موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة نقولات وذكريات في فضل من علّم الناس ومات 9-العلامة المقرئ الشيخ محمد عبد الحميد عبد الله خليل رحمه الله وكلمة في وفاته

الحلقة التاسعة :
العلامة المقرئ الشيخ محمد عبد الحميد عبد الله خليل رحمه الله




كلمة موجزة في وفاة شيخنا العلامة محمد عبد الحميد رحمه الله ...... كتبها إسماعيل الشرقاوي
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين القائل : "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" (آل عمران 185) ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه الصحيح : «إذا أصاب أحدَكم مصيبةٌ فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب» صحيح رواه الطبراني والبيهقي وغيرهما ، {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] ، اللهُمَّ أْجُرْنَا فِي مُصِيبَتِنَا، وَأَخْلِفْ لَنَا خَيْرًا مِنْهَا ،
إلى أقارب الشيخ وطلابه وأحبابه :
إني معزيكم لا أني عَلَى ثقةٍ ... من الخلود وَلَكِنْ سنةُ الدين
فما الْمُعَزَّي بباق بعد صاحبه ... ولا الْمُعَزِّى وإن عاشا إلى حينِ
نسأل الله أن ينفع المسلمين بعلوم وفنون شيخنا رحمه الله ، ويا أهل القرآن علماء القراءات يذهبون واحدًا بعد واحد (ففي شهرين تقريبًا رحل أربعة من كبار علماء القراءات) ؛ فأدركوا من تبقى من علماء ، قبل أن تبكوا حيث لا ينفع البكاء ، اللهم ارحم علماءنا واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك .
يقول الله سبحانه :
(( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ )) (فاطر 30)
لو تأملنا هذه الآية الكريمة لوجدنا عجبًا :
أولًا : التلاوة لها معنيان القراءة والاتباع ، فنحن مأمورون بأن نقرأ القرآن بألسنتنا ونتبعه بقلوبنا وجوارحنا وأعمالنا .
ثانيًا : قال الله سبحانه "يتلون" ولم يقل "تَلَوْا" لأن "يتلون" فعل مضارع يدل على التجدد والاستمرار كما قال سبحانه لحبيبه صلى الله عليه وسلم :
((إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ)) (النمل 92) .
وكنا - وما زلنا - نقرأ على شيوخنا فإذا بلغنا سورة الناس قالوا اقرأ الفاتحة وخمس البقرة كما قرأنا ، وظللت هكذا حتى ظفرت بمتن طيبة النشر للعلامة ابن الجزري رحمه الله فوجدت قول في آخرها :
ثُمَّ اقْرَإِ الْحَمْدَ وَخَمْسَ الْبَقَرَهْ ... إِنْ شِئْتَ حِلاًّ وَارْتِحَالاً ذَكَرَهْ
فقال شيوخنا كما في الأثر "خير الأعمال أن تكون كالحال المرتحل ؛ الذي كلما حلّ ارتحل" ، كلما حللت من ختمة شرعت في ختمة جديدة ؛ فالرواية تتلوها الرواية ، والقراءة تتلوها القراءة ، والعلم يتلوه العمل ، والقراءة يتلوها التدبر ، وهكذا يظل الإنسان في جنات قرآنية يتنقل بين أفنانها وزهورها حتى يلقى الله تعالى ثم يتوقف قليلا لنعيم القبر ثم يعود إلى خير جليس مرة أخرى : " يُقَالُ - يَعْنِي لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ -: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا " . حديث صحيح رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما ، نسأل الله أن يجعلنا جميعا كذلك .
ثالثًا : في الآية استعارة تصريحية : شَبَّهَ تلاوة المؤمن للقرآن الكريم بالتجارة الرابحة "لن تَبُورَ" ثم حذف المشبه وأبقى على المشبه به ، والتجارة تذكر كثيرا في القرآن ؛ لأن تسعة أعشار الربح في التجارة ، ولا ولم ولن تقوم لدولة قائمة بغير تجارة ، وتأمل في "لن تبور" لأن أكثر التجار يخافون من الخسارة قبل أن يبتدؤوا تجارتهم ، تجارة مع الله لا تخسر أبدًا .
رابعًا : (إنه غفور) غفور بوزن فعول صيغة مبالغة من كثرة المغفرة ، وأصل الغفر التغطية ،
(شكور)قال الخطّابي: هو الذي يشكُر اليسيرَ من الطاعة، فيُثيب عليه الكثير من الثواب، ويُعطي الجزيل من النِّعمة، ويرضي باليسير من الشُّكر ومعنى الشُّكر المضاف إِليه: الرِّضى بيسير الطَّاعة من العبد، والقبول له، وإِعظام الثواب عليه وقد يحتمل أن يكون معنى الثناء على الله بالشّكور ترغيب الخَلْق في الطاعة قلَّت أو كَثُرت، لئلاَّ يَسْتَقِلُّوا القليل من العمل، ولا يتركوا اليسير منه. (زاد المسير لابن الجوزي 3 / 510 ، 511) .
قال ابن فارس : (غَفَرَ) الْغَيْنُ وَالْفَاءُ وَالرَّاءُ عُظْمُ بَابِهِ السَّتْرُ، ثُمَّ يَشِذُّ عَنْهُ مَا يُذْكَرُ. فَالْغَفْرُ: السَّتْرُ. وَالْغُفْرَانُ وَالْغَفْرُ بِمَعْنًى. يُقَالُ: غَفَرَ اللَّهُ ذَنْبَهُ غَفْرًا وَمَغْفِرَةً وَغُفْرَانًا. قَالَ فِي الْغَفْرِ:
فِي ظِلِّ مَنْ عَنَتِ الْوُجُوهُ لَهُ ... مَلِكِ الْمُلُوكِ وَمَالِكِ الْغَفْرِ .
