موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة الأسئلة والفتاوى العلمية 66 - ما معنى "مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا ندامَى" ؟

بسم الله الرحمن الرحيم
س 66 : ما معنى "مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا ندامَى" ؟

ج 66 : الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، وبعد ...
فقد روى الشيخان في صحيحهما عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، قَالَ: كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ القَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ القَوْمُ؟ - أَوْ مَنِ الوَفْدُ؟ -» قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: «مَرْحَبًا بِالقَوْمِ، أَوْ بِالوَفْدِ، غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى» ... الحديث . (1)
أما "مرْحَبًا" فقد قال ابن قتيبة في تفسيرها : أي أتيتَ رُحْباً أي : سَعَة ، وهو في مذهب الدُّعاء ، كما تقول: لَقِيتَ خَيْراً. وقال الزجاج: «مَرْحَباً» منصوب بقوله: رَحُبَت بلادُك مَرْحَباً، وصادفتَ مَرْحَباً ، (2)
 وقال ابن فارس :
 الرَّاءُ وَالْحَاءُ وَالْبَاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ مُطَّرِدٌ، يَدُلُّ عَلَى السَّعَةِ. مِنْ ذَلِكَ الرُّحْبُ. وَمَكَانٌ رَحْبٌ. وَقَوْلُهُمْ فِي الدُّعَاءِ: مَرْحَبًا: أَتَيْتَ سَعَةً. وَالرُّحْبَى: أَعْرَضُ الْأَضْلَاعِ فِي الصَّدْرِ. وَالرَّحِيبُ: الْأَكُولُ; وَذَلِكَ لِسَعَةِ جَوْفِهِ.(3)
قلت : وقد وقعت كلمة "مرحبًا" في القرآن الكريم في موضعين لكن في سياق النفي أثناء الحديث عن أهل النار ، قال الله - تعالى - :
((هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ * قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ)) (ص 55 : 60) .
قال أبو عبيدة: العرب تقول لا مرحبا بك أي لا رحبت عليك الأرض ولا اتسعت .
وعند الإعراب تُعْرَبُ "مرحَبًا"  مفعولًا مطلقًا لفعل محذوف تقديره أُرَحِّبُ .
وأمَّا "بالقوم" فهم الجماعة من الرجال ، وقد تطلق على النساء مع الرجال تغليبًا أو من باب "النساء شقائق الرجال" ، قال ابن فارس :
(قَوَمَ) الْقَافُ وَالْوَاوُ وَالْمِيمُ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ ، يَدُلُّ أَحَدَهُمَا عَلَى جَمَاعَةِ نَاسٍ، وَرُبَّمَا اسْتُعِيرَ فِي غَيْرِهِمْ. وَالْآخَرُ عَلَى انْتِصَابٍ أَوْ عَزْمٍ.
فَالْأَوَّلُ: الْقَوْمُ، يَقُولُونَ: جَمْعُ امْرِئٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِلرِّجَالِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الْحُجُرَاتِ 11] ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ. وَقَالَ زُهَيْرٌ:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
وَيَقُولُونَ: قَوْمٌ وَأَقْوَامٌ، وَأَقَاوِمُ جَمْعُ جَمْعٍ. وَأَمَّا الِاسْتِعَارَةُ فَقَوْلُ الْقَائِلِ:
إِذَا أَقْبَلَ الدِّيْكُ يَدْعُو بَعْضَ أُسْرَتِهِ ... عِنْدَ الصَّبَاحِ وَهُوَ قَوْمٌ مَعَازِيلُ
فَجَمَعَ وَسَمَّاهَا قَوْمًا. (4)

