بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا
محمد وآله وصحبه أجمعين ، وبعد ...
فقد تردد على أسماع المسلمين كثيرًا وبخاصة في
الأيام السابقة مصطلح الليبرالية ، وبصورة مباشرة أو غير مباشرة وجدنا كثيرا من
دعاة هذا الفكر يرفضون هيمنة الإسلام على أكثر شئون الحياة في الدولة المسلمة ؛
فما هي الليبرالية ؟ ، وما هي أهدافها وأخطارها ؟ ، وهل الإسلام يؤيدها أم يرفضها
؟ ، هذه رسالة موجزة في الليبرالية ولعل الله أن ينفع بها المسلمين عامة
والليبراليين خاصة . وبالله التوفيق .
الليبرالية مصطلح أجنبي معرب مأخوذ من
(liberalism) في الإنجليزية ، و (liberalisme) في الفرنسية ؛ وتعني التحررية
، فهي مشتقة من (liberty) في الإنجليزية ، أو (liberte) في الفرنسية ، ومعناها الحرية
. ويرجع أصل اشتقاق كلمة ليبرالية إلى ( (liberوهي كلمة لاتينية تعني الحر .
وهذا المذهب الفكري يدعو إلى الحرية الفردية ،
ويدافع عن استقلال الأفراد ، وحريتهم الشخصية والفكرية والتعبيرية ، ويسعى إلى تقليص دور السلطة سواء كانت سلطة حكومية أو سلطة دينية ، إذن
الليبرالية تسير مع العلمانية - بفتح العين - في هذا الاتجاه في فصل الدين عن
الدولة ، تقول الموسوعة الأمريكية الأكاديمية : ((إن النظام الليبرالي الجديد
(الذي ارتسم في فكر عصر التنوير) بدأ يضع الإنسان بدلا من الإله في وسط الأشياء ؛
فالناس بعقولهم المفكرة يستطيعون أن يفهموا كل شيء ، ويمكنهم أن يطوروا أنفسهم
ومجتمعاتهم عبر فعل نظامي وعقلاني . ا . هـ ، ((وقد أطلق مصطلح الليبرالية على عدة أمور ، من
أهمها : حركة فكرية ضمن البروتستانتية المعاصرة ، وسميت بالليبرالية ؛ لأنها تعتمد
على حرية التفكير ، وانتهاج الفكر العقلاني في التعامل مع النصوص الدينية ، يقول
برتراند راسل : (بدأ يظهر في أعقاب عصر الإصلاح الديني موقف جديد إزاء السياسة
والفلسفة في شمال أوروبا ، وقد ظهر هذا الموقف بوصفه رد فعل على فترة الحروب
الدينية والخضوع لروما مركزا في انجلترا وهولندا ... ويطلق على هذا الموقف الجديد
تجاه مشكلات الميدان الثقافي والاجتماعي
اسم الليبرالية ، وهي تسمية اقرب للغموض ، ثم قال : والواقع أنها أقرب بكثير إلى
أن تكون تطورا للفكرة البروتستانتيّة القائلة : عن على كل فرد أن يسوّي أموره مع
الله بطريقته الخاصة ، هذا فضلا عن أن التعصب والتزمت يضر بالأعمال الإقتصادية .
يقول منير البعلبكي : (كما يطلق لفظ الليبرالية
كذلك على حركة في البروتستانتيّة المعاصرة تؤكد على الحرية العقلية ، وعلى مضمون
النصرانية الروحي والأخلاقي ، وقد كان من آثار هذه الحركة انتهاج الطريقة
التاريخية في تفسير الأناجيل (أي إلغاء مدلول النص الديني وادعاء تاريخيته ؛
ليتوافق مع العصر) ).
وقد نشأت الليبرالية كردة فعل غير واعية بذاتها ضد
مظالم الكنيسة والإقطاع ، ثم تشكلت في كل بلد بصورة خاصة ، وكانت وراء الثورات
الكبرى في العالم الغربي )) (حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها (15:12) ) ،
وتقول الموسوعة البريطانية : (ونادرا ما توجد حركة ليبرالية لم يصبها الغموض ، بل
إن بعضها تنهار بسببه) ، وفيها أيضا : (وحيث أن كلمة Liberty ((الحرية)) هي كلمة يكتنفها الغموض فكذلك هو
الحال مع كلمة ليبرالي ؛ فالليبرالي قد يؤمن بان الحرية مسألة خاصة بالفرد دون
غيره ، وأن دور الدولة يجب أن يكون محدودا ، أو قد يؤمن بان الحرية هي شأن خاص
بالدولة ، وأن الدولة باستطاعتها أو يمكن استخدامها بمثابة أداة لتعزيز الحرية .
