موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة اخترت لكم (1 ، 2 ، 10)



(*) بسم الله الرحمن الرحيم (*)
                                                                                                       (*)سلسلة اخترت لكم 1 (*) 
                                                                                                                  شهادة الدراسة
وشهادة الحياة
ما بال الناشئ وصل اجتهاده، حتى حصل على الشهادة؛ فلما كحل بأحرفها عينيه، وظفرت بزخرفها كلتا يديه؛ هجر العلم وربوعه، وبعث إلى معاهده بأقطوعة؛ طوى الدفاتر، وترك المحابر، وذهب يخايل ويفاخر، ويدعي علم الأول والآخر؟ فمن ينبيه، بارك الله فيه لأبيه، وجزى سعي معلمه ومربيه: أن الشهادة طرف السبب، وفاتحة الطلب، والجواز إلى أقطار العلم والأدب؛ وأن العلم لا يملك بالصكوك والرقاع، وأن المعرفة عند الثقات غير وثائق الإقطاع. ومن يقول له أرشده الله: إن شهادة المدرسة غير شهادة الحياة؟.                                                                                      فيا ناشئ القوم بلغت الشباب، ودفعت على الحياة الباب؛ فهل تأهبت للمعمعة، وجهزت النفس للموقعة، ووطنتها على الضيق بعد السعة، وعلى شظف العيش بعد الدعة؟ دعت الحياة نزال فهلم اقتحم المجال، وتورد القتال؛ أعانك الله على الحياة، إنه حرب فجاءات وغدر وبيات، وخداع من الناس ومن الحادثات؛ فطوبى لمن شهدها كامل الأدوات، موفور المعدات؛ سلاحه، صلاحه، وترسه، درسه؟ ويلبه، أدبه؛ وصمصامته استقامته؛ وكنانته أمانته؛ وحربته، دربته. 
                                                                                                                       أمير الشعراء / أحمد شوقي - أسواق الذهب 59،58.    
(*)جامعة الدرة المضية العالمية للعلوم العربية والإسلامية (*) 





(*) بسم الله الرحمن الرحيم (*)
(*) سلسلة اخترت لكم 2 (*)
من أحاديث الإذاعة :

حكمة القدر

______________________________________

نُشرت سنة 1948






        دخل علينا أمس ، وكنا جماعة في مجلس ، صديق لنا ، فقال : إن ابنة الأستاذ حبيب زحلاوي قد سقطت من الطبقة السادسة إلى الشارع ! فارتعنا جميعا ، وأعظمنا الخطب ، وكنا نعرفها طفلة حلوة ملء إهابها الطهر والجمال والنشاط ، فلم نستطع أن نتصورها وهي مزق من اللحم قد اختلط بعضه ببعض ووجمنا وكانت سكتة لم يقطعها إلا ضحك صديقنا المخبر ، فعرفنا أنها مزحة ثقيلة من مزحاته ، وأقبلنا عليه نسبّه ونشتمه ، فقال : والله ما كذبت عليكم ، لقد وقعت من الطبقة السادسة ولكنها لم تصب بشيء ، وهي سليمة ....
       فصرخنا جميعا : سليمة ؟! قال : نعم والله ! ألا تصدقون ؟ إنها وقعت على حبال الغسيل الممدودة بين الشرفتين حيال الطبقة الخامسة ، فعاقتها قليلا ، ونفذت منها على حبال الطبقة الرابعة ، وما زالت تمر من حبال إلى حبال ، حتى إذا بلغت الشارع ، كانت سقطتها على كومة الرمال ، صبتها سيارة صباح ذلك اليوم ، فلم تصب بأذى .
ومضى يحلف ويؤكد الأيمان أنّ الذي يرويه هو الصدق والحق ، وأن صبيًّا لصديق آخر لا أسمِّيه لئلا أسوءَه ، وأذكر بمصابه ، وقف على مكتب أبيه يلعب ، فرأى صورة معلقة بالجدار ، فوثب يريد أن يصل إليها ، فوقع على أرض الغرفة ، وكان من البلاط ، وكانت السقطة على يافوخه ، فمات لساعته .
