موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة اخترت لكم (43 : 48)

(*) سلسلة اخترت لكم 43 (*)
اللّه زَادَ مُحَمَّدًا تَكْـــريمَا ... وَحَبَاهُ فَضْلًا مِن لَّدُنْهُ عَظِيمَا
وَاخْتَصَّهُ فِي الْمُرسَلِينَ كَرِيمَا... ذَا رَأْفَةٍ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صَلُّوا عَلَى مَنْ خُصَّ بالإنْبَاء... وَ أَبُوهُ مَا بَيْنَ الثـَّرى والماء
ثُمَّ استمرَّ النّورُ(1) فى الآباءِ ... فَتَوارثُوهُ كَريمةً و كَريمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صَلَّوا عَلَى بَدْرٍ ثَوَى فِى يَثْرِبِ... فَأَضَاءَ بِالأَنْوَارِ أَقْصَى المَغْرِبِ
وَجَلاَ عَنِ الدُّنْيَا دَيَاجِى الغَيْهَبِ... فَبَدَا لَنَا نَهْجُ الرَّشَادِ قَوِيمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صَلُّوا عَلَى مَنْ بالشّرائعِ قَدْ أَتَى ... و أبادَ أَحْزابَ الطـُّغاةِ و شَتَّتَا
وأَبَانَ أَسْبَابَ النَّجاةِ ووقَّتَا ... للأمَّةِ التَّحْليلَ و التَّحْرِيمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صَلُّوا عَلَى مَنْ بالغـُيوبِ يُحَدِّثُ ... و بِرَوْحِه الرَوْحُ المُقدَّسُ يَنْفُثُ
مَحْبُوبُنَا و شَـفِيعُنَا إِذْ نُبْعَثُ ... فِى يَومِ لا يَدْرِى الحَمِيمُ حَمِيمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صَلُّوا عَلَى بَدْرِ الهُدَى المُتَبَلِّجِ ... صَلُّوا عَلَى بَحْرِ النَّدَى المُتَمَوِّجِ
صَلُّوا عَلَى رَوْضِ الجَمَالِ الأَبْهَجِ ... كَيْمَا تَنَالُوا الفَوْزَ و التَّـنْعِيمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صَلُّوا عَلَى مَنْ عَهْدُهُ لا يُفْسَخُ ... صَلُّوا عَلَى مَنْ شَرْعُهُ لا يُنْسَخُ
صَلُّوا عَلَى مَنْ حِزْبُهُ لا يُمْسَخُ ... نَبَأ يُفـَهِّمُ فَضْـلُهُ تَفْهِيمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صَلُّوا عَلَى مَنْ فَخْرُه لا يَنْفُدُ ... صَلُّوا عَلَى مَنْ فَضْلُهُ لا يُجْحَدُ
أَنَّى و كُتْبُ الرُّسْلِ طـُرًّا تَشْهَدُ ... تُنْبِى اليَهُودَ بِفَضْلهِ و الرُّومَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صَلُّوا عَلَى مَنْ كَلَّمَتْهُ ذِرَاعُ ... وَبَفَضْلِهِ كَفَتِ المِئِينَ الصَّاعُ
وَالجِذْعُ حَنَّ لَهُ وماالأَجْذَاعُ ... بِأَرَقَّ مِنَّا أَنْفُسَاً وفُهُومَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صَلُّوا عَلَى مَنْ مَدْحُهُ لا يَفْرُغُ ... مَاذَا عَسَى مُدَّاحُهُ أَنْ يَبْـلُغُوا
فإِلَهُنَا يُثـْنِى عَلَيهِ و يُبْلِغُ ... فَاقـْْرأْْ تَجِدْهُ مُحَكَّماً تَحْكيمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صَلُّوا عَلَى مَنْ قَدْ شَفَى بالرِّيقِ ... عَيْنَ الضَّريرِ و لَدْغَةَ الصِّديقِ
و أعَادَ طـَعْمَ الماءِ مثلَ رحيقِ ... إِذْ مَجَّ فيه العَـنْبرَ المَخْـتُومَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صَلُّوا عَلَى مَنْ شَأْوهُ لا يُدْركُ ... صَلُّوا عَلَى مَنْ شَأنُه لا يُـشْرَكُ
مُوسَى و عِيسَى والخَلِيلُ تَبَرَّكُوا ... بلقَائهِ وَ عَنَوا لهُ تَسْليمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صَلُّوا عَلَى مَنْ خَلفَهُ صلَّى الرُّسُلْ ... شَرَفٌ على تَمكينِ عِزَّتهِ يَدُلّ
فَإذنْ فَقُلْ هُوَ سَيّدٌ لَهُمُ وَدُلّ ... لا تَخْشَ تَوْبيخاً و لا تَغْشيمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صَلُّوا عَلَى مَنْ قَدْ سَرَى فَوْقَ السَّمَا ... لَيْلاً و عَادَ و مَا بَرِحْنَا نُوَّمَا
بِالرُّوحِ و الجِسْمِ المُطهَّرِ قَدْ سَمَا ... قـُلْهُ وَ عَـلِّمْ مَنْ أَبَى تَعْلِيمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صَلُّوا عَلَى مَنْ قـَدْ رَأَى الرَّحْمنَا ... بالقلبِ بلْ بالعَيْنِ مِنْهُ عِيَانَا
مِنْ قابِ أوْ أَدْنَى قَرِيباً كَانَا ... فَخُذِ الفَوائِدَ و احْذرِ التَّجْسِيمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صَلُّوا عَلَى مَنْ قَدْ حَبَاهُ إِلَهُهُ ... بِالكَـوْثـَرِ المَرْوِى لَنَا أَمْوَاهُهُ
فِى يومِ حَشْرِ الخلقِ يَظْهرُ جَاهُهُ ... إذْ يَقْدُمُ الرُّسْلَ الكرامَ زَعيمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
صلَّى عَليهِ اللهُ مَا قـُطِـعَ الفـَلا ... صلَّى عَليهِ اللهُ ما اجْتَمَعَ المَلا
صلَّى عَليهِ اللهُ ما انتَجَعَ الكَلا ... أبَداً و مَا رَعَتِ السَّوَامُ هَشِيمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
للهِ سَـيِّـدُنَا النَّبىُّ الأَكْـمَلُ ... للهِ بَرْقُ جَبـِينِهِ المُتـَهَـلِّـلُ
للهِ جُودُ يمينهِ المُتَهَطَـَّـلُ ... أحْيا و أغْـنَى بالنَّوالِ عَدِيمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
للهِ مِنهُ ذاتُهُ و حَـقِـيـقَـتُهُ ... للهِ مِنهُ خَـلْقُهُ و خَـلِـيقَـتُهُ
للهِ مِنهُ شَرْعُهُ و طَـرِيقَـتُهُ ... فَلَقَدْ جَلَتْ بِشُمُوسِهَا التـَّغْـييمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
يا أُمُّةَ الهَادِى النَّبِىِّ المُصْطَفَى... واللّهِ لَوْ كُنَّا نُعَامِلُ بِالوَفَا
مُتْنَا عَلَيْه حَسْــرَةً وَتَلَهُّــفَا حَتَّى نُؤَدِّى حَقَّـــهُ المَحْتُــومَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
مَا كَانَ أَوْلانَا بِطُولِ نَحِيبِنِا... ما كَانَ أَوْجَبَنَا بِفَرطِ وَجِيبِنِا
أَفَنَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ عَنْ مَحْبُوبِنِا ... مَا الصَّبرُ عَن لُقْيَاهُ إِلاَّ لُومَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
لِمَ لا نُفِـيضُ عَلَى الدَّوامِ دُمُوعَنَا ... لِمَ لا نُفِـيضُ مِنَ الغَرَامِ ضُلُوعَنَا
لِمَ لا نُخَلِّى أَهْلَنَا و رُبُوعَنَا ... حتَّى نُعَايـِنَ مَْن ذُرَاهُ رُسُومَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
أَوَ لَمْ يَكُنْ يَحْنُو عَـلَيْنَا مُشْفِقـَا ؟... أَوَ لَمْ يَكُنْ مُتَعَطـَّفاً مُتَرَفـِّقـَا ؟
أَوَ لَمْ يُعَالجْنا بأنْواعِ الرُّقَى؟ ... حتَّى اغـْتَدَى منَّا العليلُ سَلِيمَا

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
مَنْ مِثْـلُهُ مَا إنْ يَضرُّ و يَنْفعُ؟ ... مَنْ مِثْلُهُ عـنَّا جَهَنَّمَ يَدْفَعُ ؟
مَنْ مِثْلُهُ لِذَوِى الكبائرِ يَشْفَعُ؟ ... مَنْ مِثْلهُ بالمُؤمنينَ رَحِيمِا ؟

صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمَا
الإمام الجليل محيي السنة محمود محمد خطاب السبكى رحمه الله (مِنَ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ فِي النَّشْأَةِ الْفَخِيمَةِ النَّبَوِيَّةِ)


(1) لعل الناظم رحمه الله يقصد تفسير آية الشعراء (219) من قوله تعالى : ((الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ.وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)) قال عكرمة : وتقلُّبك في أصلاب الأنبياء حتى أخرجك .

(*) سلسلة اخترت لكم 44 (*)

دار العلوم والبداية الحضارية :

كان انشاء دار الكتب المصرية ( الكتبخانة الخديوية ) سنة 1871 حدثا علميا وثقافيا هاما فى حياة مصر . ويرجع الفضل فى استحداث الفكرة وتنفيذها إلى على مبارك ( 1823 – 1893 ) الذى رأى أن الكتب – ومعظمها مخطوطات فى ذلك الوقت – معرضة للكثير من اعمال السطو والتلف نتيجة عدم مبالاة المصريين بقيمتها الحقيقية ، او تفريطهم فيها .
وقد وقع الاختيار على سراى ( رقم 43 بشارع درب الجماميز ، بورسعيد حاليا ، شمال مسجد الامير بشتاك المعروف فيما بعد بمسجد مصطفى فاضل باشا ) لتكون مقرا للمكتبة ، حيث يجرى جمع الكتب فيها من شتى انحاء البلاد ، بالشراء او بالاهداء ، ويسمح للباحثين والقراء بالاطلاع عليها ، تبعا للنظام المتعارف عليه فى البلاد الاوربية .
ومن الواضح ان رؤية على مبارك – اثناء بعثته الى فرنسا – للمكتبة الوطنية فى باريس هى التى دفعته الى محاكاتها بإنشاء دار الكتب فى مصر . وهنا نسأل : الى اى حد ، وصلت معرفة على مبارك بنشأة ونظام المكتبة الوطنية بباريس ؟ هو نفسه لا يحدد ذلك فى سيرة حياته التى كتبها بنفسه . ولكننا عندما نعود الى المنشئ الحقيقى لدار الكتب الفرنسية نجده هو جيوم بيديه G.BUDE (1) ( ت 1540 ) الذى اقترح على الملك فرانسوا الاول فكرتين لقيتا منه كل ترحيب وتم تنفيذهما فى عهده .
اما الفكرة الاولى ، فكانت هى انشاء مكتبة قومية للبلاد ، بدات اولا فى فونتان بلو ، ثم انتقلت بعد ذلك الى باريس ، واصبحت هى المكتبة الوطنية المعروفة اليوم .
واما الفكرة الثانية فهى إنشاء معهد علمى لتدريس اللغات : اليونانية ، واللاتينية والفرنسية ، اطلق عليه معهد اللغات الثلاث COLLEGE DE TROIS LANGUES والذى تحول فيما بعد الى الكوليج دى فرانس ، الموجود حتى اليوم .
ويوجد هذا المعهد خلف جامعة السوربون بباريس . وهو عبارة عن مؤسسة تعليمية وتثقيفية يحاضر فيها اكبر واشهر اساتذة الجامعات فى فروع المعرفة المختلفة . وينظم محاضراتها جدول سنوى ، يعلن فيه عن اسماء المحاضرين ، وموضوع المحاضرات ، وايام الاسبوع والساعات المخصصة لها ، ويحضرها من شاء من طلاب المعرفة والثقافة الرفيعة بدون قيد او تسجيـــــل (2) .
و مما يلفت النظر ما نجده من تشابه قوى بين هذا النعهد وعمله ، وبين ما استحدثه على مبارك فى مصر ، على هامش دار الكتب . فقد خصص احد قاعاتها المدرجة AMPHETHEATRE لتقوم بدور مشابه تماما لما كان يجرى فى الكوليج دى فرانس ، واطلق على هذه القاعة اسم " دار العلوم " . وبدا العمل بها فى يوم 6 مايو سنة 1871م .
ومن حسن الحظ ان لدينا جدولا تفصيليا يبين موضوع المحاضرات ، واسماء المحاضرين ، وزمن المحاضرة ، وفيما يلى بيان مختصر بذلك :