(مقاييس اللغة 4 / 385) .
(شَكَرَ) الشِّينُ وَالْكَافُ وَالرَّاءُ أُصُولٌ أَرْبَعَةٌ مُتَبَايِنَةٌ بَعِيدَةُ الْقِيَاسِ. فَالْأَوَّلُ: الشُّكْرُ: الثَّنَاءُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِمَعْرُوفٍ يُولِيكَهُ. وَيُقَالُ إِنَّ حَقِيقَةَ الشُّكْرِ الرِّضَا بِالْيَسِيرِ. يَقُولُونَ: فَرَسٌ شَكُورٌ، إِذَا كَفَاهُ لِسِمَنِهِ الْعَلَفُ الْقَلِيلُ. (مقاييس اللغة 3 / 207 ، 208) .
وبعد هذه الآية العظيمة يقول الله تعالى :
((وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ))(32 فاطر)
وقد قال بعض السلف رحمهم الله : "ظالمنا مغفورٌ له ، ومقتصدنا ناجٍ ، وسابقنا سابقٌ"
ثم يقول الله عز وجل في الأصناف الثلاثة :
((جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)) (33) وقرأها أبو عمرو "يُدْخَلُونَهَا" مبنية للمفعول ؛ أي يدخلهم الله الجنان ويهبهم الرضوان فضلا من ربك وليس الثواب مكافئًا لأعمالهم ، ولهذا قال بعض الفضلاء حُقَّ لهذه الواو في "يدخلونها" أن تكتب بماء العين ؛ لأنها تشمل كل أهل القرآن باختلاف أعمالهم ، قرأ المدنيان وعاصم "
وَلُؤْلُؤًا" بالنصب عطفًا على محل الجار والمجرور أي يحلون أساورَ ولؤلؤًا ، أو مفعولًا لفعل محذوف تقديره ويؤتون لؤلؤًا ، وقرأ الجمهور "وَلُؤْلُؤٍ" بالخفض عطفًا على المخفوض "ذَهَبٍ" (المهذب 2 / 267) ، ثم يقول الله سبحانه :
((وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)) (فاطر 35)
بعد سبع وثمانون سنة مع القرآن تعلمًا وتعليمًا ، رحل العلامة الشيخ محمد عبد الحميد عبد الله عن دار الباطل إلى دار الحق ، سأذكر في عجالة بعض الفوائد الأدبية التي تعلمتها من فضيلته ، رحمه الله رحمةً واسعة :
1- عندما زرنا شيخنا في صحبة شيخنا الفاضل د/سعيد صالح زعيمة حفظه الله أكرمنا بحسن خلقه وطيب معاملته ، وشعرنا ببركة القرآن وتواضع الشيخ ، وكان الشيخ يصحح لي بإتقان ومهارة وسعة علم وكأنه ابن العشرين إلى أن أجازني بفضل الله تعالى وشهد على إجازتي من شيخنا د/سعيد ، وكان من أسعد أيام حياتي ، وكان يقول ربنا أكرمنا ، ويتحدث بنعمة الله ، ويحذر من التساهل .
2- كان الشيخ رحمه الله لا يتساهل في الإجازة ، وكان لا يجيز أحدًا متابعة إلا بعدما يسأل ويطمئن هل ختم هذا الطالب على أحد تلاميذه أو على شيخ عالم بالقراءات ، ثم يسمع منه ويصحح له ، فإن وجده أهلا لذلك شهد له أو أجازه ، وإن لا فلا .، وهذا ما ينبغي أن ينتبه له شيوخ القراءات اليوم ، إن التساهل لا يخرج طالبًا نجيبًا ، بل يخرج طلابًا ضعفاءَ ؛ فيَضِلُّوا ويُضِلُّوا .
3- كثير من الطلاب يتلاعبون بأوقات الشيوخ ، ولا يأخذون الأمور بجدية ، بغض النظر عن هذا وغيره من الأمور التي تلزم الشيخ باشتراط مال على الطالب لحبس وقت الختمة ، فقد ذهب جماهير الفقهاء قديما وحديثا إلى جواز الاشتراط ، كان الشيخ يلزم الطلاب بدفع مبلغ معين ، وكان بعض الإخوة ينتقدون هذا ، والحق أن وقت الشيخ ملكه وحده ، وله الحق في أن يشترط كما يشاء ، وهناك شيوخ كثيرون يعلمون بالمجان ، ومع ذلك فقد قابلت بعض الطلاب ذكروا أنه خفض لهم في المبلغ المطلوب ، وكل إنسان له حال مع الله ، نسأل الله أن يرحم شيخنا رحمةً واسعة وأن ينير عليه بالقرآن الكريم قبره ، وأن يسكنه به الظلل ، ويلبسه به الحلل جزاءَ ما قدم لخدمة كتابه الكريم ، وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه عليه ، وأن يرحمنا إذا صرنا لما صاروا إليه ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .



بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
ترجمة مختصرة لشيخنا الشيخ محمد عبد الحميد عبد الله خليل
هو الشيخ العلامة المحقق المدقق المعمر مسند الآفاق وأعلى القراء سندا فى زمانه وشيخ القراء بالإسكندرية محمد عبد الحميد عبد الله خليل يكنى بأبى صبرى.

