موضوع عشوائي

آخر المواضيع

بحوث حديثية 4 - الإسناد العالي والإسناد النازل 1

بسم الله الرحمن الرحيم


الإسناد العالي والإسناد النازل
الإسناد العالي هو ما قلَّت رجاله ، والنازل هو ما كَثُرَت رجاله ، قال الإمام البيقوني رحمه الله: وَكُلُّ مَا قَلَّتْ رِجَالُهُ عَلاَ ... وَضِدُهُ ذاك الذي قد نَزَلا
وقد حرص المحدثون من السلف الصالح رضوان الله عليهم على الأسانيد العالية،
مثال: اثنا عشر راوياً أعلى من ثلاثة عشر راوياً، وخمسين راوياً أعلى من مائة راوٍ وهكذا.
إذاً كل ما قارنت بين إسنادين فالإسناد العالي هو الأقل.
فإذا قال مالك: حدثني نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ، وقال البخاري: حدثني الحميدي حدثني سفيان حدثني إبراهيم حدثني علقمة حدثني عمر - رضي الله عنه -، فإسناد مالك أعلى من إسناد البخاري، إذاً لا تستطيع أن تحكم على إسناد لوحده حتى تقارنه بين آخر.[1]
قال الإمام عثمان بن عبد الرحمن، أبوعمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح (ت 643هـ) :
"وَطَلَبُ الْعُلُوِّ فِيهِ (أي في الإسناد) سُنَّةٌ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ اسْتُحِبَّتِ الرِّحْلَةُ فِيهِ عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ".
"قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " طَلَبُ الْإِسْنَادِ الْعَالِي سُنَّةٌ عَمَّنْ سَلَفَ " ... . وعلل ذلك فقال «لِأَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ كَانُوا يَرْحَلُونَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْ عُمَرَ وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ» " .[2]
قال ابن الصلاح :
وَقَدْ رُوِّينَا: ... أَنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ لَهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: " مَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: " بَيْتٌ خَالِي، وَإِسْنَادٌ عَالِي " ... .
قُلْتُ: الْعُلُوُّ يُبْعِدُ الْإِسْنَادَ مِنَ الْخَلَلِ، لِأَنَّ كُلَّ رَجُلٍ مِنْ رِجَالِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَقَعَ الْخَلَلُ مِنْ جِهَتِهِ سَهْوًا، أَوْ عَمْدًا، فَفِي قِلَّتِهِمْ قِلَّةُ جِهَاتِ الْخَلَلِ، وَفِي كَثْرَتِهِمْ كَثْرَةُ جِهَاتِ الْخَلَلِ، وَهَذَا جَلِيٌّ وَاضِحٌ.
ثُمَّ إِنَّ الْعُلُوَّ الْمَطْلُوبَ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ عَلَى أَقْسَامٍ خَمْسَةٍ :
الأول : وهو أجلهَا الْقرب من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَدَد أقل من رجال الإسناد ، بشرط أن يكون الإسناد نَظِيفًا غَيْرَ ضَعِيفٍ ؛  قال ابن الصلاح  : "وَقَدْ رُوِّينَا ... عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ الطُّوسِيِّ الزَّاهِدِ الْعَالِمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " قُرْبُ الْإِسْنَادِ قُرْبٌ أَوْ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ "
وَهَذَا كَمَا قَالَ ; لِأَنَّ قُرْبَ الْإِسْنَادِ قُرْبٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْقُرْبُ إِلَيْهِ قُرْبٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ".
الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، الْقُرْبُ مِنْ إِمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَثُرَ الْعَدَدُ مِنْ ذَلِكَ الْإِمَامِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فِي إِسْنَادٍ وُصِفَ بِالْعُلُوِّ، نَظَرًا إِلَى قُرْبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْإِمَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِيًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأراد الْحَاكِمُ بِكَلَامِهِ ذَلِكَ إِثْبَاتَ الْعُلُوِّ لِلْإِسْنَادِ بِقُرْبِهِ مِنْ إِمَامٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَرِيبًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ يُرَاعِي فِي ذَلِكَ مُجَرَّدَ قُرْبِ الْإِسْنَادِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَ إِسْنَادًا ضَعِيفًا، وَلِهَذَا مَثَّلَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي هُدْبَةَ، وَدِينَارٍ، وَالْأَشَجِّ، وَأَشْبَاهِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثُ: الْعُلُوُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْكُتُبِ الْمَعْرُوفَةِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ آخِرًا مِنَ الْمُوَافَقَاتِ، وَالْأَبْدَالِ، وَالْمُسَاوَاةِ، وَالْمُصَافَحَةِ، وَقَدْ كَثُرَ اعْتِنَاءُ الْمُحَدِّثِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِهَذَا النَّوْعِ، وَمِمَّنْ وَجَدْتُ هَذَا النَّوْعَ فِي كَلَامِهِ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ وَبَعْضُ شُيُوخِهِ، وَأَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ طَبَقَتِهِمْ، وَمِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) .