       وقال معلقًا ومتفلسفًا : ففيم إذن نفكِّر وندبِّر ، ما دام لا ينفعنا فكر ولا يفيدنا تدبير ، ولم لا ندع الأمور للقدر ونتركها تجري على أعنَّتها كما يريد لها مجريها ، وما دمنا لا نملك أنفسنا ولا نعرف مصائرنا ، وما دام هذا الكون كالمعمل الضخم ، المشتبك الآلات ، المتعدِّد الحركات ، وما نحن إلا مسمار صغير فيه ، نسير كما يسيِّرنا (مهندسه) الأعظم ...
       وأسرع واحد منّا ، فقال مصدِّقًا : نعم ، ولكنا خُلِقنا للشقاء ، وأُقِمنا هدفًا للمصائب ، ووضعنا في دنيا ما فيها إلا الآلام . من سلم منها اليوم وقع غدا ، ومن لم يمت ولده من سقطته مات من علَّته ، أو مات وهو صحيح معافى ، ما في الموت من بدٌّ . . . ولا بدَّ قبل الموت من البلايا والمتاعب . . .
        وتكلَّم ثالث ، يرى نفسه من كبار العقلاء ، فأنكر القدر ، وجحد المقدِّر ، وزعم أنَّ الحياة ليست إلا عجينة في يدك ، أنت تديرها وتصورها ؛ فإن صنعت منها تمثال غادة جميلة كان لك جمالها ، وإن عملت منها هولة قبيحة كان عليك قبحها . . . إن مرضت فمن غقلالك الغذاء وإهمالك التوقِّي ، وإن دُعست فمن تركك الحذر ، وإن افتقرت فمن قعودك عن السعي . . . وأمثال هذا الكلام .
          فقلت له : فلم ولد هذا في دار علم وتهذيب فتعلم وعرف سبل الوقاية ، وخطر الأمراض ؛ ونشأ ذاك في بيت جهل وفساد ، فشبَّ جاهلا فاسدًا ، لا يعرف كيف يتقي الداء ؟ ولماذا دُعس هذا من قلة حذره ، وسلم من هو أقل منه حذرًا ، وطريقه أشد خطرًا ؟ ، ولماذا يسعى الرجل حتى تنقطع من السعي أنفاسه ويرجع ولم يصل ولا إلى مثل خفيّ حنين ؛ وتأتي الأموال لآخر بلا سعي ولا طلب ؟
       ولماذا ؟ ولماذا ؟ وألف لماذا ، لو شئت لسقتها لك فما استطعت الجواب على واحد منها . فما أنت في الوجود ؟ هل تسيِّر أنت الفلك على هواك ؟ وهل تسوق الكون إلى غايتك ؟ هل أنت إله ؟ إنك ما كوَّنت نفسك ، ولا شققت بيدك سمعك ولا بصرك .
      قال : فهل أنت أنَّ الإنسان مسيَّر ؟ .
قلت : ما مسيَّر ؟ وما مخيَّر ؟ وما هذه الفلسفة الفارغة ؟ لقد اشتغل بها البشر ، من يوم بدؤوا يفكِّرون واختلفوا عليها ، وتجادلوا ، ولا يزالون يختلفون ويتجادلون ، لم يصلوا إلى شيء ، إنما تاهوا في بيداء لا أول لها ولا آخر ، وهاموا على وجههم في مهمه متشابه الأرجاء ، بلا أمل ولا رجاء ، فذهب هذا ينكر القدر ، ويزعم أنَّ الحياة ملك الإنسان ، وأحداثها صنع يديه ، وراح ذاك ينكر إنسانيته ، ويجحد نفسه ويراها مسمارا في آلة الكون ، وحجرًا في جبل ، يدور مع الأرض أنَّى دارت . وكان هذا متشائمًا لا يرى إلا الذي وقع عن الكرسي فمات ، فاعتقد أن الدنيا دار المصائب ، وكان ذلك مغرورًا ، لم يبصر إلا التي وقعت من الطبقة السادسة ولم تمت ، فحسب أنه يسلم من كل أذى .
       ونحن مع القدر بَشر ، لا آلهة ولا حجر ، والدنيا ليست مسرَّة كلها ، ولا مصائب ، ولكنها مسرَّة وكدر .