علوم الادب الشيخ حسين المرصفى ساعة ونصف الاحد والاربعاء
علوم الفلك اسماعيل باشا الفلكى ساعة ونصف الثلاثاء
علم الطبيعيات منصور افندى احمد ساعة ونصف السبت
فن السكة الحديد مسيو فيدال ساعة ونصف السبت والاثنين
فن الابنية فرانس باشا ساعة ونصف الاحد والثلاثاء
فن الالات جيجون بك ساعة ونصف الاربعاء
التاريخ العام مسيو هنرى بروكش ساعة ونصف الخميس
فقه ابى حنيفة الشيخ عبد الرحمن البحراوى ساعة ونصف السبت والاثنين
تفسير وحديث الشيخ احمد المرصفى ساعة ونصف الثلاثاء والخميس
علوم الطبيعيات( مع شرح الالات ) مسيو بكتيت ساعة واحدة الاربعاء
علم النباتات ( مع استحضار التباتات ) احمد بك ندى ساعة واحدة الخميس
ولاشك ان فكرة دار العلوم فى عمومها وتفصيلاتها كانت فكرة جديدة تماما على المجتمع المصرى ، الذى مرت عليه قرون متعاقبة ، وهو لايعرف سوى العلم اللغوى والدينى الذى كان يدرس فى مركز التعليم الوحيد لديه ، وهو الازهر الشريف ، بل ان هذا العلم اللغوى والدينى لم يكن يستمد مصادره من فترة الازدهار الحقيقية التى تمثلت فى القرون : الثالث والرابع والخامس الهجرية ، وانما حصر نفسه على فترة الضعف والتقليد التالية لذلك ، وهى التى خلا التصنيف فيها من الابتكار ، وابتعد عن مشكلات الواقع ، منكفئا على شرح الالفاظ ، وصياغة المتون ، ووضع المنظومات ، ثم العكوف على ذلك كله بالحفظ والتبرير ، بعيدا تماما عن النقد والتقييم .
أراد على مبارك بتنفيذ هذه الفكرة ان يضع اساس التقدم العلمى الحقيقى ، الذى لاينهض بجناح واحد من جناحى العلوم ، كما انه لايستمر بدون مواجهة الواقع الجديد بما ينشأ فيه من علوم , لكننا اذا كنا نلتقى فى تراثنا القديم بأمثال هذه الفكرة ، وخاصة لدى الفارابى ( ت 339 هـ ) الذى وضعها بتفصيل رائع فى كتاب " احصاء العلوم " فإن الفكرة لدى على مبارك لاتقف عند حد العثور عليها ، او الاعلان عنها ، وانما تمتد الى تنفيذها ، والاشراف على هذا التنفيذ حتى يتحقق لها الاستقرار اللازم .
وهكذا كانت فكرة دار العلوم كمجمع علمى ممهدة لفكرة دار العلوم كمدرسة نظامية . كان الأساتذة موجودين ، وكانت المواد التعليمية متوافرة ، ولم يبق إلا اختيار عدد من الطلاب لكى تبدأ المدرسة عملها . واتجه على مبارك إلى الأزهر ، فطلب من شيخ الأزهر ترشيح عشرة من نجباء طلاب الأزهر يحضرون بعض دروس دار العلوم " العربية والشريعة ويربط لكل منهم خمس وعشرين قرشا إعانة لهم من ديوان الأوقاف . ولهم الحق فى حضور الدروس الأخرى كالفلك والطبيعة ، وينتخب منهم المدرسون عند الحاجة " (4)
وفى مكاتبة لاحقة إلى شيخ الأزهر ، يشير على مبارك إلى أن الطلاب العشرة المقترحين للانتظام فى دار العلوم ، قد حضر منهم اثنان إلى على مبارك مباشرة ، ولذلك يرجو من شيخ الأزهر أن يحدد له ثمانية فقط . ولعل هذا يدل على أن طلاب الأزهر الذين حضروا الدروس التثقيفية العامة بدار العلوم هم الذين شجعوا على مبارك لكى يبادر بإنشاء المدرسة النظامية .
الأمر الملاحظ هنا أن على مبارك قد لجأ إلى الأزهر – معقل الدراسات النظرية التقليدية – لكى يمده بالطلاب الذين أراد أن يكوّن منهم طليعة المدرسين العصريين فى مصر . وسوف نجده يذهب فى طمأنة الأزهر نفسه إلى حد الاستعانة ببعض أساتذته أنفسهم للمشاركة فى التدريس لهؤلاء الطلاب بدار العلوم . وكان من أوائل من قاموا بهذا العمل : الشيخ حسين المرصفى لدروس الأدب ،واللغة ، والشيخ أحمد المرصفى للتفسير ، والشيخ عبد الرحمن الجيزاوى للفقه .
وعندما تهيأت لعلى مبارك الشروط اللازمة لبدء مشروع مدرسة دار العلوم ، رفع التماسا إلى الخديو إسماعيل فى 30 يوليه سنة 1872 جاء فيه : " وقد تلاحظ أن المشتغلين الآن بوظيفة التعليم فى اللغة العربية والتركية ليس فيهم الكفاية بالنسبة لذلك . فإن وافق الحضرة العلية ينتخب قدر خمسين من نجباء الطلبة من سن العشرين إلى الثلاثين ، يؤخذون بالامتحان ممن يرغبون ذلك ، ويوجد فيهم الأهلية واللياقة ، ويدرس لهم فى دار العلوم الملحقة بالكتبخانة العامرة بما يلزم لتكميل معلوماتهم واستعدادهم لأداء وظيفة التعليم وحسن التربية على الوجه المطلوب والأسلوب المرغوب ، ويحضرون جميع الدروس التى تلقى إليهم .. فإنه بهذه الوساطة يمكن الاستحصال على ما فيه الكفاية من المعلمين للغة العربية والتركية ، ويؤخذ منهم لجهات الاقتضاء على حسب اللزوم ، وبذلك يتقدم أمر العلم والمتعلمين " (5)
وقد أصدر الخديو إسماعيل مرسوما بالموافقة على تنفيذ فكرة على مبارك بكل تفاصيلها . وبدأ العمل فى مدرسة دار العلوم سنة 1872 مكونا من 32 طالبا ، وخمسة مدرسين ، منهم ثلاثة من علماء الأزهر . وقد استمر عدد الطلبة أقل من خمسين حتى سنة 1882 حيث بلغ 56 طالبا . ونظرا لعدم وجود خطة (منهج) موزعة على سنوات دراسية محددة ، فقد كان من الممكن أن يتخرج طلابها بعد عام واحد ، إذا حصّلوا ما عليهم من مواد دراسية . وكان أول من تخرج فيها سنة 1873 الشيخ محمد عبد الرؤوف والشيخ إبراهيم السمالوطى : عين الأول بمدرسة بنى سويف ، والثانى بمدرسة المنيا . (6)
فإذا رجعنا إلى مذكرات على مبارك نفسه ، التى كتبها فى آخر أيام حياته ، وجدناه يخصص فقرة كاملة للحديث عن فكرة دار العلوم ، وسبب إنشائها . يقول :" وحيث كان من أهم ما يلزم للمدارس الحصول على معلمين مستعدين للقيام بسائر وظائف التعليم ، أمعنت النظر فى هذا الأمر المهم ، واستحدثت مدرسة دار العلوم ، بعد استصدار الأمر بها ، وجعلتها خاصة لعدد كاف من الطلبة ، يؤخذون من الجامع الأزهر ، ممن تلقوا فيه بعض الكتب العربية ، والفقه ، بعد حفظ القرآن الشريف ، ليتعلموا بهذه المدرسة بعض العلوم المفقودة من الأزهر من عربية وتفسير وحديث وفقه ( على مذهب أبى حنيفة النعمان ) ، وجعل لهم مرتب شهرى يستعينون به على الكسوة وغيرها من النفقات ، ورتب لهم طعام فى النهار للغداء ، وجعل الصرف عليهم من طرف الأوقاف ، ورتب لهم من لزم من المعلمين ، من مشايخ العلماء ، وغيرهم ، ليقوموا بأمر تعليمهم وتدريبهم ، حتى يتمكنوا من هذه الفنون ، فينتفعوا ، ويجعل منهم معلمون فى المكاتب الأهلية بالقاهرة وغيرها ، لتعليم العربية والخط ونحو ذلك . فلما أشبع هذا الأمر وأعلن ، حضر كثير من نجباء طلبة العلم بالأزهر يطلبون الانتظام فى هذا السلك ، فاختير منهم بالامتحان جماعة على قدر المطلوب ، وساروا فى التحصيل ، فحصلوا ، وأثمر ذلك المسعى ، وخرج منهم معلمون فى القاهرة وغيرها ، وحصل النفع بهم ، ولهم ." (7)
ومرة أخرى ، نجد أنفسنا أمام التأكيد على أن روعة الفكرة لا تكمن فقط فى مجرد العثور عليها ، أو الإعلان عنها ، ولكن أيضا فى العمل الدؤوب على تحقيقها ، وحسن التأتى لذلك ، كما نراه بوضوح لدى على مبارك . فقد كان يهدف إلى " تحديث التعليم فى مصر " . وللوصول إلى هذا الهدف ، كان عليه أن يكوّن المعلمين الذين يصلحون لأداء هذه المهمة . ولم يكن هناك سوى الأزهر ، ذلك المعهد التقليدى المتمسك بما لديه من علوم ، والرافض تماما لاستقبال أى علوم جديدة ، ولهذا كانت فكرة دار العلوم هى الحل الأمثل للجمع بين القديم والجديد ، دون أن يضيع الوقت والجهد فى الاشتباك مع أصحاب القديم ، بل على العكس ، لقد مدّ يده إليهم طالبا العون ، ومن العجيب حقا أنهم ساعدوه على ذلك ، طالما كان عمله بعيدا عن معهدهم العتيق !
ولعل هذا هو الأمر الذى لم ينتبه له تماما الشيخ محمد عبده ( ت 1905 ) – على الرغم من مرور ربع قرن على إنشاء دار العلوم – فى محاولته إصلاح الأزهر عن طريق تعديل بعض مواده التعليمية ، وإدخال بعض العلوم الحديثة إليه كالحساب والجغرافيا . ونحن نعلم حدة المقاومة التى ووجه بها مشروعه الإصلاحى فى الأزهر ، ومدى المرارة التى توفى وطعمها فى حلقه ، من جراء معركته التى خاضها سدى فى هذا الميدان . (8)
كان محمد عبده من أشد المعجبين بفكرة دار العلوم التى استحدثها ونفّذها على مبارك . وقد شارك فى هيئة التدريس بها فترة من حياته ، وأسهم فى امتحاناتها بعض السنوات ، كما صّرح فى أكثر من مناسبة بأهمية دار العلوم فى الحياة التعليمية والثقافية فى مصر .
فعندما تحدث عن جهود على مبارك فى مجال التربية والتعليم ، ذكر أنه كان صاحب الفضل فى إصدار القانون الذى يمنع ضرب التلاميذ ، أو تربيتهم بالأهانة والقسوة ، وجعل التلميذ مقرونا بكرامة النفس التى هى قوام التربية الصحيحة .
كذلك فإنه ( على مبارك ) هو صاحب الفضل فى إنشاء مدرسة دار العلوم التى يقول محمد عبده عن تلاميذها إنهم " يؤخذون من طلاب العلم فى الأزهر ، فيضمون إلى العلوم الأزهرية جملة صالحة من العلوم الكونية التى تقرأ فى المدارس . وقد تخرج فى هذه المدرسة كثيرون خدموا المعارف فى مصر خدمة نافعة ، فمنهم معلمو العربية فى جميع مدارس الحكومة ، وبعض المدارس الأخرى ، ومنهم المشتغلون فى المعارف بالتفتيش فى المدارس والكتاتيب ، وهم محافظون على زيهم المصرى ، زى أهل العلم والدين ، ولهذه المحافظة تأثير عظيم فى التربية والتعليم " (9)
وفى تقريره الذى قدمه إلى اللورد كرومر عن أحوال التعليم فى مصر ، عدّ محمد عبده دار العلوم من بين سبعة مراكز للتعليم فى عهده ، وهى : المدارس الأميرية ، والمدارس الأجنبية ، والجامع الأزهر ، والكتاتيب الأهلية ، والمكاتب الرسمية الابتدائية ، والمدارس التجهيزية ، والعالية ، ومدرسة دار العلوم .
وفى نص ثالث ، يصرح محمد عبده بمكانة دار العلوم فى نفسه ، مما يدل على مدى تقديره لفكرتها الرائعة ، ونتائجها الملموسة فى حياة المجتمع المصرى ، يقول : " وإنى أنتهز هذه الفرصة (11) للتصريح بمكانة هذه المدرسة فى نفسى ، وما أعتقده من منزلتها فى البلاد المصرية ، ومن اللغة العربية .
إن الناس لا يزالون يذكرون اللغة العربية وإهمال أهلها فى تقويمها ، ويوجهون اللوم للحكومة لعدم عنايتها بأمرها ، ولم أسمعهم قط ينصفون هذه المدرسة (دار العلوم) ولا يذكرونها من حسنات الحكومة .
يقول مصطفى عبد الرازق : " ان إنشاء هذه المدرسة ( دار العلوم ) كان لتحقيق امنية من امانى الامة ، وهى الجمع بين ما فى الطرق الازهرية القديمة من دقة البحث وتقوية الملكات العلمية ، وما فى المدارس الحديثة من تنوع المعلومات ومراعاة الانتفاع بها فى الحياة .
ولقد نعلم ان مدرسة دار العلوم إذ أنشئت ووضعت مناهج التعليم فيها لم يتحر بها الذهاب الى وجهة فى العلم معينة ، فقد كانوا يعلمون فيها كثيرا من العلوم الدينية ، وكثيرا من العلوم العربية ، ولم تكن العناية بالعلوم الرياضية والطبيعية فيها باقل من العناية بتلك العلوم .
على ان دار العلوم لم تلبث ان تميزت فى العلوم العربية ، واصبح لها فيها تفوق واثر جديد . ظهر التجديد فيما وضع على انماط حديثة من كتب النحو والصرف والبلاغة ، وما الف بعد ذلك من كتب الادب ، وظهر لها تجديد فى اساليبنا الانشائية ، وقد كانت الى ذلك العهد محاطة بالتكلف فى المفردات بمراعاة الجناس والطباق واشباههما ، وفى التركيب بتعمل السجع ، وبقلة التنزه عن مبتذل الكلام وعن الخطأ الشائع فى استعمال الالفاظ وفى صياغتها (13) .
ويأسف مصطفى عبد الرازق لفترة من الضعف تعرضت لها دار العلوم ، بسبب سوء ادارتها ، كما اشار الى ذلك من قبل محمد عبده ، فيقول : " فترت عناية القائمين على امر تعليمنا بمدرسة دار العلوم فتورا يظهر ان ولاة الامر انفسهم شعروا به . فقد اشاعوا فى العام الماضى ( يقصد 1915 ) اشاعات كثيرة عن اصلاحات منتظرة لتلك المدرسة ، الحميدة الاثر ، ولكننا رزئنا فى تلك الاشاعات ايضا ، فلم نعد نسمع الا ان ناظرا سيحال الى المعاش ، ويرشح مكانه من لايقيم لسانه عجمة او استعجما " (14) .
وهو يرى ان الازهر ومدرسة القضاء الشرعى جميعا لم يعوضا فى حياتنا العلمية ماخسرته بالضعف الطارئ على دار العلوم (15) .
ويقرر ان مدرسة دار العلوم هى احق معهد علمى فى مصر بان يهم المصريين شأنه ، وذلك بأنها كانت خير مدرسة حفظ لها تاريخنا العلمى تذكارا حسنا . ولنا فيها امال عزيزة نرجو من ولاة الامور ان يرعوها .
ويطالب مصطفى عبد الرازق الحكومة صراحة بضرورة العناية بدار العلوم لكى تجعل منها : كلية للاداب العربية ، تتوفر فيها وسائل درسها درسا راقيا ، وتجعل مدرسة القضاء الشرعى : كلية قوانين اسلامية ذات عناية خاصة بالفقه الاسلامى ، اصوله وفروعه وتاريخه ، وما يتصل بذلك من تشريعنا الحديث المقتبس على وجه ما من الشرع الاسلامى القديم ، ثم نرجو الى الازهر ان يوجه فضل عنايته الى ما وراء هذا وذاك من علوم الدين ، وتاريخ المذاهب الدينية ، وفلسفـــــة الدين فى العقائد والاخلاق (16) .
وفى المقابل من موقف التقدير والإعجاب بدار العلوم ، الذى نجده عند كل من محمد عبده ومصطفى عبد الرزاق ، فإننا نلتقى لدى طه حسين بموقف يقوم على السخرية من دار العلوم ، ثم يتطور إلى عدم تقدير دورها الإصلاحى فى مجال تعليم اللغة العربية وآدابها ، وإغفال دورها فى خدمة الدين الإسلامى تماما ، وينتهى أخيرا بالمطالبة بإلغاء دار العلوم إلغاء – على حد تعبيره - ، لكننا ما نلبث أن نجد طه حسين نفسه يكتب تقريرا فى سنة 1935 مطالبا فيه بضرورة انضمام دار العلوم إلى جامعة القاهرة أسوة بغيرها من المدارس العليا التى ضمتها الحكومة إلى الجامعة فى نفس العام .
ولمتابعة موقف طه حسين من دار العلوم بالتفصيل ، لابد أن نبدأ من كتابه " الأيام " وما ورد فيه من حديث ، أشبه بالمزاح البرئ ، مع ابن خالته ، الذى كان حينئذ طالبا بدار العلوم . يقول طه حسين :" ولم ينس الفتى يوما خاصم فيه ابن خالته الذى كان طالبا بدار العلوم ، ولج بينهما الخصام ، فقال الدرعمى للأزهرى : ما أنت والعلم ! إنما أنت جاهل لا تعرف إلا النحو والفقه ! لم تسمع درسا قط فى تاريخ الفراعنة ! أسمعت قط اسم رمسيس وإخناتون ؟! وبهت الفتى حين سمع هذين الاسمين ، وحين سمع ذكر هذا النوع من التاريخ ، واعتقد أن الله قد كتب عليه حياة ضائعة لا غناء فيها ... " ثم ينقلب الحال فيحضر طه حسين بالجامعة المصرية ، " وهو يعود إلى بيته ذلك المساء ، وقد ملأه الكبر والغرور ، ولا يكاد يلقى ابن خالته حتى يرفع كتفيه ساخرا منه ، ومن دار علومه تلك التى كان يستعلى بها عليه ، وهو يسأل ابن خالته : أتتعلمون اللغات السامية فى دار العلوم ؟ فإذا أجابه بأن هذه اللغات لا تدرس فى المدرسة (17) أخذه التيه ،
وذكر العبرية والسريالية ثم ذكر الهيروغليفية . وحاول أن يشرح لزميله كيف كان المصريون القدماء يكتبون . ويصبح المغلوب غالبا ، والغالب مغلوبا " (18)
وفى " الأيام " بعد ذلك عدة إشارات إلى رفيقه الدرعمى فى البعثة الفرنسية (19) ، ولكن هناك إشارة واحدة إلى تحسّر طه حسين على رغبة سابقة فى الالتحاق بدار العلوم ، حتى تريحه من هموم الأزهر ، ومشكلات البعثة التى انتكست ذات مرة بسبب الحرب . يقول :" ولو قد التمس لنفسه عملا حين تخرج فى دار العلوم ، ولم يتكلف ما تكلف من السفر والغربة ، لكان فى ذلك الوقت معلما فى هذه المدرسة أو تلك من مدارس الدولة ! " (20) .
أما خلاصة هجوم طه حسين على دار العلوم فيتمثل فى أنها لم تنجح فى تجديد علوم اللغة العربية ، وإصلاحها والملاءمة بينها وبين حاجات الحياة الحديثة . وكل ما فعلته عبارة عن اختصار واختزال لعلوم النحو والصرف والبلاغة تحولت بالتدريج إلى متون كمتون الأزهر ، كما أنها لم تحبب اللغة العربية إلى نفوس التلاميذ ، وتزينها فى قلوبهم ، فضلا عن تقويتهم فيها ، وتمكينهم من أن ينتجوا ما كان ينبغى أن ينتجوا من الآثار الأدبية القيمة . إن المازنى والعقاد وهيكل وأمثالهم قد فعلوا – كما يقول طه حسين – أفضل مما فعلته دار العلوم بالنسبة للأدب العربى .
وهو يرجع سبب إخفاق دار العلوم فى مهمتها إلى أن نشأتها لم تكن طبيعية ، ولا متمشية مع منطق الأشياء ! فقد أعرضت عن تعمق علوم الأزهر ، وعن تعمق علوم المدارس العامة ، وأخذت قشورا فقط من هذه وتلك ، فأخرجت فى النهاية معلمين مضطربين بين القديم والجديد ، لا يستقرون فى ناحية ولا فى أخرى ، لأنهم لم يتهيأوا للاستقرار فى هذه الناحية أو تلك . ثم يقول متهكما : " ولست أخفى عليك ، ولا على نفسى ، أنى أرحم الذين أخرجتهم دار العلوم ، وأشفق عليهم أشد الإشفاق ، فهم ضحايا هذا التطور الحديث ! " (21)
ويذهب طه حسين فى كتابه الشهير " فى الأدب الجاهلى " إلى أقصى درجات الهجوم ، حين يعلن أن أساتذة دار العلوم : " قد أفلسوا ، وأنهم أقصر باعا وأضيق ذراعا من أن ينهضوا للغة العربية بحاجتها فى بلد كمصر " ويستمر قائلا : " نعم أفلسوا ، وأفلس معهم معهدهم العلمى الذى أنشئ لضرورة ، ويجب أن يزول بعد أن زالت هذه الضرورة . أفلسوا ، ولا بد لوزارة المعارف – إن كانت تقدّر حاجة اللغة العربية – من أن تلغى دار العلوم إلغاء ، وتعتمد على مدرسة المعلمين من ناحية ، وعلى الجامعة ( يقصد كلية الآداب فيها ) من ناحية أخرى . فهذان المعهدان قادران على أن يقدرا حاجة اللغة العربية ويرضيا هذه الحاجة " (22)
هذا هو ملخص هجوم طه حسين على دار العلوم ، الذى انتهى فيه إلى المطالبة بإلغائها . ولسنا هنا بصدد مناقشة رأيه هذا ، الذى انفرد به من بين جميع معاصريه (23) ، ولكننا ما نلبث أن نجد له رأيا آخر ، أكثر إدهاشا ، يطالب فيه بضرورة ضم دار العلوم إلى جامعة القاهرة " على أن تحتفظ باسمها التاريخى المجيد ، وعلى أن تكون فى الجامعة المصرية : مدرسة اللغة العربية واللغات الشرقية ، بمكان يشبه مدرسة اللغات الشرقية من جامعة لندرة (لندن) ، وعلى أن تخضع للنظام الجامعى شيئا فشيئا ، حتى لا يضر هذا التطور أحدا من طلابها وأساتذتها الحاليين " (24)
وفى موضع آخر يقول : " وقد كنت ، ومازلت أعتقد أن مدرسة دار العلوم يجب أن تكون أسرع المدارس العليا إلى الدخول إلى الأسرة الجامعية . وليس من شك عندى ، ولا عند أحد فيما أظن ، أن مدرسة دار العلوم أحق من مدرسة الزراعة والطب البيطرى بالانضمام إلى الجامعة " (25) .
وسوف نلتقى لديه ببعض عبارات الاستحسان تحل محل الهجوم والسخرية ، فهو يقول فى تقريره الذى قدمه لمدير جامعة القاهرة ليرفعه إلى وزير المعارف حينئذ (نجيب الهلالى بك سنة 1935 ) : " وقد أنشئت دار العلوم منذ أكثر من قرن ، فكان إنشاؤها فى نفسه تهضة حسنة ، وفتحا لباب التطور ، وأتت هذه المدرسة آثارا ملائمة للعصر الذى أنشئت فيه " (26) .
وهكذا يبدو أن موقف طه حسين من دار العلوم يشتمل على مرحلتين ، وأن المرحلة الثانية منهما تتميز بالاعتراف بدورها التاريخى ، مع محاولة للخروج بها من وضعها الراهن حينئذ لكى تؤدى دورا آخر أكثر تمشيا مع العصر ، وانفتاحا على تطوراته .