ولد فى يوم الأربعاء 5 شوال سنة 1344هـ- الموافق 5 مايو سنة 1926 من الميلاد ببلدة النقيدى مركز كوم حمادة محافظة البحيرة – جمهورية مصر العربية.

متزوج من ابنة عمه وأنجب منها ثلاثة أولاد وهم صبرى وسهام وسميرة توفيت والدته بعد ولادته بأربعين يوما وفقد بصره وهو ابن عامين ورباه والده فذهب به إلى كتاب القرية وكان عمره خمس سنوات ثم انتقل والده إلى مدينة أدفينا وانتقل الشيخ معه ومكث بها وأتم حفظ القرآن عند الشيخ محمد بلح وكان وقتها بلغ عشر سنين ولما بلغ الشيخ ثلاثة عشر سنة سافر إلى الإسكندرية وأقام عند بعض أقاربه سنوات ولما بلغ عمره ثمانية عشر عاما، تقدم إلى الأوقاف فى مسابقة وكانت اللجنة مشكلة من فضيلة الشيخ على الضباع والشيخ محمد عبد الرحمن الخليجى وغيرهما من علماء القراءات العظام فسألوه من قوله تعالى "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ" الآية سورة فصلت 30 فقالوا له هل كلمة "أَلَّا" موصولة أم مقطوعة؟ فأجاب الشيخ بأنها مقطوعة وهو خطأ والصواب أنها موصولة، فأعطته اللجنة مهلة ليتعلم فيها التجويد وكانت مدة شهرين كما ألزم الشيخ نفسه بذلك لما سألوه كم يكفيك فقال شهرين فأعطوه مهلة كما طلب وفى ذلك الوقت كان الشيخ قد سمع عن الشيخة نفيسة بنت أبى العلا، حيث ذاع صيتها وتسابق إليها الطلاب ينهلون من علمها ولما ذهب الشيخ إليها وقص عليها ما حدث معه فى وزارة الأوقاف وطلب منها أن يتعلم التجويد والأحكام فى هذه المدة فقالت له الشيخة أنا لا أحب من يشترط على ولكن أنت واجتهادك وذكائك ومدى استيعابك للعلم.

هذا مما قصه على الشيخ بنفسه ثم بدأ الشيخ رحلته مع الشيخة منذ ذلك الحين وكان ذلك فى سنة 1944م ولازم الشيخ الشيخة حتى توفيت سنة 1954 أى قرابة عشر سنوات يلازمها كظله وينهل من علمها الغزير فقرأ عليها أربع ختمات لحفص بالقصر والتوسط جود خلالها القرآن وتعلم الأحكام وحفظ التحفة والجزرية وأخذ شرحهما من الشيخة وفى أثناء ذلك وجد الشيخة أم السعد بنت نجم وكانت قد سبقته إلى الشيخة وكانت تقرأ من الشاطبية فطلب الشيخ من الشيخة أن يقرأ الشاطبية فاستجابت الشيخة له لما رأت نجابته وذكائه واستيعابه للعلم ولقنته الشاطبية حفظا ثم بدأ فى قراءة الروايات بدأ بقالون ثم ورش ثم ابن كثير وهكذا حتى أتم السبعة أفرادا وكان كلما أفراد للقارئ الروايتن يجمع له ختمة أى يقرأ لقالون ثم لورش ثم يجمع ختمه لنافع وهكذا مع كل قارئ ثم جمع ختمة لأهل سما ثم ختمه بالسبعة فكان مجموع ما قرأ فى ختمه السبعة إحدى وعشرين ختمه كما ذكر لى ثم حفظ الدرة ثم قرأها أفرادا كذلك ثم جمعها ثم حفظ متن الطيبة وقد حكى لى أن الشيخة كانت تلقنه العشر أبيات ثم يخرج من عندها ويرددها ثم يركب المواصلات ويظل يرددها فى المواصلات فإذا نسى بيتا نزل من المواصلة ثم عاد إلى الشيخة لتعيد عليه الأبيات حيث أن أعاقه البصر كانت تسبب له مشقة ولم يكن معه أحدا يقرأ له وإذا وجد فهو لا يعرف هذا العلم وهكذا ثم بدأ يقرأ الطيبة بعد أن أتم حفظ الطيبة ولقنته الشيخة متن هبه المنان للطباخ فى تحريرات الطيبة وبدأ بنافع ثم ابن كثير ثم أبى عمرو ثم توفيت الشيخة وكان ذلك سنة 1954م فتأثر الشيخ تأثرا كبيرا وجمع اليتم والفراق وأحس بجراح اليتم من جديد فقد كانت الشيخة الأم الحنون واليد التى تمتد إليه بالعطاء وحزن عليها حزنا شديدا وفى ذلك الوقت كان الشيخ قد اجتاز امتحان وزارة الأوقاف وعين مؤذنا ومقيما للشعائر بمسجد رمضان يوسف بمنطقة الإبراهيمية بجوار مسكنه وعمل شيخا بالأوقاف من سنة 1952م وأخذ ينتقل بين المساجد وعضوا بمقرأة أبى العباس المرسى وقت كان الشيخ الخليجى شيخا لها ثم تولى بعد وفاته الشيخ محمد السيد المقرأة ثم بعد وفاة الشيخ محمد السيد سنة 1974 تولى الشيخ محمد شيخ المقرأة ولازال شيخا لها إلى وقت كتابة هذه الترجمة حفظه الله تعالى والحاصل أنه بعد وفاة الشيخة ذهب الشيخ إلى الشيخ الخليجى وكان ذلك سنة 