         وأنا كلما فكَّرت ، وذكرت ما رأيت من الحوادث بعيني ازددت يقينا بأن أكثر الناس لا يعرفون سر الإيمان بالقدر :
         رأيت الترام مرَّة وقد انكسر مِقوده ، فانحطَّ من المنحدر الهائل عند (الجسر) في دمشق ، وكانت امرأة واقفة بين خطَّيه بعد المنعطف ، فلما رأته مقبلا كالموت النازل ، سمّرت رجلاها من فزعها بالأرض ، وجمدت ولم يجرؤ أحد أن يدنو لإنقاذها فيموت معها ، والوقت أضيق من أن يتَّسع لشيء ، فأغمضوا عيونهم حتى لا يروا . . . فلما وصلت الحافلة على المنحنى تركت الخط وسارت قُدُمًا ، فصدمت جدارًا من اللَّبِن ضعيفًا ، ومرَّت منه إلى قوم في دارهم فقتلتهم .
       ورأيت مرَّة بعيني شبابًا يمشون تحت فندق (عدن بالاس) في دمشق ، فرفع أحدهم رأسه فجأة فرأى شيئا يهوي قد صار حيال بصره فتناوله بيده ، فإذا هو صبي رضيع وقع من شبّاك الفندق ، وهبطت أمه كالمجنونة ، وهي امرأة من (حماة) فرأته سالمًا . . .
       ورأى غيري حوادث مثل هذه الحوادث . وفي كتاب (الفرج بعد االشدة للقاضي التنوخي) مئات من القصص عمَّن نجا وهو في لجّ الهلاك ، وفي كتاب الحياة آلاف من الأخبار عمَّن هلك وهو على بر النجاة .
        فما سرّ هذه العجائب ؟ وكيف عاشت المرأة وقد فرطت وعرضت نفسها للموت بسيرها بين خطَّي الترام ؟ ومات قوم اتخذوا كل أسباب الوقاية ، فدخلوا دارهم ، وأغلقوا بابهم ، فشقَّ الترام الحائط ودخل عليهم فدعسهم ؟ وكيف وقعت البنت فلم تمت ، وتموت كل يوم مئات من البنات من غير وقوع ؟
        إنَّ هذا هو السرّ الذي لا يعرفه أحد ، فلا تحاولوا كشف سرّ القدر ، ولكن استفيدوا من حكمة القدر ، وهذا ما سقت له حديثي .
       ستقولون : وماذا نعمل ؟ هل ندع أولادنا يسقطون من الشبابيك فلا نبالي لأنها إن كانت لهم حياة فسيبعث الله لهم حبالا تمسكهم ، أو رجالا تتلقَّاهم ؟ ولنقعد عن السعي لأنه إن كان لنا رزق فسيأتينا بلا سعي ؟!
      لا يا سادة ، ما هذا طريق فهم القدر ، ولا هذه حكمة القدر .
         صحيح أنَّ الرزق مقدَّر ، فهذا وُضع رزقه على مكتبه ، فما عليه إلا أن يقعد على كرسيّه ، ويمسك قلمه ، ويكتب اسمه الكريم كل نصف ساعة مرَّة على أوراق تعرض عليه ، وهو يشرب قهوته ، ويدخِّن دخينته ، فيأتيه الرزق . وآخر وُضع رزقه في رأس الجبل عليه أن يصعد إليه ، أو في بلد بعيد عليه أن يمشي إليه ، أو في باطن الأرض ينزل إليه ، أو في جوف البحر يغوص فيه ، أو في جيوب الناس ، يأخذه منها ليقبض عليه ، فيتحوَّل رزقه إلى السجن .
       كلٌّ يأكل لقمته ، ولكن من الناس من تجيئه اللقمة في صحفة من الفضة ، ومَن يأكلها مغموسة بالدم ، أو مبللة بالعرق ، أو ملطخة بالوحل !
   لا ، لا تقل ما سرّ القدر ، فما كشفه صاحبه لأحد ، ولكن ما دام الأمر مجهولا ، فاسعّ أن تأكل أنت لقمتك بطبق الذهب ، وجدّ وابذل الجهد ، فإن لم تصل إلى ذلك وصلت على الرضا والتسليم بحكم القدر ، وتلك هي حكمة القدر .