قال الأستاذ سليمان الخراشي : (وقد خرجت أفكار من
رحم الحرية التي تعتبر المكون الأساسي لليبرالية مثل الفاشية والنازية والشيوعية
فكل واحدة من هذه المذاهب تنادي بالحرية ، وتعتبر نفسها الممثل الشرعي لعصر
التنوير وتتهم غيرها بأنه ضد الحرية ، وقد حصل التنازع بين اتجاهات الليبرالية في
تكييف الحرية ، والبرامج المحققة لها ، ومن هذا المنطلق جاء المفهوم السلبي ،
والمفهوم الإيجابي للحرية .(حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها (ص 18) ).
ويعتمد الفكر الليبرالي على ثلاثة أشياء الحرية –
الفردية – العقلانية .
أقول وهذا ما رأيناه من دعاة
الليبرالية بمصر ، ولكن دعونا نناقش بعض الأمور في تعريف الليبرالية وما تعتمد
عليه من أفكار :-
أولا : اجتماعيا نجد التعريف مطاطيا فما معنى
الحرية ، وما ضوابطها ، وهل هناك سقف لهذه الحرية ؟ فلو أجاب الليبراليون بأن
الحرية هي انطلاق الإنسان في الحياة بغير قيود ، وأن الليبرالية تحافظ على حقوق
الأفراد والأقليات في أن يفعلوا ما يشاءون حتى وإن كان فعلهم مخالفا لأي مذهب ،
ونقول هذه ليست حرية ، وإنما هي انفلات وهمجية ، حتى وإن كان الإنسان لا يؤذي
الآخرين ، بل يؤذي نفسه فقط ، وهل وضع الليبراليون ضوابط لهذه الحرية ؟ مثلا رجل
يعانق امرأة في الطريق أو في التلفاز أمام الناس برضاها ، هل هو بذلك يؤذي نفسه
بعلاقة محرمة أم يؤذي الناس ، فإن قيل يؤذي نفسه فقط ، قلت هذا إن كان يفعل هذا
الأمر في خفاء ، ولكن ما دام علانية فإنه يؤذي الناس ؛ لأن هذا الفعل بوقاحته
سيترتب عليه إثارة لشهوات كامنة عند بعض الأفراد ، وتقليد أعمى ، وإفساد لسلوك
الناشئة الصغار ، وخروج المجتمع من إطار الحياء إلى التفسخ والانحلال واللا مبالاة
، وهذا يقود إلى ضياع الأفراد ، ومن ثَمّ ضياع المجتمع ، والواقع خير شاهد على ذلك
، مثال آخر رجل يعتقد معتقدات باطلة وينشرها بين الناس ، هذا في الظاهر أنه حرية
ولكن ترك هذا الأمر وغيره يحدث من غير نصح أو توجيه لفاعليه أو وجود رادع أو عقوبة
له من السلطة الحكومية ، يحول المجتمع الشرقي إلى مجتمع غربي متحلل لا يأبه للدين
أو ينضوي تحت لوائه ، نعم لا يستطيع أي نظام أن يحكم أفكار الناس بالسيف ، ولكن
فتح باب الحرية والتحرر بإطلاق يفرز عند كل شخص مفهوما لحريته وفق المعايير التي
يمليها عليه تفكيره صحيحا كان أم سقيما ، رغم أن جون لوك وهو من كبار المنظرين
للفكر الليبرالي يتفق مع ما قررته ؛ فقد قال في رسالة التسامح (ص 55) :
إن الحاكم ينبغي عليه ألا يتسامح مع الآراء
المضادة للمجتمع الإنساني أو مع القواعد الأخلاقية الضرورية للمحافظة على المجتمع
المدني ، ثم ذكر أمثلة لذلك ومنها يفهم :
إنه لا يمكن
التسامح مع أتباع الديانات الأخرى في الدولة المدنية البروتستانتية : كالكاثوليك لأنهم يتبعون تعاليم بابا الفاتيكان الذي يخضع -
بدوره - لأمير إيطالي ، وكالمسلمين الذين يتبعون تعاليم مفتي القسطنطينية الذي يخضع
للسلطان العثماني ، ثم يقول : وأخيرًا لا يمكن التسامح على الإطلاق مع الذين ينكرون وجود
الله . فالوعد والعهد والقسم ، من حيث هي روابط المجتمع البشري ليس لها قيمة
بالنسبة للملحد . فإنكار الله ، حتى لو كان بالفكر فقط ، يفكك جميع الأشياء .