وأما "غَيْرَ خَزَايَا" فتعني غير مُبْعَدِين ، قال ابن فارس :
(خَزَوَ) الْخَاءُ وَالزَّاءُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا السِّيَاسَةُ، وَالْآخَرُ الْإِبْعَادُ.
ثم قال : وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَوْلُهُمْ: أَخْزَاهُ اللَّهُ، أَيْ أَبْعَدَهُ وَمَقَتَهُ. وَالِاسْمُ الْخِزْيُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ خَزِيَ الرَّجُلُ: اسْتَحْيَا مِنْ قُبْحِ فِعْلِهِ خَزَايَةً، فَهُوَ خَزْيَانُ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَاسْتَحْيَا تَبَاعَدَ وَنَأَى. قَالَ جَرِيرٌ:
وَإِنَّ حِمًى لَمْ يَحْمِهِ غَيْرُ فَرْتَنَى ... وَغَيْرُ ابْنِ ذِي الْكِيرَيْنِ خَزْيَانُ ضَائِعُ . (5)

وأما "وَلاَ نَدَامَى"فتعني غير متأسفين على فوت مطلوب تُرَجُّونه ، قال ابن فارس :

(نَدَمَ) النُّونُ وَالدَّالُ وَالْمِيمُ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى تَفَكُّنٍ لِشَيْءٍ قَدْ كَانَ (أي تأَسَفٌ وتَلهَّفٌ على فَوْته). يُقَالُ: نَدِمَ عَلَيْهِ نَدَمًا وَنَدَامَةً. وَشَرِيبُ الرَّجُلِ: مُنَادِمُهُ وَنَدِيمُهُ. وَقَالَ نَاسٌ: الْمُنَادَمَةُ مَقْلُوبُ الْمُدَامَنَةِ، وَذَلِكَ إِدْمَانُ الشَّرَابِ. وَفِيهِ نَظَرٌ. وَنَاسٌ يَقُولُونَ: كَانَ الشَّرِيبَانِ يَكُونُ مِنْ أَحَدِهِمَا بَعْضُ مَا يُنْدَمُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَا نَدِيمَيْنِ. (6)
والذي لاحظته من خلال تتبع كلمة "خزي" في القرآن الكريم أنها ذكرت في الدنيا والآخرة ، وأن أكثرها وردت في الدنيا ، وأكثر ما ورد في الدنيا جاء مُنَكَّرًا ، انظر معي إلى هذه الآيات الكريمة  :
1-((أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ)) (البقرة 85) 
2-((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (البقرة 114) 
3-(( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (المائدة 33) 
4-(( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) (المائدة 41)
5-(( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ)) (هود 66) 
6-((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ)) (الحج 8 ، 9) .
7-((فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)) (يونس 98)
8-((كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) (الزمر 25 ، 26) 
9-((فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ)) (فصلت 16) 
وأما المواضع المذكورة في الآخرة فهي أربعة مواضع ، منها موضعان جاءا مُعَرَّفَيْن بأل فقط ، قال الله - تعالى - :
((أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ)) (التوبة 63) 
((ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ)) (النحل 27)
وكأن ندرة وتعريف موضعي "الخزي" منسوبًا للآخرة يدلان على أن خزي الآخرة ليس له مثيل ، نسأل الله أن يعافينا وإياكم من خزي الدنيا والآخرة ، ولهذا تأمل معي - يا رعاك الله - دعوة الصالحين  :
((رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)) (آل عمران 194) 
وتأمل - يرحمك الله - دعوة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - :
((وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) (الشعراء 87 : 89) .
فلم يستعيذوا بالله - تعالى -  من خزي الدنيا ؛ لأن الدنيا ليست دار كرامة ، فوقوع المصائب والبلايا بالأنبياء والأولياء فيها أمر ضروري ، فقد يتوهمه الجهلاء خزيا من خزي الدنيا ، وحاشا لله بل هو بلاء يرفع الله - سبحانه وتعالى - به الدرجات ويزيد الحسنات ويمحو السيئات ، فهو وإن كان خزيا في الدنيا على المعنى اللغوي (الإبعاد) فهو فضل من الله ورحمة على المعنى الاصطلاحي ، وحسبك من هذا ما ثبت في الحديث أن سعدَ بن أبي وقاص سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - "أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟" قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» . (7)
والذي نخلص منه من هذا البحث أن الخزي إبعاد من الله ، يخشاه المؤمن في الدنيا والآخرة ؛ فمحله في الحال أو الاستقبال  ، وأما الندم فهو أسف على فوت مطلوب في الدنيا ، ومحله في الماضي ، ولا فوز للإنسان إلا بالنجاة من هذين الكربين (الخزي والندم) ، ونظير ذلك قوله - تعالى - : ((فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)) (البقرة 38 ، وشبيهاتها معها في 12 موضعًا) فالخوف يكون من الحال والمستقبل المجهول الذي لم يره العبد من قبل ، كالموت وسؤال الملكين والمصير الأخير جنة أم سعير ، وأما الحزن فيكون من الماضي بما فيه من ذنوب وآثام وإفراط وتفريط ، فالله - تبارك وتعالى - يُعطي المؤمن أمانين من هذين الخطرين ؛ ليحيا آمنا سعيدًا ويلقى الله فَرِحًا شهيدًا ، وقد ثبت من خلال التَّجْرِبة أن أسعد الناس هم الذين يحيَوْن كل لحظة بتأمل وشكر على الموجود دون بحث عن مفقود أو تفكير في ماض حزين أو استشراف لمستقبل مَخُوف ، وهذا ما صاغه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في جوامع كَلِمه ، فقال :

«مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمٍ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِها» . (8) 
قال الحافظ ابن حَجَر :
"قَوْلُهُ غَيْرَ خَزَايَا بِنَصْبِ غَيْرِ عَلَى الْحَالِ وَرُوِيَ بِالْكَسْرِ عَلَى الصِّفَةِ وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْمُصَنِّفِ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ الَّذين جاؤوا غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى وَخَزَايَا جَمْعُ خَزْيَانَ"(9) 
 قلت : و"خَزْيَان" من العامي الفصيح في لهجة فلاحي مصر كما سمعتها ببلدنا .  قال ابن حَجَر : "وَهُوَ الَّذِي أَصَابَهُ خِزْيٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا طَوْعًا مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ أَوْ سَبْيٍ يُخْزِيهِمْ وَيَفْضَحُهُمْ" (10)
قال الحافظ : "قَوْلُهُ وَلَا نَدَامَى قَالَ الْخَطَّابِيُّ كَانَ أَصْلُهُ نَادِمِينَ جَمْعُ نَادِمٍ لِأَنَّ نَدَامَى إِنَّمَا هُوَ جَمْعُ نَدْمَانَ أَيِ الْمُنَادِمُ فِي اللَّهْوِ وَقَالَ الشَّاعِرُ فَإِنْ كُنْتَ نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي لَكِنَّهُ هُنَا خَرَجَ عَلَى الْإِتْبَاعِ كَمَا قَالُوا الْعَشَايَا وَالْغَدَايَا وَغَدَاةٌ جَمْعُهَا الْغَدَوَاتُ لَكِنَّهُ أَتْبَعَ انْتَهَى ، وَقَدْ حَكَى الْقَزَّازُ وَالْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ نَادِمٌ وَنَدْمَانُ فِي الندامة بِمَعْنى فَعَلَى هَذَا فَهُوَ عَلَى الْأَصْلِ وَلَا إِتْبَاعَ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ قُرَّةَ فَقَالَ "مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ لَيْسَ الْخَزَايَا وَلَا النَّادِمِينَ"  وَهِيَ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَة أَيْضا قَالَ ابن أَبِي جَمْرَةَ بَشَّرَهُمْ بِالْخَيْرِ عَاجِلًا وَآجِلًا ؛ لِأَنَّ النَّدَامَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْعَاقِبَةِ فَإِذَا انْتَفَتْ ثَبَتَ ضِدُّهَا ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الثَّنَاءِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ إِذَا أُمِنَ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ" .  (11)
قلت : وهكذا كان دَأْبُ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في معاملة الناس ، بسط الوجه ولين الحديث وبذل المعروف ، لاسِيَّمَا إن كان مخاطبوه طلابَ علم ، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحْصَى ، ومنها :
 ما رواه أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، قال : بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي المَسْجِدِ، دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ، فَأَنَاخَهُ فِي المَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الأَبْيَضُ المُتَّكِئُ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَجَبْتُكَ» . فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي المَسْأَلَةِ، فَلاَ تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ؟ فَقَالَ: «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ» فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ» . قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ» . قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ» . قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ نَعَمْ» . فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ . (12)  وفي رواية :  فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَسَأُؤَدِّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ، وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ، ثُمَّ لَا أَزِيدُ وَلا أَنْقُصُ، قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى بَعِيرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَلَّى: " إِنْ يَصْدُقْ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ " قَالَ: فَأَتَى إِلَى بَعِيرِهِ، فَأَطْلَقَ عِقَالَهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: بِئْسَتِ اللاتُ وَالْعُزَّى، قَالُوا: مَهْ يَا ضِمَامُ، اتَّقِ الْبَرَصَ وَالْجُذَامَ، اتَّقِ الْجُنُونَ، قَالَ: وَيْلَكُمْ، إِنَّهُمَا وَاللهِ لَا يَضُرَّانِ وَلا يَنْفَعَانِ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ بَعَثَ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، قَالَ: فَوَاللهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلا امْرَأَةٌ إِلا مُسْلِمًا ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ " .  (13)