         والأجل محدود ، لا يدفعه إذا حضر حذر ، ولا يضر إن امتدَّ خطر ، وقد يموت الشاب الصحيح ، ويعيش الشيخ العليل ، ويهلك المعتصم بسبعة أسوار ، ويسلم الجندي الذي يقتحم النار . أعرف رجلا من أبطال الثورة الثورية ، رمى نفسه على الموت خمسين مرَّة فكان الموت يروغ من تحته ويهرب منه ، ثم انتهت الثورة ، ونام على فراشه ، فاختصم اثنان من السكارى ، فأطلق أحدهما رصاص مسدسه ، فأصاب خطأ رأس صاحبنا الذي نام فما قام !
   وروى ابن الجوزي أنَّ رجلا أُغمي عليه فحسبوه مات ، ونصبوه على السرير ، وجاؤوا بالمغسِّل ليغسله ، فلما أحس برد الماء ، تيقَّظ ونهض ، فارتاع المغسِّل وسقط ميتًا .
    فلا تسأل ما السرّ ، ولكن جاهد في سبيل الله ، وناضل عن الحق ، ولا تخف الموت في جهادك ونضالك ، لأنَّ الأجل محدود ، فقد تعيش مائة سنة ولو خضت غمرات الموت ، فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا ، واعمل لأُخراك كأنك ميت غدًا ، فتكون قد ضمنت لنفسك الدنيا والآخرة ، وهذي حكمة من حِكَم القدر .
    فالإيمان بالقدر حياة ، لأنه يفتح لك في كل ظلمة شعاع ضياء ، وفي كل عسرة باب رجاء ، ولولا الرجاء لمات المريض من وهمه قبل  أن يميته المرض ، ولقُتل الجندي في الحرب من خوفه قبل أن يقتله العدوّ ، ولولا الرجاء ما كانت الحياة .
         ولو تركت الأمور لاحتمالات العقل ، وقوانين المادة ، لما استطعت أن تتنفس الهواء أو تشرب الماء خشية أن تكون فيه جرثومة داء ، ولا ركبت سيارة لاحتمال أن تصطدم ، ولا صعدت بناء لإِمكان أن ينهدم ، ولما استولدت ولدًا لأنه قد يموت ، ولا اتَّخذت خليلا لأنه قد يخون ، ولما اطمأننت على مال لأنه قد يسرق ، ولا دار لأنها قد تحرق .
       والإِيمان بالقدر راحة لأنه لو كان الفشل من عملك وحدك ، وكان النجاح من صنع يدك لقطعت نفسك أسفًا إن فشلت ، أو سُبقت .
   والإِيمان بالقدر عزاء ، لأنك إن قُدِّر عليك بالمصاب بولد ، فاحمد الله ، ففي الناس من أصيب بولدين ، وإن خسرت ألفًا ففيهم من خسر ألفين .
       فهل عرفتم الآن ما حكمة القدر ؟
       هي أن نجدّ ونعمل ونسعى ، ونبذل الجهد ، ثم لا نحزن إن فشلنا ، ولا نيأس إن لم نصل إلى ما نريد ، وأن نكون مع القدر كمن يجتاز طريقًا فيه السيارات المزدحمات ، فإن ذكر حوادثها وأخطارها وحدها لم يستطع أن يتقدَّم خطوة ؛ وإن اعتقد من غروره أنه يستطيع أن يردّ عنه السيارة المقبلة ، ويدفع الخطر الآتي ، لم يسلم ؛ ولكن إن انتبه وسار بحذر ، فهذا هو العاقل ؛ ثم إن نجا حمد الله أن قدَّر له النجاة ؛ وإن أصيب ذكر أنه لم يقصِّر ، وإنما هو حكم القدر . . .
  أديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله
- صور وخواطر (166:159).

        *   *   *  


(*) بسم الله الرحمن الرحيم  (*)
(*)
سلسلة اخترت لكم 10 (*)
من الذكريات 1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابنتي بنان رحمها الله , و هذه أول مرة أذكر فيها اسمها , أذكره والدّمع يملأ عيني , والخفقان بعصف بقلبي , أذكره أول مرة بلساني وما غاب عن ذهني لحظة و لا صورتها عن جناني.
أفتنكرون عليّ أن أجد في كل مأتم مأتمها و في كل خبر وفاة وفاتها؟
واذا كان كل شجىّ يثير شجاه لأخيه ؛ أفلا يثير شجاي لبنتي؟
إنّ كل أب يحب أولاده ، ولكن ما رأيت ، لا والله ما رأيت من يحبّ بناته مثل حبي بناتي . ما صدقت إلى الآن وقد مرّ على استشهادها أربع سنوات ونصف السنة وأنا لا أصدق بعقلي الباطن أنها ماتت , إنني أغفل أحيانا فأظنّ إن رنّ جرس الهاتف أنّها ستعلمني على عادتها بأنّها بخير لأطمئنّ عليها.