أَمَّا الْمُوَافَقَةُ: فَهِيَ أَنْ يَقَعَ لَكَ الْحَدِيثُ عَنْ شَيْخِ مُسْلِمٍ فِيهِ - مَثَلًا - عَالِيًا، بِعَدَدٍ أَقَلَّ مِنَ الْعَدَدِ الَّذِي يَقَعُ لَكَ بِهِ ذَلِكَ الْحَدِيثُ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ إِذَا رَوَيْتَهُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْبَدَلُ: فَمِثْلُ أَنْ يَقَعَ لَكَ هَذَا الْعُلُوُّ عَنْ شَيْخٍ غَيْرِ شَيْخِ مُسْلِمٍ،
هُوَ مِثْلُ شَيْخِ مُسْلِمٍ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ.
وَقَدْ يُرَدُّ الْبَدَلُ إِلَى الْمُوَافَقَةِ، فَيُقَالُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ إِنَّهُ مُوَافَقَةٌ عَالِيَةٌ فِي شَيْخِ شَيْخِ مُسْلِمٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَالِيًا فَهُوَ أَيْضًا مُوَافَقَةٌ، وَبَدَلٌ، لَكِنْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُوَافَقَةِ، وَالْبَدَلِ لِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا الْمُسَاوَاةُ: فَهِيَ - فِي أَعْصَارِنَا - أَنْ يَقِلَّ الْعَدَدُ فِي إِسْنَادِكَ لَا إِلَى شَيْخِ مُسْلِمٍ، وَأَمْثَالِهِ، وَلَا إِلَى شَيْخِ شَيْخِهِ، بَلْ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ كَالصَّحَابِيِّ، أَوْ مَنْ قَارَبَهُ، وَرُبَّمَا كَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَيْثُ يَقَعُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الصَّحَابِيِّ - مَثَلًا - مِنَ الْعَدَدِ مِثْلُ مَا وَقَعَ مِنَ الْعَدَدِ بَيْنَ مُسْلِمٍ، وَبَيْنَ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ، فَتَكُونُ بِذَلِكَ مُسَاوِيًا لِمُسْلِمٍ مَثَلًا فِي قُرْبِ الْإِسْنَادِ وَعَدَدِ رِجَالِهِ.
وَأَمَّا الْمُصَافَحَةُ: فَهِيَ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْمُسَاوَاةُ الَّتِي وَصَفْنَاهَا لِشَيْخِكَ لَا لَكَ، فَيَقَعُ ذَلِكَ لَكَ مُصَافَحَةً، إِذْ تَكُونُ كَأَنَّكَ لَقِيتَ مُسْلِمًا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَصَافَحْتَهُ بِهِ لِكَوْنِكَ قَدْ لَقِيتَ شَيْخَكَ الْمُسَاوِيَ لِمُسْلِمٍ.
فَإِنْ كَانَتِ الْمُسَاوَاةُ لِشَيْخِ شَيْخِكَ كَانْتِ الْمُصَافَحَةُ لِشَيْخِكَ، فَتَقُولُ: كَأَنَّ شَيْخِي سَمِعَ مُسْلِمًا وَصَافَحَهُ.
وَإِنْ كَانَتِ الْمُسَاوَاةُ لِشَيْخِ شَيْخِ شَيْخِكَ، فَالْمُصَافَحَةُ لِشَيْخِ شَيْخِكَ، فَتَقُولُ فِيهَا: كَأَنَّ شَيْخَ شَيْخِي سَمِعَ مُسْلِمًا، وَصَافَحَهُ. وَلَكَ أَنْ لَا تَذْكُرَ لَكَ فِي ذَلِكَ نِسْبَةً، بَلْ تَقُولُ: كَأَنَّ فُلَانًا سَمِعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقُولَ فِيهِ (شَيْخِي) ، أَوْ (شَيْخَ شَيْخِي) .
ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ: أَنَّ فِي الْمُسَاوَاةِ، وَالْمُصَافَحَةِ الْوَاقِعَتَيْنِ لَكَ
لَا يَلْتَقِي إِسْنَادُكَ، وَإِسْنَادُ مُسْلِمٍ - أَوْ نَحْوُهُ - إِلَّا بَعِيدًا عَنْ شَيْخِ مُسْلِمٍ، فَيَلْتَقِيَانِ فِي الصَّحَابِيِّ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُصَافَحَةُ الَّتِي تَذْكُرُهَا لَيْسَتْ لَكَ، بَلْ لِمَنْ فَوْقَكَ مِنْ رِجَالِ إِسْنَادِكَ، أَمْكَنَ الْتِقَاءُ الْإِسْنَادَيْنِ فِيهَا فِي شَيْخِ مُسْلِمٍ، أَوْ أَشْبَاهِهِ، وَدَاخَلَتِ الْمُصَافَحَةُ حِينَئِذٍ الْمُوَافَقَةَ، فَإِنَّ مَعْنَى الْمُوَافَقَةِ رَاجِعٌ إِلَى مُسَاوَاةٍ وَمُصَافَحَةٍ مَخْصُوصَةٍ، إِذْ حَاصِلُهَا: أَنَّ بَعْضَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ رُوَاةِ إِسْنَادِكَ الْعَالِي سَاوَى أَوْ صَافَحَ مُسْلِمًا، أَوِ الْبُخَارِيَّ، لِكَوْنِهِ سَمِعَ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْ شَيْخِهِمَا، مَعَ تَأَخُّرِ طَبَقَتِهِ عَنْ طَبَقَتِهِمَا.
وَيُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعَوَالِي الْمُخَرَّجَةِ لِمَنْ تَكَلَّمَ أَوَّلًا فِي هَذَا النَّوْعِ، وَطَبَقَتُهُمُ الْمُصَافَحَاتُ مَعَ الْمُوَافَقَاتِ، وَالْأَبْدَالِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْعُلُوِّ عُلُوٌّ تَابِعٌ لِنُزُولٍ، إِذْ لَوْلَا نُزُولُ ذَلِكَ الْإِمَامِ فِي إِسْنَادِهِ لَمْ تَعْلُ أَنْتَ فِي إِسْنَادِكَ.
وَكُنْتُ قَدْ قَرَأْتُ بِمَرْوَ عَلَى شَيْخِنَا الْمُكْثِرِ أَبِي الْمُظَفَّرِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ الْحَافِظ ِ الْمُصَنِّفِ أَبِي سَعْدٍ السَّمْعَانِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فِي أَرْبَعِي أَبِي الْبَرَكَاتِ الْفُرَاوِيِّ حَدِيثًا ادَّعَى فِيهِ أَنَّهُ كَأَنَّهُ سَمِعَهُ هُوَ أَوْ شَيْخُهُ مِنَ الْبُخَارِيِّ، فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُظَفَّرِ: " لَيْسَ لَكَ بِعَالٍ، وَلَكِنَّهُ لِلْبُخَارِيِّ نَازِلٌ ". وَهَذَا حَسَنٌ لَطِيفٌ، يَخْدِشُ وَجْهَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعُلُوِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعُ: مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُوِّ: الْعُلُوُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَقَدُّمِ وَفَاةِ الرَّاوِي: مِثَالُهُ ما أَرْوِيهِ عَنْ شَيْخٍ، أَخْبَرَنِي بِهِ عَنْ وَاحِدٍ، عَنِ الْبَيْهَقِيِّ الْحَافِظِ، عَنِ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظِ أَعْلَى مِنْ رِوَايَتِي لِذَلِكَ عَنْ شَيْخٍ، أَخْبَرَنِي بِهِ عَنْ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلَفٍ، عَنِ الْحَاكِمِ، وَإِنْ تَسَاوَى الْإِسْنَادَانِ فِي الْعَدَدِ، لِتَقَدُّمِ وَفَاةِ الْبَيْهَقِيِّ عَلَى وَفَاةِ ابْنِ خَلَفٍ ; لِأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَمَاتَ ابْنُ خَلَفٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
رُوِّينَا عَنْ أَبِي يَعْلَى الْخَلِيلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلِيلِيِّ الْحَافِظِ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ: " قَدْ يَكُونُ الْإِسْنَادُ يَعْلُو عَلَى غَيْرِهِ بِتَقَدُّمِ مَوْتِ رَاوِيهِ، وَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْعَدَدِ ". وَمَثَّلَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ نَفْسِهِ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا كَلَامٌ فِي الْعُلُوِّ الْمُنْبَنِي عَلَى تَقَدُّمِ الْوَفَاةِ، الْمُسْتَفَادِ مِنْ نِسْبَةِ شَيْخٍ إِلَى شَيْخٍ، وَقِيَاسِ رَاوٍ بِرَاوٍ.
أَمَّا الْعُلُوُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ مُجَرَّدِ تَقَدُّمِ وَفَاةِ شَيْخِكَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى قِيَاسِهِ بِرَاوٍ آخَرَ، فَقَدْ حَدَّهُ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ بِخَمْسِينَ سَنَةً.