 ولله دَرُّ الإمام شرف الدين البوصيري - ت 696 هـ رحمه الله - إذ يقول (14) :
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين عدد ما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون . هذا ، وبالله التوفيق ، والله أعلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري (53) (1/ 20) ، (87) (1/ 29) ، (6176) (8/ 41) ، (7266) (9/ 90) ومسلم (17) (1/ 46) .
(2) زاد المسير (3/ 580).
(3) المقاييس (2/ 499) .
(4) المقاييس (5/ 43) .
(5) المقاييس (2/ 179) .
(6) المقاييس (5/ 411) .
 (7) حسن صحيح ، رواه الترمذي (2398) (4/ 601) وابن ماجه (4023) (2/ 1334) وغيرهما .
(8) حسن ، رواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2126) (4/ 146) والترمذي (2346) (4/ 574) وغيرهما  ، وانظر الصحيحة (2317) (5/ 408 : 410) .
(9) فتح الباري (1/ 131)  .
(10) فتح الباري (1/ 131) .
(11) فتح الباري (1/ 131 ، 132) .
(12) رواه البخاري (63) (1/ 23) .
(13) حسن ، رواه أحمد (2381) (4/ 211) والدارمي (678) (1/ 516) وغيرهما .
(14) أبيات مقتطفة من القصيدة المحمدية ، ومطلعها "مُحمَّدٌ أشْرَفُ الأعْرابِ والعَجَم ِ ... مُحمدٌ خيرُ مَن ْيمْشِى على قدمِ" . ونحن إذ ننقل عن الإمام البوصيري - رحمه الله - نحمل الكلام على أفضل المحامل ، وأما الكلام الذي لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا لا يجوز في الشريعة لا ننقله ولا نقول به ، وهذا هوالمذهب الذي تظاهرت عليه النصوص الصريحة الصحيحة من القرآن والسنة في التعامل مع النصوص المختلطة ، بل في التعامل مع المخالفين ، وإن كانوا أعداءً ، ولا شك أن البوصيري - رحمه الله - حبيبنا ، ونرجو الله أن يتقبل منه ما قدم في مدح سيد الخلق - صلى الله عليه وآله وسلم - وأن يغفر له ما شط به القلم ، وأن يرحمنا إذا صرنا لما صار إليه ، وأن يجمعنا مع حبيبنا وإمامنا سيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وبالله التوفيق .

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©