تكلمني مستعجلة , ترصف ألفاظها رصفًا "مستعجلة دائما " كأنها تحسّ أن الردى لن يبطئ عنها , وأنّ هذا المجرم , هذا النذل ... هذا... يا أسفي , فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يطلق على مثله ؛ ذلك لأنها لغة قوم لا يفقدون الشرف حتى عند الإجرام, إن في العربية كلمات النّذالة والخسّة والدناءة ، وأمثالها , ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط الى حيث نزل هذا الذي هدد الجارَة بالمسدس حتى طرقت عليها الباب لتطمئنّ فتفتح لها , ثم اقتحم عليها , على امرأة وحيدة في دارها , فضربها ضرب الجبان , والجبان إذا ضرب أوجع , أطلق عليها خمس رصاصات تلقتها في صدرها وفي وجهها . ما هربت حتى تقع في ظهرها , كأنّ فيها بقية من أعراق أجدادها الذين كانوا يقولون :
ولسنا على الاعقاب تدمى كلومنا ............ ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
ثم داس ال...لا أدري والله بم أصفه ؟
إن قلت المجرم ، فمِنَ المجرمين من فيه بقية من مروءة تمنعه من أن يدوس بقدميه النجستين على التي قتلها ظلمًا ؛ ليتوثّق من موتها .
ربما كان في المجرم ذرّة من إنسانية تحجزه عن أن يخوض في هذه الدّماء الطاهرة التي أراقها .
ولكنه فعل ذلك كما أوصاه من بعث به لاغتيالها , دعس عليها برجليه ليتأكد من نجاح مهمته , قطع الله يديه ورجليه , لا , بل ادعه وادع من بعث به لله , لعذابه , لانتقامه , ولعذاب الآخرة أشدّ من كل عذاب يخطر على قلوب البشر.
لقد كلمتها قبل الحادث بساعة واحدة ,
قلت: أين عصام؟
قالت : خبّروه بأنّ المجرمين يريدون اغتياله و أبعدوه عن البيت .
قلت: فكيف تبقين وحدك؟
قالت: بابا لا تشغل بالك بي, أنا بخير. ثق والله يا بابا انني بخير . إن الباب لا يفتح الاّ إن فتحته أنا ، ولا أفتح إلاّ إن عرفت من الطّارق وسمعت صوته . إنّ هنا تجهيزات كهربائية تضمن لي السّلامة ، والمسلّم هو الله .
ما خطر على بالها أنّ هذا الوحش , هذا الشيطان سيهدد جارتها بمسدسه حتى تكلمها هي, فتطمئنّ فتفتح لها الباب.
و مرت الساعة فقرع جرس الهاتف , و سمعت من يقول لي : كلّم وزارة الخارجية.
قلت: نعم.
فكلمني رجل أحسست أنه يتلعثم و يتردد , كأنه كُلّف بما تعجز عن الادلاء به بلغاء الرجال , بأن يخبرني..كيف يخبرني؟
و تردد ورأيته بعين خيالي كأنه يتلفت يطلب منجى من هذا الموقف الذي وقّفوه فيه ثم قال: ما عندك أحد أكلمه؟
و كان عندي أخي , فقلت لأخي: خذ اسمع ما يقول,
و سمع ما يقول, و رأيته قد ارتاع مما سمع , وحار ماذا يقول لي , وكأني أحسست أنّ المخابرة من ألمانيا , وأنّه سيلقي عليّ خبرًا لا يسرني , وكنت أتوقع أن ينال عصامًا مكروهٌ فسألته: هل أصاب عصامًا شيء ؟
قال: لا, ولكن..
قلت: ولكن ماذا؟ عجّل يا عبدة فإنك بهذا التردد كما يبتر اليد التي تقرر بترها بالتدريج , قطعة بعد قطعة , فيكون الألم مضاعفًا أضعافًا ، فقل وخلّصني مهما كان سوء الخبر.
قال: بنان.
قلت: ما لها؟
قال , وبسط يديه بسط اليائس الذي لم يبق في يده شيء.
