موضوع عشوائي

آخر المواضيع

نصائح لطلاب العلم والدعاة إلى الله 10 - القصدَ القصدَ تبلغُوا

بسم الله الرحمن الرحيم
نصائح لطلاب العلم والدعاة إلى الله 10-  القصدَ القصدَ تبلغُوا
أثناء رحلتي العلمية والدعوية رأيت كثيرا من طلاب العلم يبدؤون بهمة تفوق كلَّ خيال ، وعزيمة تحطم الجبال ... سأختم القرآن في مدة وجيزة ، سأدرس علم كذا في أسبوع ، سأفعل وأفعل  .... في وقت يسير ، أول يوم ما شاء الله ، الله أكبر ! ثاني يوم قَلَّ الحماس ، ثالث يوم "لقد أتعبت نفسي كثيرًا ، لا بد أن أستريح" ، رابع يوم "أبحث عن شيء آخر ؛ لأني لم أستطع أن أبلغ ما أريد" وهكذا وتضيع حياة المسكين هدرا، لا هو صبر ليستفيد ، ولا هو حقق ما يريد .
أخي الحبيب ... هَوِّن عليك ، ما من طريق تسلكه أو علم تتعلمه إلا وينبغي أن يكون لك فيه مرشد وقائد ، يكون لك الدليلَ وينير لك السبيلَ ، ولو تجاهلت الضوابط والقواعد وسِرْت وحيدًا دون قائد صِرْت فريسة المصائد وأضحوكة الأوابِد (1) ، كمن يقود الدراجة النارية بغير تعليم أو حِرَفِيَّة ، يقول : "أقود بغير ونيس ، وأسبق كل عَسِيس" (2) ، وما هي إلا لحظات ونرى صاحبنا كَدَادِيسَ أو كَرَابِيسَ (3)  أو في قبضة البوليس ، ولو اتبع كل حَمِيس (4) ، وفهم كل رَسِيس(5) ، وصبر حتى يَمِيسَ أو يَرِيس(6) ، ويسير سير حثيث(7) ، ما رأيناه وسط المتاعيس ولا بين المفاليس .
والصورة أبلغ من ألف كلمة


 قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ ، وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا» . (8)
وفي رواية أخرى قال - صلوات ربي وسلامه عليه - : «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ (أي أول النهار) وَالرَّوْحَةِ (بعد الزوال) وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ (آخر الليل)» . (9)
 وقال - عليه الصلاة والسلام - : «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ» . (10) 
 واشتهر من كلام الحكماء "قليل دائم خير من كثير متقطع" ، و"ما كان لله دام واتصل ، وما كان لغير الله انقطع وانفصل" . (11)

هل سمعتم بمن حفظ القرآن في خمس دقائق ؟!
نعم ، إنها حقيقة ...

رجل كان ينتظر حافلة العمل كل يوم 5 دقائق ، يغتنم هذه الفرصة ؛ فيفتح مصحفه ، ويقرأ ويحفظ ما تيسر ، وهكذا يوميًا ، شهور معدودات وكان حافظًا لكتاب الله - تبارك وتعالى - .
كل ما نراه في حياتنا نأخذ منه الدروس والعِبَر ، الطعام الشهي لا يكون شهيًّا إلا إن أخذ وقته في الطهي أو الطهو ، ومن تعجله وأكله نيِّئًا تعب ، فلا هو تركه ليطيب ، ولا هو تمتع بأكله ، وكذا من يتعجل النظر إلى المحرمات ، قَالَ الأَصْمَعِيُّ : رَأَيْتُ جَارِيَةً بِالطَّوَافِ كَأَنَّهَا مَهَاةُ رَمْلٍ ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا ، وَأَمْلأُ عَيْنِي مِنْ مَحَاسِنِهَا ، فَقَالَتْ لِي : يَا هَذَا ، مَا شَأْنُكَ ؟ قُلْتُ : وَمَا عَلَيْكِ مِنَ النَّظَرِ ؟ فَأَنْشَأَتْ تَقُولُ :
 كُنْتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا ... لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَسْلَمَتْكَ الْمَحَاجِرُ 
 رَأَيْتَ الَّذِيَ لا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ ... عَلَيْهِ وَلا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ . (12)
ومن هنا قرر علماء الأصول "من تعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه" . (13)