1872 – بدأت دار العلوم دورها التعليمى على هيئة مدرسة نظامية ، مكونة من 32 طالب ، وخمسة مدرسين ، منهم ثلاثة من الأزهر . وقد ظلت حتى عام 1875 ، تدرس فيها العلوم بدون خطة تحدد سنوات الدراسة ، مما أدى إلى أن يتخرج منها بعض الطلاب بعد عام واحد .
1875 – طبع أول منهج دراسى لها ، واشتملت علومها فيه على التفسير ، والفقه ، والعلوم الأدبية ( نحو وصرف وعروض وتاريخ أدب ونصوص ) ، والتاريخ العام ، والجغرافيا ، والحساب ، والهندسة ، والكيمياء ، والطبيعة ، والخطوط .
1880 – اشترط عدم توظيف خريجيها فى المدارس إلا بعد تلقى دروس ، نظرية وعملية ، فى طرق التدريس .
1885 – تحوّلت مدرسة الألسن إلى قلم الترجمة ، وضم إلى دار العلوم . ومنذ ذلك الحين أصبح تعلم إحدى اللغتين ( الإنجليزية والفرنسية ) متاحا لطلاب دار العلوم حسب رغبتهم .
1888 – رأى على مبارك أن دار العلوم قد حققت أفضل النتائج فى مجال التعليم ، والنهضة به ، فاتجه إلى أن يخرّج منها رجالا يصلحون لتولى وظائف القضاء ، والإفتاء ، والنيابة بالمحاكم الشرعية . وشكل لجنة برئاسته لتعديل منهجها ، ووضع شروط جديدة للقبول بها . ولكن هذا المشروع لم ينجح بسبب تخوف الأزهريين من مزاحمة خريجيها لهم " وسد سبل الارتزاق فى وجوههم ، مع اتساع سبل العيش لمتخرجى دار العلوم " كما جاء فى قرار رفض المشروع .
1895 – قرر مجلس النظار ( الوزراء ) زيادة عدد طلاب مدرسة دار العلوم إلى مائة طالب ، نظرا لشدة الحاجة إليهم . وفى نفس العام أيضا ، ونتيجة لخلاف ناظر المعارف مع ناظر دار العلوم ( إبراهيم مصطفى حينئذ ) غير اسمها إلى ( قسم المعلمين العربى ) وانضمت إلى مدرسة الناصرية فى مبنى مدرسة المبتديان ( السنية للبنات حاليا ) .
1900 – استقلت بمبناها السابق ( 41 ش المنيرة ) وسميت ( مدرسة المعلمين الناصرية ) ، ومع ذلك ، فقد ظل اسم دار العلوم هو المتعارف عليه بين الناس فى إطلاقه عليها ، حتى صدر قرار فى نفس العام بإعادة اسمها إليها – رسميا - .
1902 – طلب المستشرق الانجليزى د . براون ، الأستاذ بجامعة كمبردج ، ومستر لوريمار ، وكيل مقاطعة البنجاب فى الهند أن يسمح لهما بحضور دروس دار العلوم ، فأذن لهما بصورة استثنائية ، واستمرا فيها عاما دراسيا كاملا . وقد ترك د . براون كلمة طيبة عنها ، كما أنه رشح الشيخ حسن العدل من أساتذتها للتدريس بجامعة كمبردج (28) .
1919 – لوحظ بعض الضعف على المتقدمين إلى دار العلوم ، فتقرر إنشاء قسم تجهيزى بالمدارس يؤهل الطالب للالتحاق بدار العلوم فقط ( وهو عبارة عن القسم الأدبى بالمدارس ) الثانوية مضافا إليه علوم الدين الاسلامى ، والخط ، وعلم الحياة ، وعلم نظام الحكومات (النظم السياسية) . وقد ظل الطلاب الحاصلون على التجهيزية يدخلون دار العلوم بها فى الفترة ( 1924 – 1935 ) .
1924 – قام الأزهريون يطالبون بإلغاء دار العلوم ، وأن تكون وظائف تدريس اللغة العربية مقصورة عليهم وحدهم . وكان حل الحكومة أن يسمح للحاصلين على الثانوية الأزهرية بالالتحاق بدار العلوم ، بعد امتحان مسابقة ، وبشرط أن يتم تعديل نظام التعليم الثانوى بالأزهر لكى يقترب من منهج التجهيزية التى تؤهل لدار العلوم . وبذلك أسهمت دار العلوم – بطريق غير مباشر – فى تطوير التعليم بالأزهر نفسه .
1926 – قرر طلاب دار العلوم تغيير زيهم التقليدى ( الجبة والقباء والعمامة ) وارتداء زيهم الأفرنجى ، وقد نجحوا فى ذلك بعد الدخول فى معركة طريفة مع كل من إدارة المدرسة والحكومة (29) .
1927 – صدر قرار وزارى بتلقيب طلبة وخريجى دار العلوم بلقب ( أفندى ) ، بعد أن كانوا يلقبون رسميا بلقب ( شيخ ) .
1938 – تم إنشاء القسم الداخلى ( للمعيشة الكاملة ) بدار العلوم . كما صدر قرار بتسمية ناظر دار العلوم عميدا . وتكوين مجلس أساتذة إلى جانب المجلس الأعلى للدار .
1939 – تقرر تدريس اللغة الفارسية ، إلى جانب اللغة العربية التى كانت قد سبقتها بحوالى ربع قرن ، وصار الطلاب يوزعون لدراسة لغة واحدة منهما تحت اسم ( اللغات الشرقية ) .