و فهمت وأحسست كأنّ سكّينًا قد غرس في قلبي , ولكني تجلدتّ , وقلت هادئًا هدوءًا ظاهريًا , والنار تتضرم في صدري:
حدّثني بالتفصيل بكل ما سمعت.
فحدثني.
و ثقوا أنني لا أستطيع مهما أوتيت من طلاقة اللسان , و من نفاذ البيان , أن أصف لكم ماذا فعل بي هذا الذي سمعت.
وانتشر في الناس الخبر ولمست فيهم العطف والحب والمواساة ...
ووصلتني برقيات تواسيني و إنها لمنة ممن بعث بها وممن كتب ، يعجز لسان الشكر عن وفاء حقها ، ولكني سكت فلم أشكرها ولم أذكرها ؛ لأن المصيبة عقلت لساني , و هدت أركاني ، وأضاعت عليّ سبيل الفكر فعذرًا وشكرًا لأصحاب البرقيات والرسائل.....
كنت أحسبني جلدًا صبورًا , أثبت للأحداث , و أواجه المصائب ، فرأيت أني لست في شيء من الجلادة ولا من الصبر ولا من الثبات...
صحيح أنه:
ولا بدّ من شكوى إلى ذي مروءة ...... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
و لكن لا مواساة في الموت , والسلو مخدر أثره سريع الزوال ، والتّوجع يشكر ولكن لا ينفع شيئًا.
وأغلقت عليّ بابي ، وكلما سألوا عني أبتغى أهلي المعاذير , يصرفونهم عن المجيء , ومجيئهم فضل منهم , ولكني لم أكن أستطيع أن أتكلم في الموضوع.
لم أرد أن تكون مصيبتي مضغة الأهواء , و لا مجالًا لإظهار البيان , أنها مصيبتي وحدي فدعوني أتجرعها وحدي على مهل.
ثم فتحت بابي , و جعلت أكلم من جاءني , جاءني كثير ممن أعرفه ويعرفني وممن يعرفني ولا أعرفه.
وجعلت أتكلم في كل موضوع الا الموضوع الذي جاؤوا من أجله , استبقيت أحزاني لي , وحدثتهم كل حديث حتى لقد أوردت نكتًا و نوادر . أتحسبون ذلك من شذوذ الأدباء ؟ أم من المخالفات التي يريد أصحابها أن يعرفوا بها ؟
لا والله ، ولكن الأمر ما قلت لكم.
كنت أضحك و أُضحِك القوم وقلبي وكل خلية في جسدي تبكي.
فما كل ضاحك مسرور:
لا تحسبوا رقصي بينكم طربا ...... فالطير يرقص مذبوحًا من الألم
إني لأتصوّر الآن حياتها كلها مرحلة مرحلة , ويومًا يومًا تمر أمامي متعاقبة كأنها شريط أراه بعيني.
لقد ذكرت مولدها وكانت ثانية بناتي , ولقد كنت أتمنّى أن يكون بكري ذكرًا ، وقد أعددت له أحلى الأسماء ، ما خطر على بالي أن يكون أنثى . وسميتها عنان وولدت بعدها بسنتين بنان اللهم ارحمها ، وهذه أول مرة أو الثانية التي أقول فيها اللهم ارحمها
وإني لأرجو الرحمة لها ولكني لا أستطيع ان أتصور موتها.
ولما صار عمرها أربع سنوات ونصف السنة أصرت على أن تذهب إلى المدرسة مع أختها , فسعيت أن تقبل من غير تسجل رسميًا.
فلما كان يوم الامتحان ووزعت علاماتها المدرسية وقد كتب لها ظاهريًا لتسر بها ولم تسجل عليها.
قلت : هيه؟ ماذا حدث؟
فقفزت مبتهجة مسرورة و قالت بلهجتها السريعة الكلمات, المتلاحقة الألفاظ:
بابا كلها أصفار أصفار أصفار.
تحسب الأصفار هي خير ما ينال.
وماذا يهم الآن بعدما فارقت الدنيا أكانت أصفارًا أم كانت عشرات , وماذا ينفع المسافر الذي ودع بيته إلى غير عودة , وخلّف متاعه وأثاثه , ماذا ينفع طراز فرش البيت ولونه وشكله .
أديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله (الذكريات : 6/122) .
 

الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©