1955 وكان الشيخ قد ألتقى به كما مر فى امتحان المقرأة وكذلك كان يراه عند الشيخة وهو الذى كتب له الإجازة بالعشرة الصغرى وشهد له عليها حينما أجازته الشيخة وطلب من الشيخ أن يقرأ عليه العشرة الكبرى إفرادا ولكن الشيخ قال له مادمت أفردت القراءات على الشيخة فلا داعى للإفراد مرة أخرى أقرأ بالجمع وسمع الشيخ الخليجى منه متن الطيبة ثم كتب له متن مقرب التحرير بيده ولقنه له سماعا وقرأه الشيخ عليه وقرأ الطيبة بمضمن المقرب وتحريراته وكان الشيخ قد حفظ على الشيخة متن هبة المنان للطباخ والذى يعد الأصل لمتن مقرب التحرير للخليجى والذى تضمن الأخير كثير من ألفاظه ولقد تأثر الشيخ محمد كثيرا بالشيخ الخليجى ولازمه منذ عام سنة 1955م إلى أن مات الشيخ سنة 1970م وكان يقرأ عليه بحى محرم بك ولما أنتقل الشيخ الخليجى إلى حى أبى قير كان الشيخ يذهب إليه حتى أتم عليه جمع العشرة الكبرى بتحريراتها وتوفى العلامة الخليجى سنة 1970م وحزن الشيخ عليه فلقد كان له فضل عليه واستقى منه علمه الكثير وأخذ عليه كثير من مؤلفاته مثل المقرب والدروس التجويدية والوقف والابتداء وحل المشكلات وغيرها ثم أقبل الشيخ بعد ذلك على تلميذ الشيخ النجيب والعالم الجليل والمصنف البارع الشيخ محمد السيد وكان الشيخ محمد السيد من الصعيد وحضر إلى الإسكندرية وقرأ على الشيخة نفيسة العشرة الكبرى وقرأ كذلك على الشيخ الخليجى بمضمن المقرب وقرأ عليه كذلك الألفية الخليجية وهو متن فى العشرة الصغرى وكان تاجر للدقيق وكان يقرئ بالمحل وتولى مشيخة الإقراء بمسجد الميرى بكوم الشقافة بالإسكندرية ثم تولى بعد موت الخليجى مقرأة أبى العباس المرسى وكان معتزا بمهنته حتى أنه ألف مؤلفا اسماه: النظم الرقيق لبائع الدقيق وله كذلك متن شقاء القلوب فى قراءة يعقوب، متن مراقى العلا فى قراءة ابن العلا، التحفة المحررة بما يزيد النشر للعشرة، النور الساطع فى قراءة نافع، العقد الجوهر فى قراءة الإمام أبى جعفر، متن هدية القراءة المرشد الوجيز فى تجويد القرآن العزيز، متن سرور الآخرة فى قراءة الإمام حمزة وغيرها، ولقد استفاد الشيخ منه كثيرا وبدأ فى قراءة ختمة بالجمع بالطيبة على الشيخ محمد السيد حتى وصل إلى سورة يس ثم مات الشيخ محمد السيد سنة 1974م ثم بدأ الشيخ طريقه فى القراءة فى الإذاعة المصرية وإذاعة الإسكندرية وإذاعة القرآن الكريم وله تسجيلات كثيرة وظل الشيخ فى فترة أواخر السبعينات والثمانينات والتسعينات فى مسجد سيدى جابر الأنصارى غير معروف إلا من الخواص وكان قليل الإقراء لأن فى تلك الفترة لم يكن علم القراءات له طلاب ولا راغبين فى تعلم هذا العلم حتى أننى حينما كنت أذهب إليه فى الثمانينات لم يكن يتردد عليه أحد إلا طالب أو طالبين أذكر منهم الشيخ وليد عاطف رفيق الدرب فى رحلتى مع الشيخ ولم يكن أحد يبحث فى الأسانيد من حيث العلو والنزول لأننى كما ذكرت فى تلك الفترة كانت الإسكندرية ولازالت معقلا للسلفيين والإخوان وكان لكل اتجاهه فالدعوة السلفية العلمية يغلب عليها البحث فى مسائل الفقه والعقيدة والحديث ومصطلحاته والأصول مع الاهتمام بالقرآن من حيث الحفظ ولم يكن له نصيب من حيث التلقى والحصول على الإجازة والإخوان المسلمون يغلب عليهم الطابع السياسى على حساب الجانب الدعوى لعلهم يغضبون من ذلك ولكنها الشهادة مع الإقرار بأنهم لا يهملون الجانب الدعوى ولكنهم يقلون منه على حساب الجانب السياسى وفى تلك الفترة كان الشيخ يجلس فى المسجد وأعباء المعيشة تزيد فكان الشيخ فى السبعينات وقبلها يعمل بإحياء الليالى فى السردقات وكل هذا العلم مدفون فى صدره فى حاجة إلى من يحمله وظل الشيخ لا يعلم عنه أحد حتى أذن الله ولما بدأ العلم فى الانتشار وتحدث الناس على الشيخ الزيات وأنه من أعلى الأسانيد فى الدنيا ونظرت فى إسناد الشيخ فإذا هو مساو للشيخ الزيات ويلتقى معه فى الشيخ العبيدى وكتبت فى ذلك وبينت أن إسناد الشيخ لا يقل عن الشيخ الزيات .
