موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة حكم من مدرسة الحياة 4-القرآن للإنسان كالروح للجثمان

بسم الله الرحمن الرحيم
الحكمة الرابعة : القرآن للإنسان كالروح للجثمان .

"القرآن لغةً مصدر قرأ بمعنى تلا ، يقال قَرَأَ قِراءَةً وقُرْءَنًا فالقرآن متلو (اسم مفعول) ، أو بمعنى جَمَع ، يقال قَرَأَ قَرْءَا قُرْءَانًا مثل غَفَر غَفْرًا غُفْرَانًا فالقرآن جامع للعقيدة والأخبار والأحكام" . (أصول في التفسير للعلامة ابن عثيمين رحمه الله ص 9 بتصرف) ،
والقرآن اصطلاحًا "كلام الله المنزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، بوساطة الوحي - روح القدس - منجما في شكل آيات ، وسور خلال فترة الرسالة (ثلاث وعشرين سنة) ، مبدوءًا بفاتحة الكتاب ، مختومًا بسورة الناس ، منقولًا بالتواتر المطلق ، برهانًا معجزًا على صدق رسالة الإسلام" . (حديث عن القرآن ، د/عبد الصبور شاهين رحمه الله ص 15) .
يقول الله تعالى في كتابه العظيم :
(( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (الأنعام 122) .

وقال عز وجل :
((وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) (الشورى 52) .

قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله : ((وَلكِنْ جَعَلْناهُ)) في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن. والثاني:
إلى الإِيمان. نُوراً أي: ضياءً ودليلاً على التوحيد نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا إلى دِين الحق. (زاد المسير (4/71)) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ» . رواه البخاري (6407) (8/86) ، وفي حديث آخر : «مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» . رواه مسلم (779) (1/539) .

والإنسان يتركب من ثلاثة أشياء ، روح علوية ، وجسد سفلي ، ونفس تتردد بينهما ، فإن علت النفس للأعمال الروحانية العلوية ارتقت برقي تلك الأعمال حتى تصل لمرحلة الكرامات والذهول عن الأطعمة والمشروبات ، وهو طريق الأنبياء والأولياء ، وإن تسفلت النفس بشهوات الجسد السفلية انحطت بمقدار انحطاط تلك الأعمال حتى تصل إلى مرحلة الحيوانية بل أضل ، وهو طريق الأشقياء .
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته ... أتطلب الربح مما فيه خسرانُ
أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ

فرق كبير بين من يعيش في ظلمات الكفر والعصيان وبين من هداه الله إلى نور التوحيد ، وحينما نتدبر القرآن الكريم نجد مقارنة بديعة بين الفريقين كما في قوله تعالى : ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)) (محمد 14) ، وقال سبحانه :
((مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)) (هود 24)
وأحيانًا لا يذكر الطرف الثاني تحقيرًا لشأنه أو لأن ظلمات الشك والشرك لا تقوى على مجابهة نور الإسلام ؛ ومثال ذلك قول الله تعالى :

((أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)) (الزمر 22) .

وإذا كان الكون كله يسبح الخالق سبحانه وتعالى فلم يتأخر مريد الحق عن ذكر الله تعالى ، قال عز وجل : ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)) (الإسراء 44) ، ولا يتساهلون في تنفيذ أمر الله بالتسبيح ، فهم مجبولون على الطاعة إلا من عصى من الإنس والجن فهو شاذ مخالف لما حوله في الكون ، حتى قيل إن الكافر يسجد للصنم وظله يسجد للصمد ((وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ )) ، وسواء كان المقصود بالسجود امتثالَ الأمر أو سجود بأسلوب لا نعلمه ولا تطيقه عقولنا القاصرة ، أو هما معًا ، نقول ما يبدو لنا ونراه بأعيننا أن تسبيحَ الشمس الشروق والغروب وتسبيحَ المؤمن توحيدُ علام الغيوب" ، والله أعلم .
ومن جمال الإسلام أن جعل الله السعادة محصورة في الإيمان ، فلا مالٌ ولا طعامٌ ولا جاهٌ ولا سلطانٌ ولا ثيابٌ ولا نساءٌ ، كل ذلك وغيره سواء ، فلذائذ الدنيا كلها متعٌ زائلة لا تقارن كما قال مؤمن آل فرعون : ((يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)) (39 المؤمن) يقول لهم يا أيها الناس الدنيا دار ممر وليست دار مقر ؛ فاعبروها ولا تعمروها ، والمتاع كما قال بعض شيوخنا رحمهم الله لذة سريعة كالذي يشتري حذاءً جديدا يفرح به يومين وسرعان ما يبلى ويمل منه ، أو قصرا مشيدا ثم يمر شهر أو شهران فيتحول عنه ، السعادة أسمى من كل هذه الشهوات ، والمتاع الحقيقي المستمر هو السعادة الحقيقية في الدنيا والتي تستمر في الآخرة أيضا بفضل الله للمؤمنين كما قال تعالى : ((وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) (3 هود)
وتتلخص السعادة في قول الله سبحانه :
((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (النحل 97) .