1944 – ألغى القسم الداخلى . ودخل فى منهج الدراسة علوم التربية ، بالسنة الثالثة ، ثم ما لبثت إن ألغيت ، كما تم إنشاء قسم للخطوط العربية ، وقسم آخر ( ليلى ) لتدريس اللغات الأجنبية لخريجى دار العلوم ، وفى هذا العام ، بلغ مجموع المجلدات العربية بمكتبة دار العلوم 14647 والأجنبية 2628 .
1946 – صدر قانون ضم دار العلوم إلى جامعة فؤاد الأول ، وتحويلها إلى كلية جامعية تمنح درجة الليسانس ( بدلا من الدبلوم ) بعد أن قضت 73 عاما وهى تؤدى رسالتها كمدرسة عليا مستقلة .
1950 – صدرت لائحة جديدة خاصة بالدرجات العلمية التى تمنحها الكلية ، وهى :
ـــ الليسانس فى اللغة العربية وآدابها ، والدراسات الإسلامية .
ـــ الماجستير إما فى اللغة العربية وآدابها أو فى الدراسات الإسلامية .
ـــ الدكتوراه إما فى اللغة العربية وآدابها أو فى الدراسات الإسلامية .
وذلك بعد أن استقر توزيع المواد الدراسية بها على الأقسام العلمية السبعة التالية :
1- قسم النحو والصرف والعروض .
2- قسم علم اللغة والدراسات الشرقية .
3- قسم تاريخ الأدب والنصوص .
4- قسم البلاغة والنقد الأدبى والأدب المقارن .
5- قسم الشريعة الإسلامية .

6- قسم الفلسفة الإسلامية .
7- قسم التاريخ الإسلامى والحضارة الإسلامية .

بالاضافة إلى اللغة الأجنبية ( ساعتين أسبوعيا ) وهى : الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية .


وفى أول يوليو من نفس العام ، نوقشت أول رسالة ماجستير فى كلية دار العلوم للطالب ( حينئذ ) أحمد الحوفى . وكان موضوعها " الغزل فى العصر الجاهلى " وكانت الماجستير الثانية بعدها بيومين فقط للطالب ( حينئذ ) عبد الرزاق حميده وموضوعها " قصص الحيوان فى الأدب العربى " .
1951 – تقرر أن يقبل فى دار العلوم الطلاب الحاصلون على الثانوية العامة ( القسم الأدبى ) بالأضافة إلى ما يقرب من مائة طالب حاصلين على الثانوية الأزهرية .
1952 – تم قبول الطالبات بالكلية ، وقد حضرن فى البداية وحدهن لفترة ( فى المعهد العلمى الفرنسى المجاور للكلية ) ، ثم جلسن مع الطلاب بعد ذلك .
1991 – بلغ عدد خريجى دار العلوم منذ إنشائها 27965 ، وبمتابعة إحصائية الطلاب الوافدين من البلاد العربية والإسلامية ، والمسلمين فى الصين ويوغسلافيا وألبانيا والاتحاد السوفيتى (سابقا) يتبين أن عدد هؤلاء يصل إلى 10 % من مجموع الخرجيين . وبلغت رسائل الماجستير التى نوقشت بدار العلوم 485 ، وعدد رسائل الدكتوراه 309 .
1993 – بلغ عدد طلاب كلية دار العلوم ما يقرب من عشرة آلاف طالب وطالبة .