وفى ذلك الوقت ظهر الشيخ الدكتور العبيد وهو أستاذ فاضل باحث فى علوم القرآن والأسانيد وسمع عن الشيخ ونظر فى إسناده وقرأ الشيخ العبيد على الشيخ محمد واتفق معه على استضافته بالمملكة السعودية إلى الرياض للإقراء هناك وكان ذلك عام سنة 1998 ومكث قرابة تسعة أشهر أقرأ خلالها جم غفير من طلاب العلم ورجع إلى مصر فى فترة قصيرة ثم عاد مرة أخرى إلى الرياض ومكث بها أربع سنوات نهل منه خلالها كثير من القراء وأقرأ القراءات لجمع كبير من طلابى هذا العلم وانتشر اسم الشيخ هناك حتى قصده كل من يطلب علو الإسناد ثم عاد إلى مصر واستقر به المقام يقصده الناس من جميع أنحاء الدنيا من مصر وسوريا والسعودية والأردن وفلسطين وأمريكا وكندا وغيرها من بلاد العلم وهو لازال يقرئ حتى تاريخ هذه الترجمة حاضر الذهن مستحضرا للقرآن والمتون والتحريرات ولقد حرصت الدول الإسلامية على تكريمه مثل الكويت والسعودية وقطر والإمارات واليمن.
صفات الشيخ من خلال ملازمتى له قرابة ربع قرن من الزمان.
لقد كانت بداية معرفتى بالشيخ عن طريق الشيخ سعيد عضو مقرأة أبى العباس المرسى التى كان الشيخ محمد عبد الحميد شيخا لها وكان ذلك قرابة عام 1986م تقريبا المقارئ فى مصر تشرف عليه وزارة الأوقاف المصرية ونظامها كالآتى: المقرأة لها شيخ مشهود له بالإتقان والعلم والإقراء سواء كان من قراء العشرة الكبرى أو الصغرى أو السبعة وبها أعضاء يتكونون من خلال مسابقة تعدها الوزارة وتحتوى المقرأة على ثمانية أعضاء أو أكثر أو أقل ويصرف راتبا شهريا لكل عضوا تشجيعا من الوزارة وتحفيزا على تعلم القرآن وترتيله وتعقد المقرأة فى المساجد الكبرى كل مقرأة لها شيخ ويكون يوما فى الأسبوع يقرأ فيه جزءا من القرآن والبعض يكتفى بحزب وبعض المقارئ تعقد ويقرئ منها القليل من باب إثبات الحضور وكنت أنا فى محل عملى الذى يملكه الوالد وكان يأتى إلى فى المحل الشيخ سعد محمد شحاته وكان يسكن بجانب المحل وكان يؤم المصلين فى مسجد الشاطبى وكان من حفظه كتاب الله وكنا نجلس فنتذاكر القرآن يوميا بعد العشاء يقرأ كل منا ما تيسر له وكان الشيخ سعيد عضوا مقرأة أبى العباس التى كان الشيخ شيخا لها يصلى العشاء فى مسجده وهو مسجد الصحابة ثم يمر علينا ونحن نقرأ فيجلس ويقرأ معنا ويستمع لقراءتى وقال لى يوما لو سمعك شيخنا الشيخ محمد عبد الحميد لسر بك وبقراءتك ثم حدث الشيخ فى أمرى وأثنى على خيرا فقال له الشيخ إذا كان يوم المقرأة فأت به فلما كان يوم المقرأة ذهبت ولم أكن رأيت الشيخ فى حياتى فلما جلست بين يديه وسلمت عليه رأيت نورا يخرج من وجه وعليه الوقار والهيبة ثم أجلسنى بجواره فى وجود أعضاء المقرأة الكبار وافتتح الشيخ القراءة كعادته وكان يقرأ ربعا أو ربعين من أول الجزء ثم يقرأ الشيخ عبد المؤمن ثم الذى يليه وكانت النوبة على الجزء الثانى "سَيَقُولُ السُّفَهَاء" وقرأ الأعضاء حتى إذا كان آخر ربع فى الجزء قوله تعالى "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ...." قال لى الشيخ أقرأ فقرأت الربع وشجعنى على ذلك وأثنى على قراءتى وشجعنى كل الحضور جزاهم الله خيرا ثم ختم المجلس وقال لى أئت إلى فى مسجد جابر الأنصارى وكان الشيخ مقيما للشعائر به وذهبت إليه ومن هنا بدأت رحلتى مع الشيخ فكنت أذهب إليه بانتظام وذلك بجانب عملى فى محل الوالد وكذلك دراستى بالجامعة حيث أننى كنت أدرس القانون بكلية الحقوق وظللت مع الشيخ انتقل من راوية إلى رواية وقرأت عليه المتون وأتممت السبعة إفرادا ثم الثلاثة المكملة للعشرة من طريق الدرة إفراد ثم بدأت فى الطيبة وقرأتها كذلك إفرادا حتى أتممتها وقرأت عليه المقرب وذلك أثناء قراءتى للعشرة الكبرى بتحريراتها بمضمن مقرب التحرير للعلامة الخليجى وكذلك بالاستئناس بمتن الطباخ هبة المنان وكذلك الروض النضير للعلامة المتولى وكذلك قرأت عليه حل المشكلات للعلامة الخليجى وإنما سردت المقدمة الطويلة هذه ليعلم أننى حينما أحكى عن الشيخ فإنما أحكى ما رأيته لا ما سمعته وأما عن صفاته فتحدث ولا حرج فقد كان الشيخ أبا حنونا متواضعا حاضر الذهن سريع البديهة ذكياً، ترى من فطنته وذكائه ما لا تراه فى المبصر وكان حقا كما كان يصف علماؤنا قديما بعض مشايخهم غير المبصرين بقولهم فى إجازتهم وتراجمهم بالبصير بقلبه بدلا من قوله الأعمى، نعم فقد كان حفظه الله بصيرا بقلبه ولقد رأيت من الشيخ أمورا كثيرة ومن عجب ما رأيت أننى كنت أقرأ عليه فى المسجد وفى بيته القديم وكذلك حينما انتقل إلى مسكنه الجديد الذى يقطن فيه الآن وفى الطريق وحينما أكون فى المسجد وننتهى من القراءة ويريد أن يذهب إلى بيته كنت أقوده حتى أوصله إلى البيت فكنا نركب الحافلة (الترام) وننزل بالمحطة ونحتاج إلى أن نسير مسافة أخرى قرابة (500)م2 حتى نصل إلى سكنه القديم وأثناء السير كنا نقرأ حتى نصل إلى البيت وفى ذات مرة بسهو منى تخطيت المنزل بخطوة وقبل أن انقل الخطوة الأخرى فإذا بالشيخ يقف ويقول لى ألم نصل إلى البيت فنظرت فإذا أنا أمام المنزل ولم انتبه وعرفت أنه يرى بنور الله تعالى.
