موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة عبر من قصص العلماء (توطئة و1-قصة ربيعة الرأي)

بسم الله الرحمن الرحيم
سلسلة عبر من قصص العلماء 
توطئة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فإن أسلوب القصص من أروع الأساليب في إيصال العلم ؛ فكم من ضال هداه الله بقصة فيها عبرة ، لا سيما إن كنت قصة قرآنية أو نبوية ، ومن أجل ذلك كان ثلث القرآن الكريم قصصا وأخبارًا ، وقال الله - سبحانه - :
((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)) (يوسف - صلى الله عليه وسلم - 111) ، 
والمتصفح لسير العلماء يجد العجائب والغرائب التي تدل على صبرهم وتحملهم في سبيل تعلم العلم الصحيح ونشره ، ولا غَرْوَ فإن العلماء ورثة الأنبياء ، وكم لاقى الأنبياء من أذى ليبلغوا دعوة الله لخلق الله ، وقد ذكر الله - تعالى - قصة موسى - صلى الله عليه وسلم - في كثير من مواضع القرآن الكريم ؛ لما فيها من الفوائد والعبر ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما سمع بعض ما يؤذيه : ((رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ)) (1) .
ومن هذا المنطلق نفتتح بحول الله وتوفيقه وقوته هذه السلسلة المباركة بإذن الله ، وباب المشاركة - كما هي العادة - مفتوح للجميع ، ولن يكون حديثنا عن جانب الصبر والتحمل فقط ، وإنما كل ما يحيط بحياة العلماء من نجاحات أو كرامات أو أسرار تَقَدُّم أو أنوار تَفَهُّم ، وبالله التوفيق ، والحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين . 

....................................................................
 