قَالَ رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - : " إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ " . (14)
وزادت روايات أخرى : "وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ، وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى" (15) 
قال البغوي - رحمه الله - :
قَوْلُهُ: «فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ» فَالإِيغَالُ: السَّيْرُ الشَّدِيدُ، وَالإِمْعَانُ فِيهِ، وَالْوُغُولُ: الدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ، وَإِنْ لَمْ يَبْعُدْ فِيهِ، وَيُقَالُ لِلطُّفَيْلِيِّ: وَاغِلٌ.
وَالْمُنْبَتُّ: الَّذِي انْقَطَعَ فِي سَفَرِهِ، وَعَطِبَتْ رَاحِلَتُهُ، فَشَبَّهَ الْمُجْتَهِدَ فِي الْعِبَادَةِ حَتَّى يَحْسِرَ بِالَّذِي يُتْعِبُ نَفْسَهُ فِي السَّيْرِ بِلا فُتُورٍ حَتَّى تَعْطَبَ دَابَّتُهُ، فَيَبْقَى مُنْبَتًّا مُنْقَطِعًا، لَمْ يَقْضِ سَفَرَهُ، وَقَدْ أَعْطَبَ ظَهْرَهُ.

وَقَدْ قَالَ مُطَرِّفٌ لابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: الْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ، وَخَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، وَشَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ.
فَقَوْلُهُ: «وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ» يُرِيدُ أَنَّ الْغُلُوَّ فِي الْعَمَلِ سَيِّئَةٌ، وَالتَّقْصِيرَ سَيِّئَةٌ، وَالْحَسَنَةَ الْقَصْدُ، 
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الْفرْقَان: 67]
 وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الْإِسْرَاء: 29] .
وَالْحَقْحَقَةُ: أَنْ تَحْمِلَ الدَّابَّةَ عَلَى مَا لَا تُطِيقُهُ حَتَّى يُبْدِعَ بِرَاكِبِهَا.
قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ دِينَ اللَّهِ وُضِعَ فَوْقَ التَّقْصِيرِ وَدُونَ الْغُلُوِّ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ. (16)
وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «السَّمْتُ الحَسَنُ، وَالتُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَادُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» . (17) 

حبيبي في الله ...
نصيحتي لك بإيجاز ، عليك بَمَرْكَبِ الحب ، وطريق الصبر ، ووقود الإخلاص ، ومِفتَاح اليقين تبلغ ما تريد بإذن الله .

ويرحم الله الشافعي إذ يقول :
أخي لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاءٌ ، وحرصٌ ، وافتقارٌ ، وغُرْبَة ... وتلقينُ أستاذ ، وطولُ زمانِ (18)
لا تلتفت ، يقول علماؤنا "إن الغزالة أسرع من الأسد ، ومع ذلك يأكلها الأسد ! لماذا ؟! لأنها تكثر الالتفات ، والأسد لا يلتفت" 
ولو أقيم سباق بين سلحفاة مهتمة بالفوز وأرنب لا يهمه السباق لفازت السلحفاة رغم بطئها ، لماذا ؟!
لأنها مهتمة بالفوز وثابتة في طريقها ولا تلتفت حتى تصل ، لكن الأرنب كلما ظهر له شيء انشغل به عن السباق فخسر .
 