ومما ظهر من كرامات الشيخ ما حكاه لى وحدثنى به الشيخ وليد عاطف وهو من أخص تلاميذ الشيخ ومن أوائل من قرءوا على الشيخ القراءات العشر إفرادا أنه وجد من الشيخ أمرا يعده من كرامات الشيخ وذلك أنه أثناء قراءته عليه قراءة ابن عامر مرت عليه الإماله لهشام فى قوله تعالى "تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ" ونسى أن يأتى بها وانتهى من الختمة وشرع فى رواية غيرها وغاب قرابة الشهر فى التجنيد ثم تذكر وعزم أنه حين يعاود القراءة سوف يذكر الشيخ بذلك ولما التقى بالشيخ نسى أن يذكره ولما ابتدأ بالقراءة وكانت سورة آل عمران وكان قد دخل فى الختمة الجديدة قبل أن يبدأ قال له الشيخ أقرأ أولا سورة الغاشية فتذكر الشيخ وليد وقال للشيخ من أجل الإماله فى " آنِيَةٍ " قال الشيخ نعم فعرف الشيخ وليد أن ذلك من كرامات الشيخ وأن الله أراد للشيخ ألا يخطئ أو ينسى ويذكره تلميذه مع أن هذا الأمر لا غرابة فيه ولا حرج ولكن الأهم من ذلك أن الشيخ كأنه أطلع على ما قلب تلميذه وأراد أن يذكره فذكره الشيخ والشيخ حفظه الله كان يتحلى بالأدب الجم والصبر لا يذكر أحدا فى مجلسه إلا بخير ولا يسمح لأحد أن يخوض فى أعراض الآخرين أو ينتقص منهم فى مجلسه وكانت حياته كلها للقرآن ما رأيته يقرأ كتابا قط إلا وله تعلق بالقرآن أو بعلم من علومه مثل شرح الشاطبية أو الدرة أو الطيبة أو التحريرات أو التوجيه أو الإعراب وكان حاضر الذهن أعجوبة فى الحفظ الفهم فكان يحفظ المتون كلها بل كان يحفظ شرح متن المقرب للعلامة الخليجى فحينما قرأت عليه متن المقرب بشرحه كان يردد معنى الشرح نفسه فانظر فأجد نفس الكلمات كما هى ويعدد الأوجه وأنا أقرأ وهو يردد معنى فأسكت فيكمل الجملة كما هى موجودة فى الشرح.
وكان الشيخ وفيا لمشايخه فكان كثيرا ما يدعوا للشيخة نفيسة كلما استدل ببيت أو مسألة فى التحريرات يقول حفظته لى الشيخة فقد كانت ذو فضل كبير عليه وكذلك العلامة الخليجى والشيخ محمد السيد فكثيرا ما كان الشيخ يذكرهم فى مجلسه ويدعو لهم بخير وفى نهاية المقرأة ومع كل ختمة من القرآن يدعوا للمسلمين ويخصهم بالدعاء.
والشيخ عزيز النفس معتزا بالقرآن متعففا ما رأيته طيلة حياتى يتحدث فى أمر من أمور الدنيا ولا وقت عنده لذلك وما تطلع إلى ما فى يدى غيره وما وجدته إلا تاليا لكتاب الله وما دخلت عليه يوما إلا ووجدته يقرأ القرآن حتى فى أشد حالات مرضه وكان له ختمات متعاقبة لكل راوا ثم ختمه بالجمع هكذا كلما حل ارتحل وقد أوصانى بذلك فقال لى لا تترك القراءات وأجعل لك ختمات مختلفة حتى تظل مستحضرا للقراءات فكانت خير معينا لى على ذلك وأسأل الله الإخلاص.