وفي رسالته (الحكومة المدنية) (ص 15،14) ينقل لوك
عن هوكر قوله : إن الحافز الطبيعي قد دفع الناس إلى الإيمان بأن واجبهم نحو حب
الآخرين ، لا يقل عن واجبهم نحو حبهم لأنفسهم ، وحيث أن مبدأ المساواة يقتضي من
الأفراد المتساوين الخضوع لقانون واحد ، فإنني إذا كنت لا أملك تحقيق الخير لنفسي
كما يملك غيري ، فكيف يمكنني إرضاء أي رغبة من رغباتي ما لم اكن حريصا على غرضاء
الرغبات المماثلة للآخرين ، وهي رغبات حقيقية ؛ لأنها تحمل طبيعة رغباتي . إن حصول
الآخرين على ما يتعارض ورغباتهم لا بد أن يثير في نفسي من الحزن ما يثير في نفوسهم
، إذ يجب أن انتظر العقاب لو تسببت في إيقاع الأذى بالآخرين )) ثم يعقب لوك فيقول
: ورغم أن هذا معناه الحرية إلا أنها ليست حرية مطلقة ؛ إذ أن لها حدودا لا يمكن
للمرء أن يتخطاها ؛ فهو لا يملك حرية قتل نفسه ، وكذلك بالنسبة لما يمتلكه ، اللهم
إلا إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك . وللطبيعة قوانينها التي يخضع لها كل إنسان :
فالجميع متساوون مستقلون، وليس لأحد أن يسيء إلى أخيه في حياته ، أو في صحته ، أو
حريته ، أو ممتلكاته ؛ فالناس جميعا عاملون في هذا الكون الذي صنعه الخالق ، وأتى
بهم على خضمّة ؛ لأنه شاء ذلك ، أتى بهم لكي يعملوا من أجله ، فهو مالكهم الذي يوجههم
كيفما شاء ، ورائدهم في ما يفعلون ابتغاء مرضاته ، ومن أجل هذا يجتمعون ويتقاسمون
ما تمنحه لهم الطبيعة ؛ لذا تختفي مظاهر التبعية التي تدفع بعضهم إلى الرغبة في
السيطرة على الآخرين ، والإضرار بهم ، ولا يبقى في القلب سوى حب الخير . ا . هـ .
قلت يا ليت الليبراليين يعتقدون هذا الكلام عن
الخالق سبحانه ((فهو مالكهم الذي يوجههم كيفما شاء ، ورائدهم في ما يفعلون ابتغاء
مرضاته))
وبهذا المفهوم السابق يستوي دعاة الحق والفضيلة مع
دعاة الباطل والرذيلة ، وتتحول الدولة إلى غابة أو صحراء موحشة ، وسيكون السواد
الأعظم من الشعب أتباعا للأهواء ، فلا يتحقق التقدم المنشود لا في مجال السلوك
والأخلاق ولا في مجال العلوم والفنون .
أقول لدعاة الليبرالية إن الإسلام هو دين التحرير
القويم ، دين يحرر العبيد بعبادة خالقهم الذي هو أعلم بما يصلحهم ((أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ)) (14 الملك) ، ولا يأسرهم بقيود الشبهات والشهوات كما فعلت الليبرالية
الحديثة فلا صلحت الدنيا ولا بقيت الآخرة ، ولما سأل رستم زعيم فرس الصحابيَ
الجليل ربعي بن عامر - الذي أرسله سعد بن أبي وقاص إلى فارس- عن سبب مجيء المسلمين
إلى الفرس, فقال لهم: الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد
إلى عبادة الله, ومن ضيق الدنيا إلى سعتها, ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
ليست هناك تعليقات: