الرابط : http://islam.ahram.org.eg/NewsQ/3295.aspx(5) وعزاه العلامة عبد السلام اللَّقاني رحمه الله (ت 1078 هـ ) في شرح الجوهرة (ص 92، 93) للإمام أبي حامد الغزالي (ت 505 هـ) رحمه الله ردًا على سؤال الإمام أَبي القَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ (ت 538 هـ) سامحه الله ، وهو ابن الشيخ برهان الدين إبراهيم بن إبراهيم اللَّقاني صاحب الجوهرة (1041 هـ) ، لكن الإمام الذهبي رحمه الله عزاه للإمام القاضي أبي أحمد العسال الأصبهاني (ت 349 هـ) وللإمام عز الدين عبد السلام بن أحمد بن غانم المقدسي (ت 678 هـ) كما في "العرش" (2 / 388 ، 389) قلت : فلعله استدرك بالثاني على الأول ، قال محققه (التميمي) : إذا كان قصده أن الله تعالى مع خلقه بذاته فهذا قول حلولية الجهمية وهو قول باطل، وقد تقدم الرد عليه مفصلاً في القسم الدراسي ، قال في هامش الصفحة من النسخة (ب) العبارة التالية "حديث الجارية يرده حيث قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء، فقال:"اعتقها فإنها مؤمنة"، وأثبت إيمان الجارية التي بأصبعها نحو السماء تشير" اهـ. والمقصود هنا الرد على قول الشاعر في القصيدة "وهو لا أين"، وقد أوضح المصنف في بداية الكتاب صحة السؤال عن الله بأين ، قلت (الشرقاوي) : ولذلك استدرك شيخنا العلامة علي بن إبراهيم حشيش حفظه الله فقال : ((وبمعية علم في كل النواحي لا يزول)) كما ذكرت الأبيات نقلا عنه في كتابي إرشاد الخلق (ص 135) . والله أعلم .

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©