دخلت عليه يوما وهو فى غرفة العناية المركزة والنفس الصناعى على أنفه والأجهزة الكهربائية والطبية تملأ جسده وهو ملقى على ظهره دخلت عليه فى تلك الحالة فوجدته يقرأ القرآن وتتحرك شفتيه، وأصيب يوما بجلطة فى قدمه ونصحه الطبيب بعدم الحركة وأن يستلقى على ظهره رافعا قدمه وظل أياما على تلك الحالة لا يتحرك إلا لقضاء حاجته ثم يعود كما كان وكلما دخلت عليه لا عوده أجده يقرأ القرآن وكان دائما مبتسما راضيا بقضاء الله يظهر عليه الرضا كثير الصمت، لا يخوض مع الخائضين ولا يتكلم إلا فيما يعنيه وإذا تكلم تكلم بحكمة.
وكان يعرف له أقرانه حقه وقدره من العلم وقد حكى لى ابن أخيه وأكد لى الشيخ ذلك بنفسه أنه كان بصحبة الشيخ يقوده إلى الشيخ الخليجى وفى حى يسمى الأزاريطة بالإسكندرية كان الشيخ ينتظر الترام وكان الشيخ مصطفى إسماعيل مقرئ مصر الكبير له شقة فى هذا الحى يأتى إليها فى المصيف وسمى ذلك الشارع الذى يقع فيه العقار باسمه فيما بعد الشاهد أن الشيخ مصطفى كان ينظر من شرفة منزله فلما رأى الشيخ نزل مسرعا وسلم عليه وقال لابن أخيه هذا الشيخ من أعظم مشايخ الإسكندرية وقرائها.
ولقد تقدم يوما لمسابقة تسجيل رواية ورش للإذاعة وكان ترتيبه الأول والقصة مذكورة ومعروفة.
والشيخ كان يبر تلاميذه ويحنو عليهم كحنين الوالد على ولده وإذا دعى كان يلبى الدعوة ويحرص على أداء الواجبات وصلة الأرحام بالأهل والأقارب والأصدقاء وقد أتى إلىَّ فى بيتى كثيرا وكنت حريصا على دعوته لتعم البركة بالمكان حتى أننى فى عقيقة آخر أبنائى لم أدعه إشفاقا عليه لعلمى أنه سيأتى وذلك من حرصه على تلبية الدعوة ثم فجأت به قد علم وأتى مع ابنه صبرى وابن أخيه رغم تقدم سنه الذى تخطى الثمانين وكان حفظه الله حريصا على صيام النافلة وكان يكثر من الصوم ثم تركه لما كبر سنه واعتلت صحته واحتاج إلى تناول الأدوية فى وسط النهار.
وكان الشيخ حفظه الله يتمتع بصوت قوى ندى وذاكرة حاضرة حتى مع تقدم سنه، وقد اتفق أن الشيخ وليد عاطف وهو كما ذكرت من أنجب تلاميذه وكان يصلى القيام فى رمضان ويختم مع نهاية الشهر وكان يقرأ فى الصلاة بالروايات ختمة كاملة وحدث أن دعا الشيخ لحضور الختمة لتحل بها البركة وقد م الشيخ ليصلى بنا ركعتين وتقدم الشيخ وكانت الختمة براوية السوسى وقرأ الشيخ من سورة الأعلى واستمر فى القراءة مما تيسر له فو الله الذى لا إله إلا هو أن قوة صوته لتهتز له مكبرات الصوت وكأن شابا فى ريعات شبابه والشيخ يناهز الثمانين حتى تعجب الحاضرون وأقبلوا عليه بعد الصلاة يقبلون رأسه ويده حفظه الله.
ولما ماتت الشيخة أم السعد وهى رفيقة دربه عند الشيخة نفيسة، ذهب إلى العزاء وكان متأثرا ومع ذلك قرأ من سورة المؤمنون بالسكت ليعقوب وكان الشيخ محمد فريد نعمان وهو من أقرانه وكان زوجا للشيخة أم السعد وقد توفى قبلها بسنوات كان من أحب الناس إلى قلبه وكان كثيرا ما يظل طيلة الساعة يتناقش معه يوميا فى الهاتف فى مسائل القراءات وعلومها، وكان الشيخ حسن النشار رحمه الله وهو مدرس للقراءات بمعاهد القراءات وكان من قراء العشرة الصغرى وكان يسأل الشيخ كثيرا فى أمور القراءات والشيخ يجيبه ثم يقبل عليه يقبل رأسه ويقول له أنت القاموس الأكبر لى أجد عندك ما يشفى غليلى وقد رأيت ذلك مرارا بعينى وكان حفظه الله يقبل الخلاف بصدر رحب ولا يصر على رأيه فقد كنت أذهب إليه فى مسجده بسيدى جابر الأنصارى وكان بالمسجد ضريح وأنا لا أصلى فى المساجد التى بها أضرحة إتباعا للسنة وامتثالا لأمر رسول الله (r) فكنت أقرأ عليه فإذا حضرت الصلاة ذهبت إلى مسجد آخر صليت ثم عدت فكنت أستأذنه فيقول لى صلى معنا فأقول أنا لا أصلى فى تلك المساجد لأن هناك نهى عن الصلاة فيها فيجادلنى ويقول أن الضريح معزول عن المسجد فأذكر له بأدب أنى لا أستريح للصلاة هنا فيقول أنت وشأنك ولا يغضب ولا يتغير وجهه، وأعود من الصلاة كأن شيئا لم يكن.