وَذَلِكَ مَا رُوِّينَاهُ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْحَافِظِ النَّيْسَابُورِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ عُمَيْرٍ الدِّمَشْقِيَّ - وَكَانَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَدِيثِ - يَقُولُ: إِسْنَادُ خَمْسِينَ سَنَةً مِنْ مَوْتِ الشَّيْخِ إِسْنَادُ عُلُوٍّ، وَفِيمَا نَرْوِي ... عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ الْحَافِظِ، قَالَ: " إِذَا مَرَّ عَلَى الْإِسْنَادِ ثَلَاثُونَ سَنَةً فَهُوَ عَالٍ " ... . وَهَذَا أَوْسَعُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسُ: الْعُلُوُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَقَدُّمِ السَّمَاعِ.
أ       ُنْبِئْنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ الْحَافِظِ، ... عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ الْحَافِظِ، قَالَ: " مِنَ الْعُلُوِّ تَقَدُّمُ السَّمَاعِ " ... .
قُلْتُ: وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا يَدْخُلُ فِي النَّوْعِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، وَفِيهِ مَا لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ، بَلْ يَمْتَازُ عَنْهُ. مِثْلُ أَنْ يَسْمَعَ شَخْصَانِ مِنْ شَيْخٍ وَاحِدٍ، وَسَمَاعُ أَحَدِهِمَا مِنْ سِتِّينَ سَنَةً مَثَلًا، وَسَمَاعُ الْآخَرِ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَإِذَا تَسَاوَى السَّنَدُ إِلَيْهِمَا فِي الْعَدَدِ، فَالْإِسْنَادُ إِلَى الْأَوَّلِ الَّذِي تَقَدَّمَ سَمَاعُهُ أَعْلَى.
فَهَذِهِ أَنْوَاعُ الْعُلُوِّ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ وَالْإِيضَاحِ الشَّافِي، وَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحَمْدُ كُلُّهُ".[3]
وبين الإمام الجعبري :
والقرب من الحبيب بِصَحِيح قربَة (أَحْمد) سنة السّلف.
والرحلة أَعم، وشغف الطّلبَة بِمُجَرَّد قلَّة الْعدَد / حرمهم كَثْرَة المدد.
وَمَعْنَاهُ: الِارْتفَاع وَالْقُوَّة.
وَفَائِدَته: " بركَة الْقرب "، وَأقرب إِلَى الصِّحَّة بقلة الوسائط، وَأبْعد من السقم لزِيَادَة الْأَهْلِيَّة.
وَأجل سَببه: الْقرب من النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ثمَّ إِلَى إِمَام أَو مُسْند، وَسبق وَفَاة الشَّيْخ، وَتقدم تحمل الرَّاوِي كالبخاري فِي " تَارِيخه "، والخفاف عَن السراج وَبَينهمَا مئة وَسبع وَثَلَاثُونَ، وَكَذَا الزُّهْرِيّ وزَكَرِيا عَن مَالك، وللخطيب فِيهِ مُصَنف.
وَزِيَادَة ضَبطه وثقته وفقهه وشهرته بِأَصْلِهِ (الْخَطِيب) اعتنى الْخلف بالموافقة: أَن يتَّفق لراوي نَحْو " البُخَارِيّ " طَرِيق آخر إِلَى شَيْخه أقل عددا.
وَالْبدل إِلَى مُقَابل شَيْخه، وَهِي: مُوَافقَة لشيخ شَيْخه.
والمساواة: أَن يَقع لراو طَرِيق إِلَى صَحَابِيّ أَو قَرِيبه عَددهَا عدد أحد الْأَئِمَّة.
والمصافحة لَهُ: أَن يكون ذَلِك لشيخه أَو لشيخ شَيْخه فلشيخه، وَذَلِكَ نسبي، فالأعلى جَامع الثمان، ثمَّ الْأَكْثَر فالأكثر، والعالي مَا فِيهِ وَاحِد.
والنازل: العاري / مِنْهُ، وَلَيْسَ راجحاً وَلَا مشؤوماً، خلافًا لمدعيهما، بل مَرْجُوح يقوى بامتيازه عَنهُ بفائدة.[4]


[1] - (الكواكب الدرّية على المنظومة البيقونية (ص 71) للشيخ سليمان بن خالد الحربي حفظه الله .
[2] - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (117) (1 / 123) لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي (ت 463هـ) ت: د. محمود الطحان - مكتبة المعارف – الرياض .
[3] - مقدمة ابن الصلاح (ت 643هـ)، (1 /  255 : 264) ، وقد ذكر هذا مختصرا الإمام أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ) في التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث (ص 84 ، 85) ت : محمد عثمان الخشت - دار الكتاب العربي، بيروت – ط1 ، 1405 هـ - 1985 م .
[4] - رسوم التحديث في علوم الحديث (ص 134 ، 135)  للإمام برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل الجعبريّ (ت 732هـ) ت : إبراهيم بن شريف الميلي - دار ابن حزم - لبنان / بيروت – ط 1، 1421هـ - 2000م .

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©