(وانظر إن شئت مقال المتعة والسعادة في سطور (في الرابط التالي) :

http://www.zdnyilma.com/vb/index.php?page=to pic&show=1&id=77&count=36#2737
ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على أمته أن تشغلهم الدنيا بلهوها ولعبها عن ذكر الله فيلعنهم الله كما لعن الغافلين في كل زمان ، فقال صلى الله عليه وسلم : «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ، وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ ، إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً (أي حسرة)، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ» . صحيح رواه الترمذي (3380) (5/461) ، والطيالسي (2430) (4/74) وغيرهما .
وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللَّهَ اذْكُرُوا اللَّهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ» قَالَ أُبَيٌّ (ابن كعب رضي الله عنه ) : قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ فَقَالَ: «مَا شِئْتَ» . قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ، قَالَ: «مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» ، قُلْتُ: النِّصْفَ، قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» ، قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ، قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» ، قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا قَالَ: «إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ» . حسن رواه الترمذي (2457) (4/636) ومحمد بن نصر المَرْوَزِي في قيام الليل (1/95) وغيرهما .
بل بلغ من فضل الذِّكْرِ أنه يفوق الجهاد في سبيل الله كما قال صلى الله عليه وسلم :
«أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ» ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى»
وقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: «مَا شَيْءٌ أَنْجَى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» . حسن رواه الترمذي (3377) (5/459) ومالك (716) (2/295) وغيرهما .
فمن أحياه الله بهذه النفحات الإلهية من ذكر رب البرية كافأه الله في الدار الآخرة بالرَوْحِ أي الفرج والرُّوح أي الحياة الحقيقية ، قال الله تعالى :
((فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ)) (الواقعة 89) .

وفي معنى الرَّوْحِ "ستة أقوال : أحدها: الفرح، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني:
الراحة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: المغفرة والرحمة، رواه العوفي عن ابن عباس.
والرابع: الجنة، قاله مجاهد. والخامس: رَوْحٌ من الغَمّ الذي كانوا فيه، قاله محمد بن كعب.
والسادس: رَوْح في القبر، أي: طيب نسيم، قاله ابن قتيبة.
وقرأ أبو بكر الصديق، وأبو رزين، والحسن، وعكرمة وابن يعمر، وقتادة، ورويس عن يعقوب، وابن أبي سُريج عن الكسائي: «فَرُوْحٌ» برفع الراء. وفي معنى هذه القراءة قولان: أحدهما: أن معناها: فرحمة، قاله قتادة. والثاني: فحياة وبقاءٌ، قاله ابن قتيبة. وقال الزجاج: معناه: فحياة دائمة لا موت معها".(زاد المسير 4/230)
قلت : وأختار القول الأخير في توجيه رواية رويس لقوله تعالى : ((وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) (العنكبوت 64) .
ومهما تكلمت عن فضل ذكر الله تعالى فلن أوفي الموضوع حقه ، فإن كان الأمر كذلك ، فما بالنا بأعظم ذكر ألا وهو تلاوة القرآن ، كلام الرحمن سبحانه وتعالى ، يكفينا في هذا المقام آية وحديث :
يقول الله سبحانه :
(( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ )) (فاطر 30)

لو تأملنا هذه الآية الكريمة لوجدنا عجبًا :
أولًا : التلاوة لها معنيان القراءة والاتباع ، فنحن مأمورون بأن نقرأ القرآن بألسنتنا ونتبعه بقلوبنا وجوارحنا وأعمالنا .
ثانيًا : قال الله سبحانه "يتلون" ولم يقل "تَلَوْا" لأن "يتلون" فعل مضارع يدل على التجدد والاستمرار كما قال سبحانه لحبيبه صلى الله عليه وسلم :

((إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ)) (النمل 92) .
وكنا - وما زلنا - نقرأ على شيوخنا فإذا بلغنا سورة الناس قالوا اقرأ الفاتحة وخمس البقرة كما قرأنا ، وظللت هكذا حتى ظفرت بمتن طيبة النشر للعلامة ابن الجزري رحمه الله فوجدت قوله في آخرها :
ثُمَّ اقْرَإِ الْحَمْدَ وَخَمْسَ الْبَقَرَهْ ... إِنْ شِئْتَ حِلاًّ وَارْتِحَالاً ذَكَرَهْ
فقال شيوخنا كما في الأثر "خير الأعمال أن تكون كالحال المرتحل ؛ الذي كلما حلّ ارتحل" ، كلما حللت من ختمة شرعت في ختمة جديدة ؛ فالرواية تتلوها الرواية ، والقراءة تتلوها القراءة ، والعلم يتلوه العمل ، والقراءة يتلوها التدبر ، وهكذا يظل الإنسان في جنات قرآنية يتنقل بين أفنانها وزهورها حتى يلقى الله تعالى ثم يتوقف قليلا لنعيم القبر ثم يعود إلى خير جليس مرة أخرى : " يُقَالُ - يَعْنِي لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ -: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا " . حديث صحيح رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما ، نسأل الله أن يجعلنا جميعا كذلك .
ثالثًا : في الآية استعارة تصريحية : شَبَّهَ تلاوة المؤمن للقرآن الكريم بالتجارة الرابحة "لن تَبُورَ" ثم حذف المشبه وأبقى على المشبه به ، والتجارة تذكر كثيرا في القرآن ؛ لأن تسعة أعشار الربح في التجارة ، ولا ولم ولن تقوم لدولة قائمة بغير تجارة ، وتأمل في "لن تبور" لأن أكثر التجار يخافون من الخسارة قبل أن يبتدؤوا تجارتهم ، تجارة مع الله لا تخسر أبدًا .
رابعًا : (إنه غفور) غفور بوزن فعول صيغة مبالغة من كثرة المغفرة ، وأصل الغفر التغطية ،
(شكور) قال الخطّابي: هو الذي يشكُر اليسيرَ من الطاعة، فيُثيب عليه الكثير من الثواب، ويُعطي الجزيل من النِّعمة، ويرضي باليسير من الشُّكر ومعنى الشُّكر المضاف إِليه: الرِّضى بيسير الطَّاعة من العبد، والقبول له، وإِعظام الثواب عليه وقد يحتمل أن يكون معنى الثناء على الله بالشّكور ترغيب الخَلْق في الطاعة قلَّت أو كَثُرت، لئلاَّ يَسْتَقِلُّوا القليل من العمل، ولا يتركوا اليسير منه. (زاد المسير لابن الجوزي 3 / 510 ، 511) .
قال ابن فارس : (غَفَرَ) الْغَيْنُ وَالْفَاءُ وَالرَّاءُ عُظْمُ بَابِهِ السَّتْرُ، ثُمَّ يَشِذُّ عَنْهُ مَا يُذْكَرُ. فَالْغَفْرُ: السَّتْرُ. وَالْغُفْرَانُ وَالْغَفْرُ بِمَعْنًى. يُقَالُ: غَفَرَ اللَّهُ ذَنْبَهُ غَفْرًا وَمَغْفِرَةً وَغُفْرَانًا. قَالَ فِي الْغَفْرِ:
فِي ظِلِّ مَنْ عَنَتِ الْوُجُوهُ لَهُ ... مَلِكِ الْمُلُوكِ وَمَالِكِ الْغَفْرِ .(مقاييس اللغة 4 / 385) .
(شَكَرَ) الشِّينُ وَالْكَافُ وَالرَّاءُ أُصُولٌ أَرْبَعَةٌ مُتَبَايِنَةٌ بَعِيدَةُ الْقِيَاسِ. فَالْأَوَّلُ: الشُّكْرُ: الثَّنَاءُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِمَعْرُوفٍ يُولِيكَهُ. وَيُقَالُ إِنَّ حَقِيقَةَ الشُّكْرِ الرِّضَا بِالْيَسِيرِ. يَقُولُونَ: فَرَسٌ شَكُورٌ، إِذَا كَفَاهُ لِسِمَنِهِ الْعَلَفُ الْقَلِيلُ. (مقاييس اللغة 3 / 207 ، 208) .
وبعد هذه الآية العظيمة يقول الله تعالى :
((وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ))(32 فاطر)
وقد قال بعض السلف رحمهم الله : "ظالمنا مغفورٌ له ، ومقتصدنا ناجٍ ، وسابقنا سابقٌ"