وكان حفظه الله يحب سير القراء فحينما كنت أحدثه عن تراجم بعض القراء العاملين الزاهدين وأقرأ له من سيرهم فكان يطرب لسماع ذلك ويطلب المزيد ويكبر فرحا بما سمع من سيرتهم ويدعوا الله أن يلحقه بهم وكان يؤدب طلابه ويتخللهم بالنصيحة ويأمرهم بالتواضع وكثيرا ما كان يوصينى فى بداية حياتى بألا أذكر لأحد أنى أقرأ القراءات حتى أتمها.
وكان حفظه الله يجلس للإقراء طيلة يومه حتى أثر ذلك فى قوته لأنه كان ينسى طعامه وشرابه فكان يقرئ من العاشرة صباحا حتى الحادية عشر مساء، وقد حدث يوما أنه كان يقرأ عليه قارئ من سوريا من الشام وحدث للشيخ اغمائة وهو جالس والطالب لم يلحظ ذلك وهو مستمر فى القراءة ودخل عليه ابنه صبرى فوجده على تلك الحالة وأسرعوا به إلى المستشفى ومكث أياما فى حالة حرجة ومنعه الطبيب من الإقراء والراحة التامة ولما عاد إلى المنزل وأجبره أبناءه على عدم الإقراء والالتزام بتعليمات الطبيب حرصا منهم على صحته وساءت حالة الشيخ الصحية والنفسية بسبب ذلك وذهبت لأعوده وحكى لى أبناؤه ما قاله الطبيب وقلت لهم إنكم بمنعكم إياه من القراءة تحكمون عليه بالموت وهو على قيد الحياة وتسلبون منه حياته فإن حياته فى القراءة وأنا أحب إلى أن يموت وهو يقرئ أولى من أن يموت حزنا على عدم القراءة فإن حياته فى الإقراء والاستماع إلى القرآن وموته فى عدم القراءة فإننا مقرئ القرآن أمسى أمانينا أن يتوفانا الله على تلك الحالة.
(ليس) من مات فاستراح بموت إنما الميت ميت الإحياء
ثم اقترحت عليهم أن يظل يقرئ ولكن ننظم وقته فيقرئ من الصباح حتى الظهر فى الفترة الصباحية ثم يستريح ثم يقرئ من المغرب إلى العشاء وفرح الشيخ بذلك وكأن روحه سلبت منه ثم عادت إليه ومرت على هذه القصة حتى كتابة الترجمة قرابة الخمس سنوات أقرأ الشيخ خلالها الكثير من الطلاب بمضمن الشاطبية والطيبة والدرة بالقراءات العشر الصغرى والكبرى ورواية حفص بطرقها المختلفة وهو لازال يقرئ حتى الآن أسأل الله أن يبارك فى عمره ووقته.
والشيخ كان ولا يزال كريما مع طلابه وضيوفه يقدم لهم واجب الضيافة لكل من يقرأ معه وكان يدعونى للإفطار فى رمضان ويصر على ذلك ويغضب إذا لم ألبى الدعوة وكان حفظه الله متسامحا مع كل من اختلف معه ولا يحمل لأحد ضغينة فى قلبه وما سمعته يتحدث عن أحد ولا يذكر أحداً بسوء.
حكى لى الشيخ سعيد عضو المقرأة أن الشيخ كان يصر على قراءة الجزء كله فى المقرأة وكانت أغلب المقارئ تتساهل فى ذلك وأما الشيخ فكان يقول إن العقد شريعة المتعاقدين ونحن هنا لابد أن نقرأ الجزء كما هو ثابت فى نظام المقارئ وكان الشيخ الخليجى يفعل ذلك وكذلك الشيخ محمد السيد وكان الإثنان متطوعين بها لا يأخذان أجرا على ذلك ولا يتقاضان راتبا مع أن الوزارة كانت مخصصة راتبا لهما.
وحدث أن بعض الشيوخ ضاق بهم ذلك وأرادوا أن يتساهل الشيخ كغيره ومع إصرار الشيخ على أن يقرئ الجزء كاملا وأن يحضر جميع الأعضاء لجأ الشيخ سعيد إلى أمر يعفيه من الحضور والحق أنه كان مريضا غير أن هذا المرض لا يعيقه عن الحضور ولكنه أتى بشهادة مرضية تعفيه من الحضور وأرسل اعتذار إلى الشيخ مع إثبات الشهادة المرضية وكان الشيخ سعيد قد غضب من الشيخ لشدته معه وانقطع الشيخ سعيد عن المقرأة وبعد فترة علم الشيخ بمرضه وإجرائه جراحة فأخذ بعض أعضاء المقرأة وذهب إليه ليزوره فى بيته رغم علو السكن وعدم وجود مصعد وسلم عليه وقال له هل هذه الورقة أى الشهادة المرضية التى قدمها للاعتذار هل تحول بيننا وبينك وقد حكى لى الشيخ سعيد هذه الحكاية بنفسه وقال لى أنظر إلى تواضع الشيخ وتسامحه وحبه لتلاميذه وأصحابه من أهل القرآن.
تمت الترجمة يوم الاثنين بحمد الله تعالى وقوته فى الخامس عشر من ذى القعدة لسنة 1433 من الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام الموافقة 1/10/2012 من الميلاد.
كتب الترجمة الفقير إلى عفو ربه الكريم
محمد محمد عبد العظيم المقرئ الحنفى السكندرى
السلفى عقيدة ومذهبا – السلمى نسبا
الباحث فى علوم القرآن والقراءات

أصل الموضوع : http://vb.tafsir.net/tafsir37443/

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©