موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة اخترت لكم -56 - مبصرة في زمن أعمى

بسم الله الرحمن الرحيم
في حياتنا اليومية كثيراً ما نخوض تجارب مع الآخرين نعرف بها معادنهم وسجيتهم، وإن هذه الدنيا ماهى إلا دار امتحان وابتلاء ولعلمنا أن الدنيا حقيرة لا تساوي عند الله جناح بعوضة ومهما عاش فيها الإنسان فأمدها قصير وهي إلى انقضاء وزوال. وكل ما يصيبنا هو خير ولحكمة لا يعلمها إلا الله ولا نملك أمام المكتوب إلا الصبر وإحتساب الأجر عند الله، وكم هي كثيرة النعم التي أنعمها الله علينا والتي لا تعد ولا تحصى، ونعمة البصر نعمة عظيمة ولمن حرم منها يكفيه قول الله عزوجل في الحديث القدسي (من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة) وحبيبتيه هما العينين، فما أعظمه أجراً عند الله من الجنة، ولكن في هذا الزمن، ليس كل من هو أعمى البصر هو من لا يرى، بل أن هناك أشخاصاً يبصرون وسليمين ولكنهم عميان القلب والروح، وهناك أناس كثيرون في هذه الحياة لا يرون شيئاً طوال حياتهم ولكنهم مع هذا هم أسعد الناس راضين ومقتنعين بما كتبه الله لهم ينظرون إلى الحياة بحب وتفاؤل وأمل، بينما هناك بشر يملكون كل شيء ولا يشكرون الله على نعمة البصر واللسان واليدين والرجلين والعقل وأخلاقهم سيئة نفروا الناس من حولهم وقلوبهم مريضة، وهناك من لا يملك ربع ما يملكون ولكنهم سعداء وحياتهم لها هدف ومعنى وطموح وأخلاقهم عالية وقلبهم يشع نوراً وحباً وعطاءاً لكل من حولهم، وأعمى البصر محروم من النظر وفاقد للبصر ولكنه الله عوضه بالبصيرة التي قد لا نجدها في الكثير من المبصرين، ومن يظن بأن الأعمى إنسان معاق وغير قادر على الإنجاز والعطاء والقيام بواجباته اليومية فهو مخطىء، ففاقد البصر لم يرزقه الله البصر ولكن رزقه البصيرة، وكثيراً ما نرى ونسمع عن أناس عظماء في تاريخنا وحياتنا وهم فاقدي البصر، ورغم ان المكفوفين ليس لهم بصر ولكن قلوبهم كبيرة تحمل الكثير من الخير والعطاء وعطائهم بلا حدود بل ضربوا الكثير من الأمثلة الطيبة في العطاء أكثر من المبصرين، وسوف أتحدث اليوم عن أرملة عمياء من أهل الشقيقة السعودية إنطفأ الوهج في عينيها وحرمت من نعمة النظر وهي صغيرة، ولكنها إنسانة لا يمكن أن تنساها إذا ما عرفتها، تكون دائماً أمامك بمواقفها وعطاءها وطيبتها وخلقها، شامخة تغلبت على ظروفها وتجاوزتها وبنت حياتها على الإستقامة والإيمان بشكل أبهى من المبصرين، إمرأة مميزة كلما أذكرها أتعلم منها الصبر والشجاعة والقوة والصلابة، تحمل قلب كبير يشعر ويحس بالآخرين لا يمكن وصفه، إنها إمرأة عمياء ولكنها مبصرة في زمن أعمى، خصها الله بحظ وافر من مفاتيح العقول والقلوب، تدخل القلب بسهولة وبلا إستئذان تحبها رغماً عنك ودوماً تظل في ذاكرتك لما تحمله من الأخلاق الحميدة والمودة والصبر والرفق واللين، سطع الله النور في قلبها، كلما أراها كأنني أرى النور في وجهها وأشعر بأنها إنسانة عظيمة أمثالها قلة في زمن صعب، عندما تتحدث معها تحس بشعور غريب يطفي على قلبك الدفء والحنان والحب، تحس بك وتشعر قبل أن تتكلم تشاركك أحزانك وكأنها تعيشها، بل تتألم وتتأثر وكأنها هي صاحبة المشكلة في زمن نحس بأن محادثاتنا مع الآخرين عقيمة وغير مجدية، ولكنها قمة في الأخلاق والتسامح تجعلك رغماً عنك تحبها وتريد أن تحضنها من حلاوة لسانها، تزوجت وأنجبت الأبناء وربتهم أحسن تربية ولم تقصر معهم ولم يمنعها العمى من التقصير في تربيتهم، لم تساعدها خادمة أو غيرها، تقوم على رعايتهم وإرضاعهم وخدمتهم بنفسها، تطبخ وتكنس وتقوم بجميع الأعمال المنزلية على أكمل وجه، بل هي من ربت أحفادها وترعرعوا في حضنها الدافيء وحنانها اللامحدود، رأيتها تقوم بكل ما تقوم به أي مبصرة، تحمم الأطفال الرضع وتجهز لهم الحليب وترضعهم وتقوم على شئونهم، إنها ترى من خلال اللمس والسمع والتذوق، أضاء الله بصيرتها ولم يمنعها العمى من أداء واجباتها في حياتها الخاصة أو العامة ولم تغب يوماً من الأيام عن عباداتها، إمرأة اشترت الآخرة وقدمتها على الدنيا، تركت النظر إلى جمال الدنيا وطبيعتها وملذاتها ورحلت إلى النظر إلى ملذات الإيمان وحياة الآخرة، فعلاً إنها إنسانة عظيمة ومكافحة ويندر وجودها ولم أصادف في حياتي إمرأة بطيبتها وخلقها وقلبها الكبير والمفتوح للجميع.
ولكن من خلال تجاربي في الحياة وما أشاهده في المجتمع، فإنني علمتُ بأن الأعمى ليس من لا يرى بل الأعمى الذي لا يشعر بنعم الله عليه ولا يراها ولا يتدبر فيها، فكم في حياتنا من بصير يرى بعينيه ولكن قلبه أعمى، وكم من أعمى ولكن قلبه يرى، وكلما أنظر إليها وأتذكرها أقول لنفسي ما يأخذ الله من إنسان شيء إلا أكرمه بأشياء أخرى، ويكفي انها لم تشوه بصرها بما حرم الله عزوجل ووقاها الله من شر المناظر القبيحة القذرة في هذه الدنيا وربما هي رحمة من الله بقلبها الرقيق الطيب وخلقها الرفيعة، وكلما انظر إليها أتيقن بإن الإعاقة ليست إعاقة الجسد ولكن الإعاقة إعاقة الاخلاق والروح والقلب.

 مبصرة في زمن أعمى


أصل الموضوع :

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©