1- قصة رَبِيْعَةُ الرَّأْيُ بنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَرُّوْخٍ التَّيْمِيُّ - (ت 136 و قيل 133 و قيل 142 هـ ) - من صغار التابعين ، وهو شيخ الإمام مالك - (ت 179 هـ) رحمه الله - .
خرج فروخ أبو عَبْد الرَّحْمَنِ أَبُو رَبِيعَة فِي البعوث إِلَى خراسان أيام بني أمية غازيا، وَربيعة حمل فِي بطن أمه، وَخلف عند زوجته أم رَبِيعَة ثلاثين ألف دينار، فقدم الْمَدِينَة بعد سبع وَعشرين سنة وَهُوَ راكب فرسا فِي يده رمح، فنزل عَنْ فرسه، ثُمَّ دفع الباب برمحه فخرج رَبِيعَة، فَقَالَ له: يا عدو اللَّه أتهجم على منزلي، فَقَالَ لا، وَقَالَ فروخ: يا عدو اللَّه، أنت رجل دخلت على حرمتي، فتواثبا وَتلبب كل وَاحد منهما بصاحبه، حَتَّى اجتمع الجيران فبلغ مَالِك بْن أَنَس، وَالمشيخة فأتوا يعينون رَبِيعَة، فجعل رَبِيعَة، يقول: وَالله لا فارقتك إِلا عند السلطان وَجعل فروخ، يقول: وَالله لا فارقتك إِلا بالسلطان، وَأنت مَعَ امرأتي وَكثر الضجيج، فلما بصروا بمالك، سكت الناس كلهم، فَقَالَ مَالِك: أيها الشيخ لك سعة فِي غير هذه الدار، فَقَالَ الشيخ: هي داري، وَأنا فروخ مولى بني فلان، فسمعت امرأته كلامه، فخرجت، فقالت: هذا زوجي وَهذا ابني الَّذِي خلفته، وَأنا حامل به فاعتنقا جميعا، وَبكيا فدخل فروخ المنزل، وَقَالَ: هذا ابني، قالت: نعم، قَالَ: فأخرجي المال الَّذِي لي عندك، وَهذه معي أربعة آلاف دينار، فقالت: المال قد دفنته، وَأنا أخرجه بعد أيام، فخرج رَبِيعَة إِلَى المسجد، وَجلس فِي حلقته، وَأتاه مَالِك بْن أَنَس، وَالحسن بْن زيد، وَابن أَبِي علي اللهبي، وَالمساحقي، وَأشراف أَهْل الْمَدِينَة، وَأحدق الناس به، فقالت امرأته: اخرج صل فِي مسجد الرسول، فخرج فصلى فنظر إِلَى حلقة وَافرة فأتاه، فوقف عَلَيْهِ ففرجوا له قليلا، وَنكس رَبِيعَة رأسه يوهمه أنه لم يره، وَعليه طويلة فشك فيه أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: من هذا الرجل؟ فَقَالُوا له: هذا رَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرَّحْمَنِ، فَقَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: لقد رفع اللَّه ابني، فرجع إِلَى منزله، فَقَالَ لوالدته: لقد رأيت وَلدك فِي حالة ما رأيت أحدا من أَهْل العلم وَالفقه عليها، فقالت أمه: أيما أحب إليك ثلاثون ألف دينار، أَوْ هذا الَّذِي هو فيه من الجاه، قَالَ: لا وَالله إِلا هذا، قالت: فإني قد أنفقت المال كله عَلَيْهِ، قَالَ: فوالله ما ضيعته (2) .
قلت : وإن صحت القصة فإنها تدل على حرص السلف الصالح - رضوان الله عليهم - على العلم ، ولو اقتضى ذلك أن ينفقوا مالهم كله فيه ؛ لأنه في سبيل الله ، ولم يأمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالاستزادة من مال أو جاه أو سلطان أو شيء من متاع الدنيا الفاني ، وإنما أمره بالاستزادة من العلم ؛ فقال : (( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)) (طه 114) (3) ، ثم إن المرأة نذرت ابنها للعلم ، وهذا أمر عادي عند العلماء قديما وحديثا ، ولم لا ؟! وقد قال الله تعالى مثنيًا على امرأت عمران - رضي الله عنها - :
((إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) (آل عمران 35) .
اليوم نرى من ينذرون أبناءهم ليكون لاعبي كرة أو فنانين ويفرغونهم لهذا الغرض ، بل هناك رجال أعمال يتكفلون بالإنفاق على بعض هؤلاء لتحقيق نجاحات وبطولات ! فهل نذرنا أبناءنا لما فيه خير الدنيا والآخرة ؟!
نسأل الله أن يصلح أبناءنا ، ويجعلهم علماء عاملين ، والحمد لله رب العالمين ، وصل اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري (6059) (8 / 18) ومسلم (1062) (2 / 739) .
(2) القصة رواها بإسناده الإمام أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي (ت 463هـ) في تاريخ بغداد (4484) (9 / 414) ، وذكرها الإمام محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الانصاري الرويفعى الإفريقى (ت 711هـ) في مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر (8 / 283) عن مشيخة المدينة ، وذكرها الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (ت 748هـ) في سير أعلام النبلاء (6 / 93) وحكم عليها بالبطلان قبل ذكرها ثم قال : " لَوْ صَحَّ ذَلِكَ، لَكَانَ يَكْفِيْهِ أَلفُ دِيْنَارٍ فِي السَّبْعِ وَالعِشْرِيْنَ سَنَةً، بَلْ نِصْفُهَا، فَهَذِهِ مُجَازَفَةٌ بَعِيْدَةٌ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ رَبِيْعَةُ ابْنَ سَبْعٍ وَعِشْرِيْنَ سَنَةً، كَانَ شَابّاً لاَ حَلْقَةَ لَهُ، بَلِ الدَّسْتُ لِمِثلِ سَعِيْدِ بنِ المُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ، وَمَشَايِخِ رَبِيْعَةَ، وَكَانَ مَالِكٌ لَمْ يُوْلَدْ بَعْدُ، أَوْ هُوَ رَضِيعٌ.
وَالطَّوِيْلَةُ: إِنَّمَا أَخْرَجَهَا لِلنَّاسِ المَنْصُوْرُ بَعْدَ مَوْتِ رَبِيْعَةَ، وَالحَسَنُ بنُ زَيْدٍ وَإِنَّمَا كَبِرَ وَاشتهرَ بَعْدَ رَبِيْعَةَ بِدَهْرٍ، وَإِسْنَادُهَا مُنْقَطِعٌ، وَلَعَلَّهُ قَدْ جَرَى بَعْضُ ذَلِكَ". السير (6/ 95) . قلت : وعلى كل الأحوال هي محتملة ، وفي أخبار العلماء ما هو أعجب منها ، وبالله التوفيق .(3) قال بعض علماءنا : رقم الآية 114 بعدد سور القرآن فيه إشارة إلى أن العلم كله في القرآن كله ، والله أعلم .

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©