موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة عبر من قصص العلماء 2-الكسائي وتعلمه النحو

بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام ابن الجوزي - رحمه الله - (1) : 
"قال الشافعي - رحمه الله -  (2) : " من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي" .
ثم ساق ابن الجوزي الإسناد عن الفَرَّاءِ (3) تلميذ الكسائي (4) أنه قال : "إنما تعلم الكسائي النحو على الكبر، وكان سبب تعلمه: أنه جاء يوما وقد مشى حتى أَعْيَا ، فجلس إلى الهَبَّارِين (5) فَقَالَ: قد عَيِيتُ . فقالوا له: أتجالسنا وأنت تلحن؟! فَقَالَ: كيف لحنت؟
فقالوا لَهُ: إن كنت أردت من التعب فقل أَعْيَيْتُ ، وإن كنت أردت من انقطاع الحيلة والتدبير والتحير في الأمر فقل: عَيِيتُ - مخففة فأَنِفَ من هذه الكلمة وقام من فوره، فسأل عمن يعلم النحو. فأرشدوه إلى معاذ الهَرَّا (6) ، فلزمه حتى أنفذ ما عنده، ثم خرج إلى البصرة  فلقي الخليل (7) وجلس في حلقته، فقال له رجل من الأعراب: تركت أسد الكوفة وتميمها وعندها الفصاحة، وجئت إلى البصرة؟ فقال للخليل : من أين أخذت علمك هذا  ؟ فَقَالَ: من بوادي الحجاز، ونجد، وتِهامة. فخرج ورجع وقد أنفذ خمس عشرة قِنِّينَةٍ حِبْرًا في الكتابة عن العرب سوى ما حفظه  ، ولم يكن له همة  غير البصرة والخليل ، فوجد الخليل قد مات وقد جلس موضعه يونس النحويّ (8) ، فمرت بينهم مسائل أقر له يونس فيها وصدره موضعه" . ا هـ .