يقول سعد اللبان ، خريج دار العلوم ، ووزير المعارف فى بداية عهد الثورة : " لقد اضطلعت دار العلوم برسالتها العلمية والأدبية فى مستهل هذه النهضة ، وحملت مهمة البعث والتجديد فى تاريخ الأدب العربى . فبدأ رجالها بالتنقيب فى ثنايا القديم وأطلاله ، وجمعوا من كشوفهم هنا وهناك مادة شادوا منها صروح هذا الجديد ، فكان يغريهم دائما الاتجاه إلى الجديد ، وكان التجديد والتطوير واضحا فى كل ما صاغوه من ذلك القديم .. وهكذا كان البعث كامنا فى رسالة دار العلوم " (30) .
وفى رأيى أن هذا تلخيص جيد لدور دار العلوم فيما يتصل بالعلاقة بين القديم ، وهو التراث العربى والإسلامى ، وبين الحديث ، وهو ما استجد فى عصر النهضة من فنون ومتطلبات . ولكن دار العلوم كان لها دور آخر ، لا يقل عن هذا الدور (الرأسى) خطرا وأهمية ، فقد كانت قناة جيدة التوصيل ، عبرت منها عناصر حقيقية من الحضارة الغربية الحديثة إلى مصر .
وسوف يذكر اسم محمد شريف سليم ، الذى تخرج فى دار العلوم سنة 1888 ، ثم سافر للدراسة بفرنسا ، واشتغل بالتدريس عقب عودته فى دار العلوم فى الفترة ( 1885 – 1898 ) وفى هذه المدة قام بتدريس التربية وعلم النفس . وهو أول من وضع كتابا فى " علم النفس " باللغة العربية ( لكنه لم يطبع إلا فى سنة 1911 ) .
وسوف يذكر اسم عبد الرحيم أحمد بك ، الذى تخرج من دار العلوم سنة 1883 ، ومن بين أعماله العديدة : تأسيس لجنة تأليف الكتب العربية ( مكونة من 31 عضوا منهم 27 عضوا من أبناء دار العلوم ) قامت بطبع ونشر عدة كتب مدرسية ، من أهمها كتاب أطلس الجغرافيا للشيخ محمد فخر الدين بك ، أول مؤلف من نوعه بالعربية . وكذلك كتاب فى إمساك الدفاتر .
بل إن دور دار العلوم فى تحديث كتب الفقه الإسلامى يكاد يمثل اللبنة الأولى فى تطوير هذا العلم إلى النحو الذى أصبح عليه الآن ، سواء فى الأزهر ، أو فى أقسام الشريعة بكليات الحقوق . وسوف أتوقف قليلا عند أحد أعلام هذا المجال (المغمورين حاليا) وهو محمد زيد الإبيانى ، الذى تخرج من دار العلوم سنة 1891 .
" كانت كتب الشريعة الإسلامية ، التى تدرس لطلاب الفقه الإسلامى فى بداية أن قام الشيخ زيد فى مدرسة الحقوق هى الكتب المتداولة فى الأزهر وعلى الطريقة الأزهرية . غير أنه وجدت فى ذلك الوقت حركة فكرية ترمى إلى التسهيل فى تحصيل الأحكام الشرعية الإسلامية ووضعها وضعا قانونيا على هيئة مواد ، لعلها تكون يوما ما القانون الشرعى الذى يجب أن يعمل به فى مصر ( وهو ما نطلق عليه تقنين الشريعة الإسلامية ) .
وقد قام الأستاذ محمد زيد بتدريس الأحوال الشخصية لطلاب الحقوق من كتاب قدرى باشا . وكان يكتب ما يعن له من التعليقات عليه ، حتى تكامل عمله ، فوضع شرحا وافيا ممتعا لكتاب قدرى باشا فى ثلاثة مجلدات . وطبع لأول مرة سنة 1904 ، وقد تلقاه الناس بلهفة شديدة ، وشوق عظيم ، إذ وجدوا فيه ضالتهم المنشودة .
وقد ترجم هذا الشرح إلى اللغة الفرنسية ، ونال صاحبه من أجله وسام ( اليجون دونير ) من فرنسا .
وبهذا يعتبر الشيخ محمد زيد بك : الفاتح الثانى لذلك العصر الجديد على الشرع الإسلامى ، إذ مهد الوصول إلى تحصيله من أيسر طريق ، مع حسن الترتيب والتقسيم ، واستيفاء البحث ، وسلامة العبارة وسلاستها " (31) .
إن الإسهام الحقيقى لدار العلوم لا يتمثل فقط فى وضع أساتذتها الأول تلك اللبنات الأساسية فى صرح العلم الحديث بمصر ، وإنما يبدأ من عملية التعليم والتربية فى المدارس الابتدائية المنتشرة فى مراكز الوجهين القبلى والبحرى ، بالإضافة إلى مدارس المدن المتوسطة والكبرى . ونحن نلتقى فى هذا المجال بجيش كامل من الجنود المجهولين ، الذين رقموا الصفحة الأولى فى عقل مصر الحديثة .
وسوف أختار للدلالة على ذلك واحدا فقط من بين هؤلاء الجنود المجهولين هو المرحوم فخر الدين محمد ، الذى تخرج من دار العلوم سنة 1895 ، وعمل مدرسا بالمحمدية ، وانتهى بأن أصبح مساعد مفتش بالتعليم الأولى . وبالمصادفة كان هذا المدرس أستاذا للعقاد ، الذى كتب عنه فقرة فى مقال بعنوان ( أساتذتى ) نشر بمجلة الهلال ( أكتوبر 1948 ) يقول فيه : " استفدت فى مرحلة التعليم الابتدائى من اثنين ، على اختلافى بينهما فى طريقة الإفادة ، فإن أحدهما قد أفادنى وهو قاصد ، والآخر قد أفادنى عن غير قصد منه ، فحمدت العاقبة فى الحالين : أحدهما الأستاذ الفاضل مدرس اللغة العربية والتاريخ ، الشيخ فخر الدين محمد ، وكان الإنشاء صيغا محفوظة ، فى ذلك الحين ، كخطب المنابر وكتب الدواوين ، ولكنه كان يبغض الصيغ المحفوظة ، وينحى بالسخرية والتقريع على التلميذ الذى يعتمد عليها ، ويمنح أحسن الدرجات لصاحب الموضوع المبتكر ، وأقل الدرجات لصاحب الموضوع المقتبس من نماذج الكتب ، وإن كان هذا أبلغ من ذاك ، وأفضل منه فى لفظه ومعناه . وكان درسه فى التاريخ درسا فى الوطنية ، فعرفنا تاريخ مصر ، ونحن أحوج ما نكون إلى شعور الغيرة على الوطن ، والاعتزاز بتاريخه ، لأن سلطان الاحتلال الأجنبى كان قد بلغ يومئذ غاية مداه . " (32)
وفى هذا النموذج البسيط يتجلى روح العمل الحقيقى الذى قام به أبناء دار العلوم ، فقد جمعوا بين التربية والتعليم ، واستفادوا مما وصل إليهم من نظريات التعليم وعلم النفس ما جعلهم يطبقون ذلك على تلاميذ المدارس فى مصر ، وكانت تلك نقلة كبرى فى هذا المجال ، لم يكن يعرفها الشعب ولا علماؤه حتى ذلك الحين .
وفى الطرف المقابل من ذلك الجندى المجهول ، نجد الشيخ طنطاوى جوهرى ، الذى تخرج من دار العلوم سنة 1893 ، وأصبح بعلمه الواسع ومؤلفاته أشهر شخصية مصرية لدى الأجانب فى أوروبا والمسلمين فى آسيا ، وقد ترجمت معظم مؤلفاته إلى اللغات الحية ، ويقول عنه أحد تلاميذته : " . . . أما فى الطرق العامة ، فإنه يلقى أحد تلاميذه الذين يتوسم فيهم حب الاطلاع ، والتحرق إلى علمه وفلسفته ، وما أسرع ما يتأبط ذراعه فيسأله عن حاله ، وعن علمه ، وعما قرأ من كتبه ، وعما يرى الناس فيه ، بسطاؤهم وعلماؤهم ، ثم لا يكاد يفرغ من هذه الأسئلة العادية الأولية ، حتى ترى نفسك سائرا بجوار سقراط يحاورك ويسائلك ، ويستفهم ويندهش فيدهشك معه ، مما رأى وما يرى ، من العالم وسكانه وعجائبه ومدهشاته ، فتراك قطعت طريقك ، أو انتهى طريقه ، فيصعب عليكما أن تفترقا ، فيقف هنيهة ، ثم يودعك بمثل ما قابلك ، داعيا لك ، مسرورا بما رأى فى وجهك ، وما سمع من قصير عباراتك ، تاركا رنين صوته فى أذنك وآثار أفكاره فى قلبك " (33) .
وهكذا يتجاوز دور دار العلوم ، فى مجال النهضة ، مجرد نشر التعليم ، إلى إشاعة روح التربية والتعليم ، بما يشتمل عليه من تقديم النموذج والقدوة ، وتوطيد العلاقة الحميمة بين الأستاذ والتلميذ ، والخروج من أسر المتون ، وجدران المدارس إلى استثارة العقل ، ومعايشة الطلاب فى الواقع .
ولعل هذه الروح هى التى دفعت عددا من أبناء دار العلوم إلى ميدان الإصلاح الاجتماعى ، وفى مقدمتهم عبد العزيز جاويش (خريج سنة 1897 ) الذى أسس جماعة " المواساة الإسلامية " بعد جهاد طويل فى الصحافة ، والسياسة ، وعندما أسندت إليه وظيفة " مراقب التعليم الأولى " وضع الخطط لتعميم التعليم ، ومكافحة الأمية ، وظل يعمل من أجل ذلك حتى توفى سنة 1929 (34) .
وحسن البنا ، الذى تخرج من دار العلوم سنة 1927 ، أسس جماعة " الإخوان المسلمين " فى عام 1928 بالإسماعيلية ، وهى الدعوة التى كانت تهدف إلى إحياء نظام الإسلام الاجتماعى وتطبيقه ، والإسهام فى الخدمة الاجتماعية الشعبية ، وكان لها نشاط ملموس فى النواحى الدينية ، والاجتماعية والثقافية ، وتجاوزت حدود مصر إلى جميع أقطار العالم العربى ، ثم امتدت إلى الهند وباكستان ، وتركيا ، وأوروبا وأمريكا .
وفى مجال التعليم الجامعى ، يبرز دور دار العلوم كعمل تأسيسى لا غنى عنه . فعندما قامت الجامعة الأهلية سنة 1908 ، وكانت مقصورة على الدراسات الأدبية ، والفلسفية ، والقانونية ، كان لابد لها من أساتذة ينهضون بتدريس الأدب العربى ، والفلسفة الإسلامية ، والشريعة الإسلامية ، والتاريخ الإسلامى . وقد استعانت الجامعة بعدد من الأجانب ، ولكنها ما لبثت أن استعانت بأساتذة دار العلوم للمشاركة فى تدريس المواد العربية والإسلامية ، التى يحسنون فقهها ، ونقدها ، وتحليل نصوصها ، والتمييز بين أساليبها .
وهكذا تمت الاستعانة فى الجامعة الأهلية بكل من : حفنى ناصف ، ومحمد المهدى ، وأحمد ضيف للأدب العربى ، وسلطان محمد للفلسفة والأخلاق الإسلامية ، ومحمد الخضرى للتاريخ الإسلامى ، وغيرهم ممن كانوا دائمين أو زائرين ، وقد تركوا من الآثار العلمية ما كان عبارة عن الخطوات الأولى فى مسيرة الدراسات الجامعية .
ومن ناحية اخرى ، فإن الظروف الجديدة التى مرت بها حركة التعليم الجامعى فى مصر كانت تقضى ان يقوم الاساتذة بوضع المؤلفات المناسبة للطلاب الجامعيين على اساس المنهج العلمى الحديث . وهذا يعنى ان يتم اختيار موضوعات معينة للدراسة ، يجرى عرضها بلغة تتسم بالدقة والوضوح ، وتناقش فى اطار عقلى ومنطقى مناسب .. وقد قام اساتذة دار العلوم فى هذا الصدد بدور هام ، يكفى أن نشير هنا إلى بعض نماذجه : فى مجال النحو ، كتب إبراهيم مصطفى : إحياء النحو ، وعباس حسن : النحو الوافى ، وعلى النجدى : تاريخ النحو ، وعبد العليم إبراهيم : النحو الوظيفى ، ومحمد عيد : النحو المصفى ، وأصول النحو العربى ، ومحمد حماسة عبد اللطيف : النحو والدلالة .
وفى مجال تاريخ الأدب ، كتب عمر الدسوقى : فى الأدب الحديث ، والمسرحية ، وأحمد الحوفى : الوطنية فى شعر شوقى ، وعلى الجندى : شعر الحرب فى العصر الجاهلى ، وأحمد هيكل : الأدب الأندلسى ، وعبد الحكيم بلبع : النثر الفنى وأثر الجاحظ فيه ، والطاهر مكى : مصادر الأدب ، وامرؤالقيس ، وحمدى السكوت : سلسلة أعلام الأدب الحديث فى مصر ، ومحمد فتوح أحمد : الرمزية فى الشعر العربى المعاصر ، وعبد اللطيف عبد الحليم : شعراء ما بعد الديوان .
وفى مجال البلاغة والنقد الأدبى ، كتب أحمد بدوى : أصول النقد العربى عند العرب ، وحفنى شرف : البلاغة العربية بين النظرية والتطبيق ، وبدوى طبانة : معجم البلاغة العربية ، ومحمد غنيمى هلال : النقد الأدبى الحديث ، والأدب المقارن ، وعبد الحكيم حسان : النظرية الرومانتيكية فى الشعر ، ومحمود الربيعى : فى نقد الشعر ، وعلى عشرى : استدعاء الشخصيات التراثية فى الشعر العربى المعاصر .
وفى مجال الفلسفة الإسلامية ، كتب إبراهيم اللبان : الفلسفة والمجتمع الإسلامى ، وأبو العلا العفيفى : فلسفة محيى الدين بن عربى (بالإنجليزية ) والتصوف : الثورة الروحية فى الإسلام ، وإبراهيم مدكور : فى الفلسفة الإسلامية : منهجه وتطبيقه ، ومحمود قاسم : نظرية المعرفة عند ابن رشد وتأويلها لدى توماس الأكوينى بالأضافة إلى كتابه الهام : المنطق الحديث ومناهج البحث ، ومحمد كمال جعفر : التصوف : طريقا وتجربة ومذهبا ، وحسن شافعى : المدخل إلى علم الكلام ، وحامد طاهر : الفلسفة الإسلامية فى العصر الحديث .
وفى مجال التاريخ الإسلامى ، كتب محمد ضياء الدين الريس : النظريات السياسية والإسلامية ، والخراج فى الدولة الإسلامية ، ومحمد حلمى أحمد : الخلافة والدولة ، وأحمد شلبى : موسوعة التاريخ الإسلامى ، وموسوعة الحضارة الإسلامية ، وعلى حبيبة : عصر الرسالة ، وخلافة الراشدين ، والمسلمون والصليبيون .
إلى جانب وضع المؤلفات الحديثة فى شتى المجالات العربية والإسلامية ، قام أساتذة دار العلوم وخريجوها بالإسهام الرئيسى فى ميدانين مهمين هما : تحقيق التراث ، والترجمة من اللغات الأجنبية .
أما فى ميدان تحقيق التراث ، فقد كان لجهود أبناء دار العلوم أثر واضح فى إصدار عدد كبير من أمهات التراث العربى والإسلامى إصدارا علميا حديثا ، يعتمد على مقابلة النسخ المخطوطة ، وتخريج ما بها من نقول ، مع التعريف بأعلامها ، وأماكنها ، وشرح غامضها ، ووضع الفهارس الكاشفة لها ، ومن أهم النماذج التى تمت فى هذا الصدد : تحقيق مقدمة ابن خلدون لعلى عبد الواحد وافى ، والحيوان والبيان والتبين والرسائل للجاحظ لعبد السلام هارون ، وديوان طرفة بن العبد لعلى الجندى وكتاب المحتسب لابن جنى الذى حققه على النجدى ، وطبقات الشافعية الذى حققه كل من محمود الطناحى ، وعبد الفتاح الحلو ، ومناهج الأدلة لابن رشد الذى حققه محمود قاسم ، وفصوص الحكم لإبن عربى الذى حققه وشرحه أبو العلا عفيفى ، واللمع لابن جنى الذى حققه حسين شرف ، وديوان الشماخ ، واشتقاق الأسماء اللذين حققهما صلاح الدين الهادى ، وغاية المرام فى علم الكلام للآمدى الذى حققه حسن الشافعى ، وتفسير مقاتل بن سليمان ، الذى حققه عبد الله شحاته .. ويمكن أن تطول هذه القائمة لو ذهبنا ننتبع ما قام به أبناء دار العلوم فى ميدان تحقيق المخطوطات ، ونكتفى بالإشارة إلى أن عددا من الأسماء التى تخصص أصحابها فى هذا الميدان قد حققت سمعة عالمية ، وفى مقدمتهم : عبد السلام هارون ، وإبراهيم الإبيارى ..
وأما فى ميدان الترجمة ، فإن أبناء دار العلوم كانوا من أوائل من استشعر أهمية نقل العلم الغربى الحديث إلى مصر والعالم العربى . ونظرا لتمكنهم فى اللغة العربية ، ولحسن اختيارهم من اللغات الأجنبية التى أجادوها ، استطاعوا أن ينقلوا إلى اللغة العربية عددا من أهم المؤلفات الغربية ، سواء فى العلوم التى كانت تعتبر حديثة تماما على العالم العربى فى ذلك الوقت ، كالتربية وعلم النفس ، أو الدراسات الحديثة التى كان المستشرقون يقومون بها حول الإسلام والمسلمين . ومن أهم النماذج فى هذا الصدد : كتاب كيف يعمل العقل الذى ترجنه محمد خلف الله أحمد ، والذوق الأدبى لبنيت ترجمة على الجندى ، والتطور الخالق لبرجسون ، وقواعد المنهج فى علم الاجتماع لدور كايم اللذين ترجمهما محمود قاسم ، والفكر العربى ومكانه فى التاريخ ترجمة تمام حسان ، ودور الكلمة فى اللغة ترجمة كمال بشر ، ودستور الأخلاق فى القرآن لدراز ترجمة عبد الصبور شاهين ، وأسس علم اللغة ترجمة أحمد مختار ، وملحمة السيد ترجمة الطاهر مكى ، وبناء لغة الشعر ترجمة أحمد درويش ، والمنهج التجريبى : تاريخه ومستقبله ترجمة حامد طاهر ، وتاريخ التشريع الإسلامى ترجمة محمد سراج ، وتطور الفكر الفلسفى فى إيران لمحمد إقبال ترجمة حسن الشافعى .
ومن الجدير بالملاحظة هنا أن دور دار العلوم فى حركة الترجمة يستحق دراسة مستقلة ، تحصى ماقام به أبناؤها من أعمال ، وتبين صحة اختيارهم لها ، كما توضح طريقتهم الخاصة فى الترجمة ، والجهد الذى بذلوه فى تعريب المصطلحات الأجنبية ، ثم إلى أى حد بلغ تأثيرهم فى المترجمين الذين ساروا على خطاهم .
لكن التعليم الجامعى وما تطلبه من إعداد مادة تعليمية ( مؤلفة أو محققة أو مترجمة ) لم يكن هو مجال التأصيل الوحيد الذى قامت به دار العلوم فى مجال النهضة ، فقد قدمت دار العلوم عددا من كبار الأدباء والشعراء الذين ازدهرت بهم الحياة الأدبية فى مصر الحديثة والمعاصرة . ويكفى أن نذكر من شعرائها فى الجيل الماضى : على الجارم ، ومحمد عبد المطلب ، وعبد الله عفيفى ، ومحمود غنيم ، والعوضى الوكيل ، وعلى الجندى ، وطاهر أبو فاشا ، ومحمود حسن إسماعيل . ومن شعراء الجيل التالى : هاشم الرفاعى ، ومحمد الفيتورى ، وأنس داود ، وفاروق شوشه ، وحامد طاهر ، وعبد اللطيف عبد الحليم . وفى مجال الرواية والقصة القصيرة ، تبرز أسماء محمد عبد الحليم عبد الله ، وأبو المعاطى أبو النجا ، ومحمود عوض عبد العال ، وحسن البندارى .
ثالثا : اتباع سياسة حكيمة خاصة بالأساتذة تعمل على إرسال مبعوثين من أبناء دار العلوم المتفوقين إلى جامعات أوروبا ( انجلترا ، فرنسا ، ألمانيا ، أسبانيا ) لكى يطلعوا على الثقافة الغربية ، ويتزودوا بالمنهج العلمى الحديث . وبذلك كانت تتم عملية " تطعيم " فريدة من نوعها ، بين ما هو موجود فى التراث العربى والإسلامى ، وبين أحدث النظريات القائمة فى العالم الحديث والمعاصر ، لدى أساتذة دار العلوم العائدين من البعثات الغربية .
بهذه العناصر الثلاثة ، المتصلة بالمنهج والطلاب والأساتذة ، نجحت دار العلوم فى أداء رسالتها طوال القرن العشرين ، واستطاعت أن تكون لنفسها شخصية ذات معالم مميزة .
والسؤال الآن : هل مازالت دار العلوم قادرة على مواصلة مسيرتها بنفس الكفاءة ؟ الواقع أنها تسعى بكل طاقتها . ولكن إمكانياتها قليلة ، والظروف التى تعمل فيها صعبة . فمناهحها بحاجة إلى تطوير ، شأن كل شئ فى الحياة ، خاصة وأنه قد مضى عليها الآن أكثر من ستين عاما بدون مساس . وطلابها بحاجة إلى اختيار دقيق ، كما يتم فى أقسام اللغة الإنجليزية أو الأسبانية ، بل كما اشترط ذلك على مبارك نفسه . فإن مدرس اللغة العربية ينبغى أن يختار مهنته تلك بالتطوع ، ولا ينبغى أن تفرض عليه بالتجنيد . أما أساتذة دار العلوم ، فهم بحاجة إلى مزيد من الاتصال بالعالم الخارجى ، وأقصد بالعالم الخارجى الأوساط العلمية والثقافية فى أوروبا وأمريكا ، وفى مقدمتها الجامعات ومراكز البحث ، والمؤتمرات العلمية التى تعرض فيها أحدث ما توصل إليه الدارسون فى مجال الدراسات العربية والإسلامية .
وتبقى فى النهاية كلمة مختصرة ، وهى أن دار العلوم ليست مجرد كلية جامعية ، تستقبل أفواجا من الطلاب لتخرجهم ، بعد أربع سنوات ، إلى ميدان العمل . وإنما هى اتجاه واضح المعالم ومن أهم خصائص هذا الاتجاه : التمسك بالتراث بينما ينفلت الأخرون تماما إلى الحداثة ، والإفادة المتزنة من التحديث ، دون انغلاق تام على تراث الماضى . وهكذا فإنها تمضى وسط الوادى كما يسير نهر النيل .. بطيئا ، ولكنه متجدد