ثم يقول الله عز وجل في الأصناف الثلاثة :
((جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)) (33) وقرأها أبو عمرو "يُدْخَلُونَهَا" مبنية للمفعول ؛ أي يدخلهم الله الجنان ويهبهم الرضوان فضلا من ربك وليس الثواب مكافئًا لأعمالهم ، ولهذا قال بعض الفضلاء حُقَّ لهذه الواو في "يدخلونها" أن تكتب بماء العين ؛ لأنها تشمل كل أهل القرآن باختلاف أعمالهم ، قرأ المدنيان وعاصم "وَلُؤْلُؤًا" بالنصب عطفًا على محل الجار والمجرور أي يحلون أساورَ ولؤلؤًا ، أو مفعولًا لفعل محذوف تقديره ويؤتون لؤلؤًا ، وقرأ الجمهور "وَلُؤْلُؤٍ" بالخفض عطفًا على المخفوض "ذَهَبٍ" (المهذب 2 / 267) ، ثم يقول الله سبحانه :
((وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)) (فاطر 35)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((يَجيء القرآن يومَ القيامة كالرجل الشاحب، يقول لصاحبه: هل تعرفني أنا الذي كنت أسهر ليلَك، وأظمئ هواجرك، وإنَّ كل تاجر من وراء تجارته، وأنا لك اليوم من وراء كل تاجر، فيُعطى المُلك بيمينه، والخُلْد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويُكسى والداه حلتين لا يقوم لهما الدنيا وما فيها، فيقولان: يا رب أنَّى لنا هذا؟ فيقال لهما: بتعليم ولدكما القرآن، وإن صاحب القرآن يقال له يومَ القيامة: اقرأ وارقَ في الدرجات، ورَتِّلْ كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية معك)).صحيح رواه الطبراني في الأوسط (5764) (6/51)، وأحمد في المسند (23000) (5/348) وغيرهما .
وها هو الإمام الشاطبي - رضي الله عنه - يقول :
وَإِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَوْثَقُ شَافِعٍ ... وَأَغْنَى غَنَاءٍ وَاهِبًا مُتَفَضِّلاَ
وَخَيْرُ جَلِيسٍ لاَ يُمَلُّ حَدِيثُهُ ... وَتَرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلاَ
وَحَيْثُ الْفَتَى يَرْتَاعُ فِي ظُلُمَاتِهِ ... مِنَ الْقَبْرِ يَلْقَاهُ سَنًا مُتَهَلِّلاَ
هُنَالِكَ يَهْنِيهِ مَقِيلاً وَرَوْضَةً ... وَمِنْ أَجْلِهِ فِي ذِرْوَةِ الْعِزِّ يُجْتَلَى
يُنَاشِدُ فِي إِرْضَائِهِ لِحَبِيبِهِ ... وَأَجْدِرْ بِهِ سُؤْلاً إِلَيْهِ مُوَصَّلاَ

فَيَا أَيُّهَا الْقَارِي بِهِ مُتَمَسِّكًا ... مُجِلاًّ لَهُ فِي كُلٍّ حَالٍ مُبَجِّلاَ
هَنِيئًا مَرِيئًا وَالِدَاكَ عَلَيْهِمَا ... مَلاَبِسُ أَنْوَارٍ مِنَ التَّاجِ وَالْحُلاَ
فَمَا ظَنُّكُمْ بِالنَّجْلِ عِنْدَ جَزَائِهِ ... أُولَئِكَ أَهْلُ اللَّهِ وَالصَّفْوَةِ الْمَلاَ
أُولُو الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّبْرِ وَالتُّقَى ... حُلاَهُمْ بِهَا جَاءَ الْقُرَانُ مُفَصَّلاَ
عَلَيْكَ بِهَا مَا عِشْتَ فِيهَا مُنَافِسًا ... وَبِعْ نَفْسَكَ الدُّنْيَا بِأَنْفَاسِهَا الْعُلاَ

جَزَى اللَّهُ بِالْخَيْرَاتِ عَنَّا أَئِمَّةً ... لَنَا نَقَلُوا الْقُرَآنَ عَذْبًا وَسَلْسَلاَ

ولكن يبقى السؤال متى يكون القرآن لنا روحًا ؟! .......
عندما نتلقاه بقلوبنا كما تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم .
أسأل الله أن ينفعنا ببركات القرآن الكريم في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©