موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة الأسئلة والفتاوى العلمية-57- أبارِك لفلان أم أُبَرِّك ؟

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة الأسئلة والفتاوى العلمية

س 57 : من أخ مغربي ، قال : بعض العلماء قالوا إنه لا يصح أن يقال : سأذهب لفلان لأبارك له ؛ لأن البركة من الله - تعالى - ، والله هو الذي يبارك كما في القرآن الكريم : ((وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا)) (فصلت 10) ، وإنما يقال "أذهب لفلان لأُبَرِّكَ له ، أي أدعو له بالبركة ، فما الصواب في ذلك ؟

ج 57 : الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فإن البركة من الله - سبحانه وتعالى - لا خلاف على ذلك ، ولا بأس بذكر هذه المقدمة تأكيدًا لذات المعنى :
قال ابن فارس - ت 395 هـ رحمه الله - :
"(بَرَكَ) الْبَاءُ وَالرَّاءُ وَالْكَافُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ ثَبَاتُ الشَّيْءِ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ فُرُوعًا يُقَارِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا. قَالَ الْخَلِيلُ: الْبَرَكَةُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّمَاءِ. وَالتَّبْرِيكُ: أَنْ تَدْعُوَ بِالْبَرَكَةِ. و {تَبَارَكَ اللَّهُ} [الأعراف: 54] تَمْجِيدٌ وَتَجْلِيلٌ. وَفُسِّرَ عَلَى " تَعَالَى اللَّهُ ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ. ا هـ ". (*)
قال علماؤنا : ورد لفظ ((تبارك)) في القرآن الكريم في تسعة مواضعَ ، هي :
((أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) (الأعراف 54) .
((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)) (الفرقان 1)
((تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا)) (الفرقان 10)
((تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا)) (الفرقان 61)
((تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)) (الرحمن 78) 
((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) (الملك 1)
((ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)) (المؤمنون 14)
((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) (غافر 64)
((وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) (الزخرف 85) .
ونلاحظ في لفظة "تبارك" هذه الأمور :
1-لم تذكر "تبارك" أبدًا مقترنة بذكر اسم نبي مرسل ولا ملك مقرب ، وإنما مع الله وحده ؛ لأنه هو المُبَارِك ، فلا تسأل المبارَك ، وإنما سلِ المبارِكَ - سبحانه وتعالى - .
2-إعراب "تبارك"  : فعل ماض جامد غير يتصرف ، أي لا يأتي منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل  ، وقال البعض : فعل ماض غير جامد مبني على الفتح  . (1)
3-معناها : فيه أربعة أقوال: أحدها: تفاعل من البركة، رواه الضحاك عن ابن عباس وكذلك قال القتيبيُّ، والزجاج. وقال أبو مالك: افتعل من البركة. وقال الحسن: تجيء البركة من قِبَله.
وقال الفراء: تبارك: من البركة وهو في العربية كقولك: تقدس ربنا. والثاني: أن تبارك بمعنى تعالى، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وكذلك قال أبو العباس: تبارك: ارتفع والمتبارِك: المرتفِع. والثالث:
أن المعنى: باسمه يُتبرَّك في كل شيء، قاله ابن الانباري. والرابع: أن معنى «تبارك» تقدس ، أي:
تطهر، ذكره ابن الأنباري أيضا. (2)

 وكل ما سبق لا ينفي أن تُنْسَبَ بركاتٌ للأنبياء والعلماء والصالحين باعتبار الإسناد المجازي لا الحقيقي ؛ فالله - عز وجل - وهبهم هذه البركة ، ولا أدل على ذلك مما رواه البخاري عن سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ، فِيهَا حَاشِيَتُهَا» ، أَتَدْرُونَ مَا البُرْدَةُ؟ قَالُوا: الشَّمْلَةُ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لِأَكْسُوَكَهَا، «فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ» ، فَحَسَّنَهَا فُلاَنٌ، فَقَالَ: اكْسُنِيهَا، مَا أَحْسَنَهَا، قَالَ القَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لاَ يَرُدُّ، قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ، مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهُ، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ . (3)

وفي حديث الإفك الطويل وعلى إثر نزول آية التيمم قَالَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ الأنصاري - رضي الله عنه - : "مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ" . (4)
ونرجع إلى أصل السؤال فنقول إنه قد ورد في لغة العرب "فَاعَل" بمعانٍ منها الفِعْلُ أي المفاعلة من طرف واحد ، والمشاركة أي المفاعلة من طرفين ؛ فالأول كما في قوله - تعالى - : ((وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)) (البقرة 9) على قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو ، وهو نحو قولهم القاضي يحاكم اللص ، ولا يقصدون وقوع الفعل إلا من طرف القاضي فقط . (5)
والثاني "المشاركة" في نحو قول الله - عز وجل - : ((وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)) (البقرة 51) على قراءة الجمهور ، قال علماؤنا : أي وعد اللهُ موسى الكلامَ ووعد موسى اللهَ المجيءَ (6)  ، وأمثاله في القرآن كثيرة ، منها قوله - تعالى - : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) (آل عمران 200) . وهو أشبه بكلمة "بَارَك" أي طلب من الله البركة وأناله الله إياها ، وأما بَرَّكَ فهو ثلاثي مضعف العين ؛ ليدل على التكرار والتكثير والمبالغة لا غير .
وتظل الكلمة الأولى لأفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وسنته الشريفة ؛ فقد روى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا حُفِرَ الخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَصًا شَدِيدًا، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي، فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَصًا شَدِيدًا، فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي، وَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: لاَ تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَنْ مَعَهُ، فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا أَهْلَ الخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا، فَحَيَّ هَلًا بِهَلّكُمْ» فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، وَلاَ تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ» . فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْدُمُ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ، فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ، فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: «ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلاَ تُنْزِلُوهَا» وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ . (7) 
كما ثبت "بَرَّك" أيضا في أحاديث أخر ، منها ما رواه الشيخان عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ فَأَتَيْتُ المَدِينَةَ فَنَزَلْتُ بِقُبَاءٍ فَوَلَدْتُهُ بِقُبَاءٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعْتُهُ فِي حَجْرِهِ، ثُمَّ «دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ ثُمَّ دَعَا لَهُ، وَبَرَّكَ عَلَيْهِ وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الإِسْلاَمِ» . (8)
نسأل الله أن يبارك لنا في أوقاتنا وأقواتنا وأعمالنا وأقوالنا ، ويكلل بالنجاح أعمالنا ، والحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) مقاييس اللغة (1/ 227 ، 230) .
(1) الجدول لصافي (8/ 432) .
(2) زاد المسير (2/ 129) .
(3) رواه البخاري (1277) (2/ 78) ، قيل هو عبد الرحمن بن عوف - ت 32 هـ - وقيل هو سعد بن أبي وقاص - ت 58 هـ - ، - رضي الله عنهما - ، قلت : وكلاهما مات بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فدل على جواز التبرك بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد موته ، والأدلة على ذلك كثيرة ، لكن يبقى السؤال أين الآثار الباقية من - صلى الله عليه وسلم - يقينًا ؛ لنتبرك بها ؟! 
(4) البخاري (3672) (5/ 7) ومسلم (367) (1/ 279) .
(5) انظر طلائع البِشر (21) .
(6) طلائع البِشر (25) ، والحجة لابن خالَوَيه (77) ، والرياض الناضرة (70)
(7) رواه البخاري (4102) (5/ 108) ومسلم (2039) (3/ 1610) .
(8) رواه البخاري (3909) (5/ 62) ومسلم (2146) (3/ 1691) . 
 

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©