هوامش البحث :(1)J.PLATTARD, G.BUDE ET LES ORIGINENES DE LHUMANISME FRANCAIS . PARIS 1923
(2) عندما كنت مبعوثا فى باريس ( 1974 – 1981 ) ترددت كثيرا على مبنى الكوليج دى فرانس ، وتابعت محاضراته التى كان يلقيها جاك بيرك ( فى علم الاجتماع ) واندريه ميكيل ( فى الاداب المقارن ) ، ويلاحظ ان اختيار اساتذته يجئ من بين المع اساتذة الجامعات الفرنسية ، والتدريس فيه يعد ارقى من التدريس فى الجامعة نفسها .
وقد سبق ان اشرت فى مقدمة ( ديوان حامد طاهر ) القاهرة 1985 الى تمثال شامبليون الذى يتوسط فناءه وهو يضع قدمه على راس فرعون مصرى ، وطالبت بضرورة رفع هذا التمثال السئ من هذا المكان الذى يؤمه علماء العالم كله ، حين يزورون فرنسا .
(3) يقول د . احمد عزت عبد الحكيم : " لعل محاضرات دار العلوم شبيهة بالجامعات الشعبية التى يتحدثون عن انشائها فى الوقت الحاضر " هامش ( 1 ) ص 579 تاريخ التعليم فى مصر ج 2 ، والواقع ان الفكرة بردها الى مثيلتها فى باريس ابعد ماتكون عن الجامعة الشعبية بمعناها المتداول عندنا الان .
(4)انظر الخطابات الرسمية فى هذا العدد ، ومرسوم إنشاء دار العلوم بتوقيع الخديو إسماعيل فى كتاب : تاريخ التعليم فى مصر لأمين سامى باشا .
(5)السابق ص 26
(6)انظر تقويم دار العلوم ( العدد الماسى ) للأستاذ محمد عبد الجواد ، ص 1 – 18
(7)انظر كتاب : حياتى بقلم على باشا مبارك – علق عليه عبد الرحيم يوسف الجمل ص 45-46 مكتبة الآداب بالقاهرة 1989 .
(8)انظر : زعماء الإصلاح لأحمد أمين : الفصل الخاص بمحمد عبده .
(9)الأعمال الكاملة لمحمد عبده ج 3 ص 119 بعناية د. محمد عمارة وانظر أيضا كتابنا : الفلسفة الإسلامية فى العصر الحديث ص 195 ، 196 . دار الثقافة العربية – القاهرة 1992 .
(10)الأعمال الكاملة لمحمد عبده ج 3 ص 168 ، 169
(11)عقب أداء امتحانها سنة 1904 الذى كان يجرى علنيا ، ويشبه مناقشة الرسائل العلمية فى جامعاتنا حاليا .
(12)انظر:تاريخ التعليم فى مصر ، لأمين سامى باشا ص 81 . ونحن نقترح على إدارة الكلية أن تضع هذه العبارة التاريخية على لوحة تذكارية فى مدخل الكلية .
(13) من مقال منشور بتاريخ 20 اكتوبر 1916 بعنوان " دار العلوم ايضا " – انظر : من اثار مصطفى عبد الرازق ص 272 .
(14) السابق ص 273 .
(15) السابق ص 271 .
(16) السابق ، ص 274 ، 275 .
(17) يلاحظ أن تدريس اللغة الفارسية بدأ فى دار العلوم ابتداءا من سنة 1949 ، وانضت بذلك إلى اللغة العبرية التى سبقتها بحوالى ربع قرن .
(18)الأيام 3 / 87 .
(19)الأيام ج3 ص 33 ، 34 ومن المعروف أن هذا الدرعمى الذى لم يذكر اسمه مرة واحدة هو أ . د . أحمد ضيف خريج دار العلوم سنة 1909 الذى حصل على الدكتوراه من فرنسا فى الأدب ، وعمل أستاذا بكلية الآداب ، ثم انتقل إلى وزارة المعارف ، ومنها أخيرا إلى دار العلوم حتى صار وكيلا لها ، وبعد إحالته إلى المعاش عين أستاذا للأدب العربى فى كلية الآداب حتى وفاته سنة 1945 ( انظر تقويم دار العلوم – العدد الماسى ، ص 164 ، 165 ) .
(20)الأيام ج3 ص 87
(21)مستقبل الثقافة فى مصر ، ص 378 .
(22)فى الأدب الجاهلى ، ص 16 – دار المعارف ط 16 . القاهرة 1989 .
(23)من بين هؤلاء المعاصرين : الزيات ، والرافعى ، وهيكل ، والمازنى ، والعقاد ، وأذكر عندما حصلنا – أنا ومجموعة من زملائى – على الثانوية الأزهرية سنة 1963 ، ذهبنا إلى الأستاذ العقاد نسترشده فى الالتحاق بأى كلية ، وكان معنا المحقق المرحوم السيد أحمد صقر ، أشار علينا بدخول دار العلوم ، وأثنى عليها ثناء طيبا ، قائلا : إنها المعهد الذى يجمع بالفعل بين القديم والجديد فى توازن معقول .
(24)مستقبل الثقافة فى مصر ، ص 393 .
(25)السابق 385 .
(26)السابق 387 .
(27)قمنا باختصار وترتيب هذه المعالم من تقويم دار العلوم (العدد الماسى) الذى وضعه الأستاذ محمد عبد الجواد ، وأعيد طبعه سنة 1990 بمناسبة العيد المئوى لدار العلوم .
(28)المصدر السابق ، ص 36 – 40 ، وقد نشرت فى جريدة المؤيد العدد 4129 ، بتاريخ 5 ديسمبر 1903 .
(29)استقر أمر الطلاب فيما بينهم على توفير الزى الأفرنجى لكل واحد منهم ، واتفقوا فى يوم معلوم أن يذهبوا جميعهم إلى الكلية بهذا الزى ، ومزيدا من الاحتياط فقد خصصوا من بينهم بعض الطلاب لمراقبة من تسوّل له نفسه ارتداء الزى القديم . وفوجئت إدارة المدرسة ، فحاولت منعهم بالقوة ، وتدخل جنود الشرطة . وكانت الحيلة فى ارتداء الزى التقليدى فوق الأفرنجى بمجرد الدخول فقط . وفى الداخل نزعوه ، وظلوا بالزى الأفرنجى ، مما اضطر إدارة المدرسة إلى المواقفة على مطالب الطلاب ، وكذلك الحكومة ! وتسمى هذه المعركة : معركة تغيير الزى .
(30)انظر : تقويم دار العلوم العدد الماسى ص ب ، د ، ه ، و . وهى عبارة عن تقديمة لتقويم دار العلوم .
(31)من مقال الشيخ أحمد إبراهيم بك عن زيد بك الإبيانى ، نشر فى صحيفة الجامعة المصرية ، عدد مايو 1936 – وهو موجود بتقويم دار العلوم ( العدد الماسى ) ص 262 ، 263 .
(32)انظر تقويم دار العلوم ، العدد الماسى ، ص 568 .
(33) السابق ، ص 193 .
(34)كان لعبد العزيز جاويش أثر بالغ فى حياة طه حسين ، وكتاباته الصحفية ، كما اعترف بذلك فى " الآيام " جـ 3 ، ص 20 – دار المعارف ، ط سادسة 1982 .
(35)انظر فى هذا الصدد " المجمعيون فى خمسين عاما " للدكتور مهدى علام . القاهرة 1986 ، و " مع الخالدين " للدكتور إبراهيم مدكور . القاهرة 1981 ، و.التراث المعجمى للأستاذ إبراهيم الترزى ، وهو عن مجمع اللغة العربية فى عيده الخمسين ( 1934 – 1984 ) .
(*) سلسلة اخترت لكم 45 (*)
نشرت أول سنة 1939
نظرت اليوم في سجل ميلادي فوجدتني على أبواب الثلاثين , فتركت عملي وجلست أفكر : ماذا بقي لي من هذه السنين الثلاثين يا أسفي ؟ لم يبقَ إلا ذكريات واهية تحتويها بقية قلب تناثرت أشلاؤه على سفوح قاسيون في دمشق ، ومسارب الأعظمية في بغداد ، وغابات الصنوبر في لبنان ... أي والله ، وعلى طريق الأهرام في مصر ، وضفاف ((الشط)) في البصرة ، وحوائط النخيل في يثرب ... أشلاء من قلبي وأشلاء . فماذا أفدت من عمري الضائع وشبابي الآفل ؟ لا شيء ! لا مجد ولا مال ولا بنين لم أفد إلا اسما مشى في البلاد فحمل قسطه من المدح و الذم و التمجيد و الشتم ، ولكني كنت في معزل عن هذا كله فلم ينلني منه شيء , إن اسمي ليس مني ؛ إنه مخلوق من حروف ، ولكني إنسان من لحم و دم . فهل تشبعني الشهرة ، أو يكسوني الثناء ؟ ولم أملك إلا قلبًا أحبَّ كثيرا وأخلص طويلًا , ولكنه سقط كَلِيمًا على عتبات الحب والإخلاص ، ورأسًا حشوته بما وجدت من العلوم والمعارف ، فأثقلته علومه عن التقدم فاحتلت مكانَه الرؤوسُ الخفيفة الفارغة !
فيا ليتني علمت من قبل أن الحياة مثل اللجة , يطفو فيها الفارغ و يرتفع , و ينزل فيها الممتليء و يغوص !

إني لأتصور الآن كيف كنت أنظر في طفولتي إلى أبناء الثلاثين ، أولئك الشباب الكُمَّل الذين بلغوا قمة الحياة وعرفوا الاطمئنان والاستقرار ، فأجد بيني وبينهم بونا شاسعًا وأرى أني لن أبلغ الثلاثين أبدًا ... ذلك لأن كل ما أعلمه أني وُلدت وأنا ابن أربع سنين ، فأُدخلت المدرسة ، فكنت أعيش فيها سنة لأنجح في الامتحان وأرتقي من صف إلى صف وأستمتع بالعطلة . فلما أكملت دراستي العالية ولم يبقَ من مدرسة ولم يبقَ امتحان وقفت فلم أتقدم ، وفقدت غايتي فلم أعد أحسُّ أني أعيش . ثم تلفتُّ إلى الماضي أعيش بذكراه ، فأصبحت كلما انقضى عليّ عام رجعت فيه سنة إلى الوراء ، فأنا أصغر كلما كبرت ، وأدنو من الطفولة كلما نأيت عنها .
فمتى أبلغ الثلاثين ، وأين أحط رحالي بعد هذا المسعى ؟

وغشيت قلبي غاشيةٌ من غمّ ، فأشعلت عودًا من الكبريت لأوقد المدفأة وكنت في ذَهلة - فسرت النار في العود ، ثم تأججت وتوقدت وأنا أنظر إلى اللهيب جامد العين محدقًا في عالم بعيد الغور ، حتى أحسست بحرارة النار في يدي ، فإذا هو قد استحال إلى فحمة سوداء ضعيفة تطير مع النسيم ... فقلت : هذه هي الحياة ؛ إن الألم الذي أحسسته يلذع نفسي هذه العشية كلذع النار إصبعي ، سينتهي بي إلى مثل هذا المصير . سأمضي كما مضى هذا العود ، ولكني لا أخلف ورائي شيئا . لن أدع مالًا ولا جاهًا ولاعملًا ، لأني اشتغلت واحسرتى - بالأدب !
ويا ليتني تفرغت - بعدُ - للأدب ولم يستغرق حياتي الكدحُ للعيش . إني لم أعمل شيئا ؛ إن في رأسي وقلبي شيئا كثيرًا ، ولكن قلمي مكسور ، ودواتي جافة ، ولساني مشدود بنَسْعة ، فأنا لا أستطيع أن أقول ...
عندي ألحان كثيرة فأنا أحب أن أغني ، ولكن الغناء يستحيل - من الضيق - إلى زفرات تخرج مقالات ، فيحسبها الناس ألحاني كلها ، إلاّ أن ألحاني لا تزال في صدري لم يسمعها بشر . وماذا ينفعني أن يسمعها الناس فيطربوا ويصفقوا وأتفرد أنا بالخيبة والألم ؟ إن الناس لا يألفون إلا الأغاني الفارغة المدوية ، فلتبق أغانيَّ العذبة في صدري ، أسمعها وحدي من غير أن يتحرك بها لساني لأن لساني مشغول بإلقاء الدرس .
كل ما أكتب زفرات متألم وإشارات أخرس ، فهل يأتي اليوم الذي تنحسر فيه الزفرات عن الأغاني ، والإشارات عن الألفاظ والمعاني ؟

على أن هذه الزفرات وهذه الإشارات عزاء نفسي ، فكم لهذه ((الرسالة)) من فضل عليّ ، وكم من الفضل لهؤلاء الأدباء الذين يستطيعون أن ينقلوني من دنياي هذي الضيقة إلى دنيا واسعةتطير روحي في أجوائها حرة طليقة ، أمثال الرافعي ومعروف والزيات !
فهل يدري الزيات ، أو هل يدري معروف الأرناؤوط ، أني طالما أصرمت الليالي الطويلة في فرتر ورفائيل (1) وسيد قريش وعمر ابن الخطاب (2) وأني طالما لجأت إليها أقرع أبوابها وأتوارى وراء أسوارها في جنان سحرية ، لا أستطيع أن أصفها بأكثر من إعلان العجر عن وصفها ؟ فأيّ عالم في رأس معروف ، وأيّ دنيا في صدره ؟ وأيّ نبل وسمو في هذه اللغة ، لغة معروف ولغة الزيات ولغة الرافعي ، هذه التي تتيه بجواهرها ولآلئها ، على حين تمشي لغات كتاب العصر بأسمالها البالية ومزقها المخرَّقة ... لغة فخمة تشعرك بالسيادة والعظمة ، لا كهذه اللغات الهزيلة العارية.
وكم من الفضل لهيكل عليّ ، فلقد سلخت في قراءة كتابه ((منزل الوحي)) أيامًا كنت أعيش فيها في عهد النبوة ، ولقد مررت


(1)((آلام فَرتر)) لغوتة و((رُفائيل)) للامارتين ، ترجم كليهما عن الفرنسية أديب العربية وصاحب الرسالة: أحمد حسن الزيات. و((سيد قريش)) في ثلاثة أجزاء و((عمر بن الخطاب)) في جزأين لمعروف الأرناؤوط ، ولجدّي وصف له في غاية الطرافة في الحلقة 35 في ((الذكريات)) ، قال: "ولما شرع يؤلف ((سيد قريش)) لم يكن قد جدد دراسته للتاريخ ، فكان مستشاره الحاج (فلان) ، وهو رجل قرأ في زمانه التاريخ ونسيه ، ثم نسي أنه نسيه ..." ، إلى آخر المقالة . (انظر الذكريات: 2/5 وما بعدها) (مجاهد) .
(2) ثم رأيت ذلك كله عبثًا ، وأن النافع ما نفعك في آخرتك .