العلم لا يعطيك بعضه إلا إن أعطيته كلك ، وأما إذا أعطيته بعضك فلن يعطيك شيئًا ، فلا بد أن تتعب وتدفع الضريبة كاملة لتبلغ المجد ...
قال رجل من بني أسدٍ :
دَبَبْتَ لِلْمَجْدِ وَالسَّاعُونَ قَدْ بَلَغُوا *** جَهْدَ النُّفُوسِ وَأَلْقَوْا دُونَه الأُزُرَا
فَكَابَدُوا الْمَجْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُمْ *** وَعَانَقَ الْمَجْدَ مَنْ أَوْفَى وَمَنْ صَبَرَا
لا تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ *** لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرَا (19)
أختم موضوعي بقول الإمام الشافعي - رحمه الله - :
سَهَرِي لِتَنْقِيحِ العُلُومِ أَلَذُّ لِي ... مِنْ وَصْلِ غَانِيَةٍ وَطِيبِ عِنَاقِ
وَصَرِيرُ أَقْلاَمِي عَلَى صَفَحَاتِهَا ... أَحْلَى مِنَ الدَّوْكَاءِ(20) وَالعُشَّاقِ

وَأَلَذُّ مِنْ نَقْرِ الفَتَاةِ لِدُفِّهَا ... نَقْرِي لِأُلْقِي الرَّمْلَ عَنْ أَوْرَاقِي
وَتَمَايُلِي طَرَبًا لِحَلِّ عَوِيصَةٍ ... فِي الدَّرْسِ أَشْهَى مِنْ مُدَامَةِ سَاقِي
وَأَبِيتُ سَهْرَانَ الدُّجَى وَتَبِيتُهُ ... نَوْمًا وَتَبْغِي بَعْدَ ذَاكَ لَحَاقِي (21)


أسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، وأن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم ، ويتقبل منا أجمعين ، ويجمعنا مع إمام الأنبياء والمرسلين وقائد المتقين والغُرِّ المُحَجَّلين سيدنا محمد - صلى الله  عليه وآله وسلم - وصحبه الكرام الصابرين الصادقين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)  المصائب ، جمع آبِدَة .
(2)  ذئب . 
(3) كداديسَ أي أكوامًا، وكرابيس أي يمشي مِشْيَةَ المقيد .
(4) أي شجاع وشديد .
(5) أي البدء والبقية والأثر ، والمقصود تفاصيل القيادة .
(6) أي يمشي متبخترًا ؛ كناية عن التمكن في القيادة .
(7) أي سريع .
(8) رواه البخاري (6463) (8/ 98).
(9) رواه البخاري (39) (1/ 16) .
(10) رواه مسلم (2818) (4/ 2171) .
(11) لا يعرف قائلهما ، وفي وفيات الأعيان لابن خلكان إشارة للأول "قليل دائم .." (3/476) في ترجمة عمرو بن مسعدة عن مشاركة الأخ أبي السها بموضوع ملتقى أهل الحديث .
(12) اعتلال القلوب للخرائطي (260) .
(13) انظر على سبيل المثال المنثور للزركشي (3/ 205) .
(14) حسن ، رواه أحمد (13052) (20/ 346) والضياء في المختارة (2115) (6/ 120) وغيرهما .
(15) ابن المبارك في الزهد (1178) (1/ 415) وغيره . وهي روايات ضعيفة الإسناد ، ولا خلاف على صحة معناها . 
(16) شرح السنة (4/ 51 ، 52) .  
(17) حسن ، رواه الترمذي (2010) (4/ 366) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1105) (2/ 336) وغيرهما . 
(18) هكذا سمعناها من بعض علمائنا ، ونقلها الأبشيهي هكذا : ذكاء وحرص واجتهاد وبُلْغَة ... وصحبة أستاذ وطول زمان . المستطرف (1/ 30) .
(19) شرح ديوان الحماسة للأصفهاني (1/ 1056) .
(20) العلاقة التي تكون بين المرء وزوجه ، يقال داكَ المَرأَةَ {يَدُوكُها} دَوْكًا، وباكَها يَبُوكُها بَوْكًا . تاج العروس (27/ 163) .
(21) صيد الأفكار للقاضي حسين المهدي (2/ 349) وديوان الشافعي (74) عن مقال لذة العلم للأستاذ عبد الذريبي ، منشور بموقع الألوكة .



الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©