قلت : هذه القصة على وجازتها فيها من العبر الكثير ، ومنها :
1-أن التحديات التي تواجه الإنسان في حياته أسباب لتقدمه وارتقائه ، لا سبب لتأخره وانحنائه ، وقد قال بعض حكماء الغرب : "أحب تحديات الحياة ؛ لأنها تعينني على التغيير من نفسي إلى الأحسن" ا هـ  ، فالإنسان الذكي يتعلم من أخطائه بحفظ الخطأ والصواب معًا ، وقد رأينا بالتجربة والممارسة أن الشيء الذي يخطيء فيه الطالب ويبحثه ويحققه حتى يعرف الصواب ثم يبلغه يستحيل أن يكرر الخطأ فيه مرة أخرى بإذن الله .
2-أن لا يأنف طالب العلم عن الرجوع عن الخطأ ، قال علماؤنا : "الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل" .
3-فضل الرحلة في طلب العلم . وكان من السلف من يسافر سنة أو سنتين مشيًا على الأقدام ، وسيأتي ذكر ذلك في بعض القصص التالية إن شاء الله .
4-فضل كتابة العلم . والكتابة هي عماد طلب العلم ، وقد قلت من  قبل :
إِنْ رُمْتَ إِتْقَانَ الْعُلُومِ فَحَصِّلْ خَمْسًا ... ادْرُسْ كَاتِبًا ، لَخِّصْ حَافِظًا ، وَبَلِّغْ دَرْسًا
5-كثرة الحقاد والحساد على العلماء خاصة من أهل بلدهم . ولله دَرُّ الشافعي إذ يقول :
كُلُّ العداوات قد تُرْجَى مَودَّتُها .... إلا عداوةَ مَنْ عاداك عَن حَسَدِ .
رحم الله إمامَنَا الكسائي ، ونسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا ، ويزيدنا علمه ، ويجعله حجة لنا لا علينا ، والحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم للإمام جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ).
(2)  الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي (المتوفى: 204هـ) .
(3) أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي الفراء (المتوفى: 207هـ) .
(4) علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء، الكوفي، أبو الحسن الكسائي (119 - 189 هـ)  إمام نحاة الكوفة ولغوييها ،ولد في إحدى قراها. وتعلم بها. وقرأ أربع القرآن الكريم بأربع ختمات على الإمام حمزة بن حبيب الزيات  ، ثم قرأ النحو بعد الكبر، وتنقل في البادية، وسكن بغداد، وتوفي بالريّ، عن سبعين عاما. وهو مؤدب الرشيد العباسي وابنه الأمين. قال الجاحظ: كان أثيرا عند الخليفة، حتى أخرجه من طبقة المؤدبين إلى طبقة الجلساء والمؤانسين. أصله من أولاد الفرس. وأخباره مع علماء الأدب في عصره كثيرة. له تصانيف، منها " معاني القرآن " و " المصادر " و " الحروف " و " القراءات " و " نوادر " ومختصر في " النحو " و " المتشابه في القرآن خ " رسالة في شستربتي (3165) و " ما يلحن فيه العوامّ - ط " صغير في 16 صفحة نشر في المجلة الأشورية ببرلين (1) . أعلام الزِّرِكْلِي (4/ 283) بتصرف . قلت : والكسائي إمام مدرسة نحاة الكوفة ، وهي ما زالت قائمة رغم اندراس بعض معالمها ، والكسائي أحب إلي من سيبويه ؛ لأنه قارئ وأنوار القرآن تجلت على علومه ، وفي كل خير ، وعلى ندرة من اعتمدوا مذهب الكوفيين النحوي إلا أني أرى وجاهته وسَعَته وسهولته ، ويقول العلامة ابن عثيمين - 1421 هـ رحمه الله - : " القاعدة عندي: إذا اختلف الكوفيون والبصريون في مسألة فاتبع الأسهل فإنه أسهل، أي: ليس فيه تعقيد؛ لأن هذا ليس أمراً شرعياً يثبت بالأدلة الشرعية حتى ننظر ونتعب، فمادام هذا جائزاً عند جماعة من العلماء فلنتبعه، وتتبع الرخص في هذا الباب جائز ولا حرج فيه؛ لأن تتبع الرخص في هذا الباب أسهل، وسيمر بنا إن شاء الله تعالى مسائل كثيرة نجد أن البصريين فيها متشددون وأن الكوفيين متساهلون".تفريغ شرح ألفية ابن مالك - ت 672 هـ رحمه الله - :
http://audio.islamweb.net/audio/index.php?page=FullContent&audioid=177100 
(5) أو الهباريين كما في تاريخ بغداد للخطيب (6243) (13/ 345) ، وبنو هَبَّار : فخذ من قُريش من أَسَد بن عَبْدِ العُزَّي كما في العين للخليل (4/ 47) .
(6) أو الهَرَّاء كما في تاريخ بغداد  (6243) (13/ 345) ، معاذ بن مسلم الهراء، أبو مسلم: أديب معمر، له شعر. من أهل الكوفة. عرف بالهرّاء، لبيعه الثياب الهروية الواردة من مدينة هراة (بأفغانستان) له كتب في النحو ضاعت، وأخبار مع معاصريه كثيرة (ت 187 هـ رحمه الله) . أعلام الزِّرِكْلِي  (7/ 258) .
(7) أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأَزْدِي وأصله من أَزْدِ عُمَان (السلطنة حاليًا) اليحمدي ، ولد ومات في البصرة (100 - 170 هـ رحمه الله) ،  من كبار أئمة اللغة والأدب ، أستاذ سيبويه والكسائي ، وواضع علم العروض وأحدث أنواعا من الشعر ليست من أوزان العرب ، وكان يونس يقول الفرهودي (بضم الفاء) نسبة إلى حيّ من الأزد، ولم يسمّ أحد بأحمد بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل والد الخليل. من أشهر أعماله التي لم يسبق إليها معجم العين . أعلام الزِّرِكْلِي بتصرف (2/ 314 ، 315) . 
(8) (94 - 182 هـ) يونس بن حبيب الضبي بالولاء، أبو عبد الرحمن، ويعرف بالنحوي: علامة بالأدب، أعجمي الأصل. أخذ عنه سيبويه والكسائي والفراء وغيرهم من الأئمة. وقال أبو عبيدة: اختلفت إلى يونس أربعين سنة أملأ كل يوم ألواحي من حفظه.
أعلام الزِّرِكْلِي بتصرف (8/ 261) .

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©