بهذه البقاع التي يصفها وأثارت في نفسي عوالم من الذكريات والآمال والخواطر ، فإذا أنا أجدها كلها وأجد أكثر منها في كتاب هيكل .

يا رحمة الله على هذه الأيام ! أيام كنت أغلق بابي عليّ ، ثم أقبل على كتبي أجالس فيها العلماء والأدباء وأجد في حديثهم الصامت لذة ومتاعًا . كنت أقرأ لأني كنت أجهل الحياة ، فلما عرفتها لم أعد أطيق قراءة ولا بحثًا . ولماذا أقرأ ؟ ولماذا أتعلم ؟ ولماذا أكون فاضلًا ؟ والحياة حرب على أهل العلم والفضل ، والناس كالحياة لأنهم أبناؤها وتلاميذها !
ألا يحيا الكاذب المنافق سعيدًا موقرًا, و يموت الصادق الشريف فقيرًا محتقرًا؟
ألا يُصدّق الناس الشيخ المشعوذ لأنه يدخل إلى نفوسهم من باب الدين ويُكذّبون العالم الفاضل ؟ أليس طريق الشعبذة (1) وادعاء الكرامات والمَخْرَقة على الناس بعلم أسرار الحروف واستحضار المردة واستخراج الجنّ من أجسام بني آدم ، آثرَ عند عامة الناس من العلم الصحيح والأدب المحض ؟ ألا يتمتع هذا اللص بالثقة التي لا يحلم بها عالِم متخصص أو باحث مدقق ، وتنهال على يد الأموال وتزدحم على يده الشفاه؟ ألا يبلغ المنافق ذو الوجهين أعلى المراتب وأسماها ويبقى الصادق الشريف في الحضيض؟ ألا يركب الجاهل السيارة الفخمة ويسكن


(1)الشعبذة والشعوذة بمعنى واحد في اللغة (مجاهد) .

القصر العظيم ويحتل المرتبة العلمية العليا ، ويمشي العالم إلى بيته الحقير لا يدري به أحد؟
أليست أسواق الرذيلة عامرة دائمة و أسواق الفضيلة دائرة بائرة؟
ألا يظفر الكاذب المفتري بالبريء ؟ ألا يغلب القوي الضعيف ؟ ألا ينتصر المال على العلم؟
فلماذا أقرأ؟ ولماذا أتعلم؟ ولماذا أكون فاضلًا؟

وقمت وقد صفَّيْتُ حسابي مع الحياة , فإذا أنا قد خسرت ثلاثين سنة هي زهرة عمري وربيع حياتي و لم أربح شيئا!

(*) سلسلة اخترت لكم 46 (*)
أسباب الرزق
أَسْبَابُ الرِّزْقِ سِتَّةٌ مُحَقَّقَهْ .... تُقًـى تَوَكُّـلٌ صَلَاةٌ صَدَقَهْ
كَذَاكَ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّحَرُّكُ .... وَكُلُّ ذَا فِى الذِّكْرِ جَاءَ مُدْرَكٌ

" فتح المجيد على نظم ابن الحاج لرسالة ابن أبي زيد القيرواني " (ص/82)



مسالك العلة
نظمها العلامة البحر قرة عيوننا محمد الحسن ولد الددو بقوله :
مَسَالِكُ الْعِلَّةِ ذِي الْأَشْيَاءُ ..... النَّصُّ وَالٍإِجْمَاعُ فَالْإِيمَـاءُ
فَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ فَالْمُنَاسَبَهْ ..... فَشَبَـهٌ فَالدَّوَرَانُ عَاقِبَـهْ
فَالطَّرْدُ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ التَّالِي ..... إِلْغَاءُ فَـارِقٍ عَلَى التَّوَالِي

" شرحه على سلم الوصول في أصول الفقه " الشريط ( 29 )


معاني القضاء في القرآن
والقضاء في القرآن يأتي لمعان نظمها العلامة محمد بن مولود بن أحمد فال فقال:
قَــدْ وَرَدَ القَضَـاءُ للأَدَاءِ ..... وَالحُكْـمِ وَالإِتْمَـامِ وَالإِنْهَاءِ
وَالأَمْرِ وَالمَوْتِ وَخَلْـقٍ فَصْلِ ..... إِرَادَةٍ كِتَابَـةٍ مَعْ فِعـــْلِ

1 - القضاء الذي هو بمعنى الإرادة .
2 - القضاء بمعنى الأداء كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :((رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى)) أي : أدى .
3 – القضاء بمعنى الحكم : كقول الله تعالى في سورة غافر (20): ((وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ)) .
4 - والإتمام : كقول الله تعالى في سورة البقرة (200): ((فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)) .
5 – والإنهاء : كقول الله تبارك وتعالى في سورة الحجر (66) : ((وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)) .
6 - والأمر: كقول الله تبارك وتعالى : ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) كما في سورة الإسراء (23) .
7 - والموت : كقول الله تبارك وتعالى في سورة القصص (15) : (( فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ )) .
8 - والخلق :كقول الله تبارك وتعالى في سورة فصلت (12) : ((فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا)) .
9 - وفصل : كقول الله تبارك وتعالى في سورة يوسف (41) : ((قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)).

10 - إرادة : كقول الله تبارك وتعالى في سورة آل عمران (47) : ((قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) .
11 - كتابة :كقول الله تبارك وتعالى في سورة مريم (21) : ((وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا)) أي : مكتوبا، كذلك قوله تعالى : (( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ)) (4 الإسراء) .
12 - مع فعل :كقول الله تبارك وتعالى في سورة طه (72) : ((فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )) .
شرح الشيخ محمد بن الدناه الشنقيطي على " نظم الآجرومية لابن آب "


لغات ( خنزب ) شيطان الصلاة
نظمها العلامة بحر العلوم محمد سالم ولد عدود - رحمات الله عليه تترى - فقال :
وخَنزَب وخِنزَب وخُنـزَبُ .... اسمٌ لِشَيْطَانِ الصَّلَاةِ يُنْصَبُ
للعُرَبـَا مثلـث الوَتْريـن .... تذكيـرُه أمراً من الداريـن
عند دخولك الصلاةَ تشتغلْ .... بـه فلا تُصلحـهُ ولا تصلْ




الأقوال في ستر العورة المغلطة
نظمها بعضهم بقوله :
سَتْـرُ الْمُغَلَّظَةِ فِـي الصَّـلَاةِ ..... أَرْبَعَـةُ الْـأَقْـوَالِ فِيـهِ تَـاتِي
هَلْ وَاجِبٌ مُشْتَرَطٌ أَوْ وَاجِبٌ ..... لَمْ يُشْتـَرَطْ أَوْ سُـنَّةٌ أََوْ يُنْدَبُ
وَهَكَذَا الْـأَقْوَالُ الْـأَرْبَعَـةُ فِـي ..... طَهَارَةُ الْخَبَثِ وَالشَّرْطُ اقْتُفِـي



معاني حتى
نظمها الشيخ محمد بن محمود العباس الشنقيطي - نزيل المدينة - بقوله :
حتَّى تكونُ حرفَ جرٍّ يا فَتَـى ..... وحـرفَ نصبٍ للمضارعِ أَتَى
وحرفَ عطفٍ ثُمَّّ حرفَ الاِبْتِدا ..... أَرْبَـعـَةٌ فَكُـنْ لـها مُقَيّـِدا
كَمَطْلَعِ الفَجْرِ وحتَّى يَحْكُـمَ ..... النَّاسُ جاءوا كلُّهم حتَّى العُمَى
يا عجباً حتَّى الكُلَـيْبُ سَبَّـني ..... حتَّى الجِيـادُ ما لها مِنْ أرْسُـنِ

( مطلع الفجر ) : إشارة إلى آخر آية في سورة القدر .
( حتى يحكم ) : إشارة إلى آية {حتى يحكمَ اللهُ}.
( أرسُن ) : جمع رَسَن، وهو لِجَام الفرس، ويسمى أيضا الحَكَمة .
(حتى الكليب ) : إشارة إلى قول الفرزدق :
فَيَا عَجَبًا حَتَّى كُلَيْبٌ تَسبُّني **** كأنّ أباها نَهْشَلٌ أو مُجاشِعُ
( حتى الجياد ) : إشارة إلى قول امرىء القيس :
نسير بهم حتى تكلَّ مَطِيُّهُم **** وَحَتَّى الجِيَادُ ما يُقَدْنَ بِأرْسَانِ

والله الموفق ....
ننتظر الإضافة ...

هنا نجمع أكبر قدر من الأنظام الشنقيطية المتفرقة الجامعة لبعض التقاسيم و الأنواع و المسائل و الشرائد في أقل عدد من الأبيات ؛ تسهيلا للحفظ ...

المصدر: شبكة منتديات الوطن الموريتانية - من قسم: شخصيات موريتانية
(*) سلسلة اخترت لكم 47 (*)
تَنْبِيهٌ
قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ، وَهَلْ ذَلِكَ الْوُجُوبُ عَلَى سَبِيلِ الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي؟
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَسَنُبَيِّنُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَقْوَالَهُمْ وَحُجَجَهُمْ، وَمَا يُرَجِّحُهُ الدَّلِيلُ عِنْدَنَا مِنْ ذَلِكَ، فَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ وُجُوبَهُ عَلَى التَّرَاخِي ; الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَجَابِرٍ، وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيُّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا نَصَّ فِي ذَلِكَ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ صَاحِبُ تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ: إِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ ابْنَ شُجَاعٍ رَوَى عَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا وَجَدَ مَا يَحُجُّ بِهِ وَقَدْ قَصَدَ التَّزَوُّجَ، قَالَ: يَحُجُّ وَلَا يَتَزَوَّجُ ; لِأَنَّ الْحَجَّ فَرِيضَةٌ أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ. انْتَهَى.
وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ فَعَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ، كِلَاهُمَا شَهَرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ مَا لَمْ يَحْسُنِ الْفَوَاتُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْفَوَاتِ، فَإِنْ خَشِيَهُ وَجَبَ عِنْدَهُمْ فَوْرًا اتِّفَاقًا.
قَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الْفِقْهِ الْمَالِكِيِّ: وَفِي فَوْرِيَّتِهِ وَتَرَاخِيهِ لِخَوْفِ الْفَوَاتِ خِلَافٌ. اهـ.
وَقَدْ ذَكَرَ فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّهُ إِنْ قَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ: خِلَافٌ، فَهُوَ يَعْنِي بِذَلِكَ اخْتِلَافَهُمْ فِي تَشْهِيرِ الْقَوْلِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ الْمَوَّاقُ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ الْجَلَّابُ: مَنْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَفَرْضُهُ عَلَى الْفَوْرِ دُونَ التَّرَاخِي وَالتَّسْوِيفِ، وَعَنِ ابْنِ عَرَفَةَ هَذَا لِلْعِرَاقِيِّينَ، وَعَزَا لِابْنِ مُحْرِزٍ وَالْمَغَارِبَةِ وَابْنِ الْعَرَبِيِّ، وَابْنِ رُشْدٍ: أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي مَا لَمْ يَخَفْ فَوَاتَهُ. وَإِذَا عَلِمْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهَذِهِ حُجَجُهُمْ:
أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي فَاحْتَجُّوا بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْحَجَّ فُرِضَ عَامَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ آيَةَ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ الْآيَةَ [2 \ 196] نَزَلَتْ عَامَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي شَأْنِ مَا وَقَعَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ إِحْصَارِ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهَ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ بِعُمْرَةٍ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ عَامِ سِتٍّ بِلَا خِلَافٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ

[2 \ 196] ، وَذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا الْآيَةَ [2 \ 196] ، وَلِذَا جَزَمَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْحَجَّ فُرِضَ عَامَ سِتٍّ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ الْحَجُّ فُرِضَ عَامَ سِتٍّ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُجَّ إِلَّا عَامَ عَشْرٍ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي؛ إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَخَّرَهُ عَنْ أَوَّلِ وَقْتٍ لِلْحَجِّ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ. قَالُوا: وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ عَامُ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فَتَحَ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، وَاعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ عَامِ ثَمَانٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَحُجَّ، قَالُوا: وَاسْتَخْلَفَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ، فَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ سَنَةَ ثَمَانٍ، بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ هُوَ وَأَزْوَاجُهُ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَحُجُّوا، قَالُوا: ثُمَّ غَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ فِي عَامِ تِسْعٍ، وَانْصَرَفَ عَنْهَا قَبْلَ الْحَجِّ، فَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ سَنَةَ تِسْعٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَزْوَاجُهُ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ قَادِرُونَ عَلَى الْحَجِّ، غَيْرُ مُشْتَغِلِينَ بِقِتَالٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَمْ يَحُجُّوا، ثُمَّ حَجَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَزْوَاجُهُ وَأَصْحَابُهُ كُلُّهُمْ سَنَةَ عَشْرٍ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، قَالُوا: فَتَأْخِيرُهُ الْحَجَّ الْمَذْكُورَ إِلَى سَنَةِ عَشْرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَيْسَ وُجُوبُهُ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ عَلَى التَّرَاخِي.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِمَا جَاءَ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ فِي قِصَّةِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ السَّعْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مَنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ. قَالَ: صَدَقَ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ: اللَّهُ. قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: اللَّهُ. قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ، وَخَلَقَ الْأَرْضَ، وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا. قَالَ: صَدَقَ. قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا. قَالَ: صَدَقَ. قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي سَنَتِنَا، قَالَ: صَدَقَ. قَالَ: فَبِالَّذِي أَرْسَلَكَ آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ: صَدَقَ. ثُمَّ وَلَّى قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ ". انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، قَالُوا: هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ جَاءَ فِيهِ وُجُوبُ الْحَجِّ، وَقَدْ زَعَمَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: أَنَّ قُدُومَ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ كَانَ عَامَ خَمْسٍ، قَالُوا: وَقَدْ رَوَاهُ شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ عَنْ كُرَيْبٍ فَقَالَ فِيهِ: بَعَثَ بَنُو سَعْدٍ ضِمَامًا فِي رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ كَانَ مَفْرُوضًا عَامَ خَمْسٍ، فَتَأْخِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ إِلَى عَامِ عَشْرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، لَا عَلَى الْفَوْرِ.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَمَرَ الْمُحْرِمِينَ بِالْحَجِّ أَنْ يَفْسَخُوهُ فِي عُمْرَةٍ " فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْحَجِّ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا: أَنَّهُ إِنْ أَخَّرَ الْحَجَّ مِنْ سَنَةٍ إِلَى أُخْرَى، أَوْ إِلَى سِنِينَ، ثُمَّ فَعَلَهُ ; فَإِنَّهُ يُسَمَّى مُؤَدِّيًا لِلْحَجِّ لَا قَاضِيًا لَهُ بِالْإِجْمَاعِ، قَالُوا: وَلَوْ حَرُمَ تَأْخِيرُهُ لَكَانَ قَضَاءً لَا أَدَاءً.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي: مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الْقَرَائِنِ، لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الِامْتِثَالُ الْمُجَرَّدُ. فَوُجُوبُ الْفَوْرِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ زَائِدٍ عَلَى مُطْلَقِ الْأَمْرِ.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ: أَنَّهُمْ قَاسُوا الْحَجَّ عَلَى الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ. قَالُوا: فَهِيَ عَلَى التَّرَاخِي، وَيُقَاسُ الْحَجُّ عَلَيْهَا، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَاجِبٌ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي كَوْنِهِمَا عَلَى التَّرَاخِي، بِجَامِعِ أَنَّ كِلَيْهِمَا وَاجِبٌ، لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ: قَالُوا: وَلَكِنْ ثَبَتَتْ آثَارٌ: أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ غَايَةُ زَمَنِهِ مُدَّةُ السَّنَةِ. هَذَا هُوَ حَاصِلُ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي لَا عَلَى الْفَوْرِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَدِلَّةٍ، وَمَنَعُوا أَدِلَّةَ الْمُخَالِفِينَ.
فَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يُفْهَمُ مِنْهَا ذَلِكَ، وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
قِسْمٌ مِنْهَا فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَالثَّنَاءُ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: يَدُلُّ عَلَى تَوْبِيخِ مَنْ لَمْ يُبَادِرْ، وَتَخْوِيفِهِ مِنْ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ أَنْ يَمْتَثِلَ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ اقْتَرَبَ أَجْلُهُ، وَهُوَ لَا يَدْرِي.
أَمَّا آيَاتُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَكَقَوْلِهِ:
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [3 \ 133] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [57 \ 21] ، فَقَوْلُهُ: وَسَارِعُوا وَقَوْلُهُ: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ فِيهِ الْأَمْرُ بِالْمُسَارَعَةِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَى مَغْفِرَتِهِ، وَجَنَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَذَلِكَ بِالْمُبَادَرَةِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسَارَعَةَ وَالْمُسَابَقَةَ كِلْتَاهُمَا عَلَى الْفَوْرِ لَا التَّرَاخِي، وَكَقَوْلِهِ: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ الْآيَةَ [2 \ 148] ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الِاسْتِبَاقُ إِلَى الِامْتِثَالِ. وَصِيَغُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَسَارِعُوا وَقَوْلِهِ: سَابِقُوا، وَقَوْلِهِ: فَاسْتَبِقُوا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ; لِأَنَّ الصَّحِيحَ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ، إِذَا تَجَرَّدَتْ عَنِ الْقَرَائِنِ اقْتَضَتِ الْوُجُوبَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْمَرَاقِي بِقَوْلِهِ:
وَافْعَلْ لَدَى الْأَكْثَرِ لِلْوُجُوبِ. . إِلَخْ
وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [24 \ 63] وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [33 \ 36] فَصَرَّحَ جَلَّ وَعَلَا، بِأَنَّ أَمْرَهُ قَاطِعٌ لِلِاخْتِيَارِ، مُوجِبٌ لِلِامْتِثَالِ، وَقَدْ سَمَّى نَبِيُّهُ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ مَعْصِيَةً، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [20 \ 93] يَعْنِي قَوْلَهُ لَهُ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [7 \ 142] وَإِنَّمَا قَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ حَقِيقَةَ الْحَالِ، فَلَمَّا عَلِمَهَا قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [7 \ 151] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْوُجُوبَ: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا عَنَّفَ إِبْلِيسَ لَمَّا خَالَفَ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [7 \ 12] وَالنُّصُوصُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اسْقِنِي مَاءً، مَثَلًا، فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ فَأَدَّبَهُ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّ ذَلِكَ التَّأْدِيبَ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ ; لِأَنَّهُ عَصَاهُ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، فَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ: لَيْسَ لَكَ أَنْ تُؤَدِّبَنِي، لِأَنَّ أَمْرَكَ لِي بِقَوْلِكَ: اسْقِنِي مَاءً، لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ - لَقَالَ لَهُ أَهْلُ اللِّسَانِ: كَذَبْتَ، بَلِ الصِّيغَةُ أَلْزَمَتْكَ، وَلَكِنَّكَ عَصَيْتَ سَيِّدَكَ، فَدَلَّ مَا ذُكِرَ عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ وَاللُّغَةَ دَلَّا عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ الْوُجُوبَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: سَابِقُوا وَقَوْلَهُ: وَسَارِعُوا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ إِلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ فَوْرًا.
وَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الثَّنَاءُ عَلَى الْمُبَادِرِينَ إِلَى امْتِثَالِ أَوَامِرِ رَبِّهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى:
إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ الْآيَةَ [21] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [23 \ 61] .

وَأَمَّا الْقِسْمُ الدَّالُّ عَلَى التَّخْوِيفِ مِنَ الْمَوْتِ قَبْلَ الِامْتِثَالِ الْمُتَضَمِّنِ الْحَثَّ عَلَى الِامْتِثَالِ: فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا أَمَرَ خَلْقَهُ أَنْ يَنْظُرُوا فِي غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِهِ، كَخَلْقِهِ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [10 \ 101] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [50 \ 6] ، وَقَوْلِهِ: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [88 \ 17 - 20] . ثُمَّ ذَكَرَ فِي آيَةٍ أُخْرَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّظَرَ مَعَ لُزُومِهِ يَجِبُ مَعَهُ النَّظَرُ فِي اقْتِرَابِ الْأَجَلِ، فَقَدْ يَقْتَرِبُ أَجَلُهُ وَيَضِيعُ عَلَيْهِ أَجْرُ الِامْتِثَالِ بِمُعَالَجَةِ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [7 \ 185] إِذِ الْمَعْنَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي أَنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَجَلُهُمْ قَدِ اقْتَرَبَ، فَيَضِيعُ عَلَيْهِمُ الْأَجْرُ بِعَدَمِ الْمُبَادَرَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ، عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ؛ خَشْيَةَ أَنْ يُعَالِجَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ، أَحَادِيثُ جَاءَتْ دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ، إِلَّا أَنَّهَا تَعْتَضِدُ بِالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَبِمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْدَهَا.
مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ أَبُو إِسْرَائِيلَ الْمُلَائِيِّ، عَنْ فُضَيْلٍ، يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ " يَعْنِي الْفَرِيضَةَ. فَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: تَعَجَّلُوا، يَدُلُّ عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ نَقَلَ حَدِيثَ أَحْمَدَ هَذَا الْمُجِدُّ فِي الْمُنْتَقَى بِحَذْفِ الْإِسْنَادِ عَلَى عَادَتِهِ، فَقَالَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ " - يَعْنِي الْفَرِيضَةَ - " فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَدْ سَكَتَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَيْضًا شَارِحُهُ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ، وَظَاهِرُ سُكُوتِهُمَا عَلَيْهِ: أَنَّهُ صَالِحٌ لِلِاحْتِجَاجِ عِنْدَهُمَا، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ صَلَاحِيَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بِانْفِرَادِهِ لِلِاحْتِجَاجِ ; فَفِي سَنَدِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيفَةَ أَبُو إِسْرَائِيلَ الْمُلَائِيُّ، وَهُوَ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ ; لِأَنَّهُ ضَعَّفَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَكَانَ شِيعِيًّا مِنْ غُلَاتِهِمْ، وَكَانَ مِمَّنْ يُكَفِّرُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: صَدُوقٌ، سَيِّئُ الْحِفْظِ، نُسِبَ إِلَى الْغُلُوِّ فِي التَّشَيُّعِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِهِ، وَانْظُرْ إِنْ شِئْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ، وَالْمِيزَانِ وَغَيْرِهِمَا.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيُّ، عَنْ مِهْرَانَ أَبِي صَفْوَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ ". اهـ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا [أبو] مُعَاوِيَةُ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ مِهْرَانَ أَبِي صَفْوَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ ". اهـ. وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْمُثَنَّى، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيِّ، عَنْ أَبِي صَفْوَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ " ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَأَبُو صَفْوَانَ هَذَا سَمَّاهُ غَيْرُهُ مِهْرَانَ، مَوْلًى لِقُرَيْشٍ، وَلَا يُعْرَفُ بِالْجَرْحِ. انْتَهَى مِنْهُ. وَأَقَرَّهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ عَلَى تَصْحِيحِهِ لِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَا يَخْلُو هَذَا السَّنَدُ مِنْ مَقَالٍ ; لِأَنَّ فِيهِ مِهْرَانَ أَبَا صَفْوَانَ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: كُوفِيٌّ مَجْهُولٌ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ: لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ. وَقَالَ فِيهِ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ "، وَعَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيُّ، قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: لَا أَعْرِفُهُ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ. قُلْتُ: وَقَالَ الْحَاكِمُ لَمَّا أَخْرَجَ حَدِيثَهُ هَذَا فِي الْمُسْتَدْرَكِ: لَا يُعْرَفُ بِجَرْحٍ. انْتَهَى مِنْهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ مِهْرَانَ الْمَذْكُورَ مُعْتَبَرٌ بِهِ، فَيَعْتَضِدُ بِمَا قَبْلَهُ، وَبِمَا بَعْدَهُ، مَعَ أَنَّ ابْنَ حِبَّانَ عَدَّهُ فِي الثِّقَاتِ، وَصَحَّحَ حَدِيثَهُ الْحَاكِمُ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى ذَلِكَ. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَا: ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَبُو إِسْرَائِيلَ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ - أَوْ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ ; فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ ". اهـ. وَفِي سَنَدِهِ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيفَةَ أَبُو إِسْرَائِيلَ الْمُلَائِيُّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّ الْأَكْثَرِينَ ضَعَّفُوهُ.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ لَمْ يَحْبِسْهُ مَرَضٌ، أَوْ مَشَقَّةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ فَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا " قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ: هَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ. وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ.
قُلْتُ: وَلَهُ طُرُقٌ.
أَحَدُهَا: أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي السُّنَنِ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بِلَفْظِ: " مَنْ لَمْ يَحْبِسْهُ مَرَضٌ أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ فَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا ". لَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ، وَلَفْظُ أَحْمَدَ: " مَنْ كَانَ ذَا يَسَارٍ فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ " الْحَدِيثَ. وَلَيْثٌ ضَعِيفٌ، وَشَرِيكٌ سَيِّئُ الْحِفْظِ، وَقَدْ خَالَفَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَأَرْسَلَهُ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ لَهُ عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ مَرَضٌ حَابِسٌ أَوْ سُلْطَانٌ ظَالِمٌ أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ " فَذَكَرَهُ مُرْسَلًا.
وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ لَيْثٍ مُرْسَلًا، وَأَوْرَدَهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ شَرِيكٍ مُخَالِفَةٍ لِلْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ، وَرَاوِيهَا عَنْ شَرِيكٍ عَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ ضَعِيفٌ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ طَرِيقَ أَبِي يَعْلَى هَذِهِ فِي تَرْجَمَةِ عَمَّارِ بْنِ مَطَرٍ الرَّهَاوِيِّ الْمَذْكُورِ الرَّاوِي، عَنْ شَرِيكٍ: هَذَا مُنْكَرٌ عَنْ شَرِيكٍ.
الثَّانِي: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: " مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: غَرِيبٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ، وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّاوِي لَهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَجْهُولٌ، وَسُئِلَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ عَنْهُ؟ فَقَالَ: مَنْ هِلَالٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: يُعْرَفُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ الْحَدِيثُ بِمَحْفُوظٍ. وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ حَدِيثَ عَلِيٍّ هَذَا فِي تَرْجَمَةِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ، وَقَالَ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: مَجْهُولٌ، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ. اهـ. وَقَالَ فِيهِ فِي التَّقْرِيبِ: مَتْرُوكٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا، وَلَمْ يُرْوَ مَرْفُوعًا مِنْ طَرِيقٍ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: طَرِيقُ أَبِي أُمَامَةَ عَلَى مَا فِيهَا أَصْلَحُ مِنْ هَذِهِ.
الثَّالِثُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: " مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ وَجَعٍ حَابِسٍ،
أَوْ حَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ، أَوْ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ; فَلْيَمُتْ أَيَّ الْمِيتَتَيْنِ شَاءَ: إِمَّا يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا " رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْغَطَفَانِيِّ، عَنْ أَبِي الْمُهَزِّمِ - وَهُمَا مَتْرُوكَانِ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَهُ طَرِيقٌ صَحِيحَةٌ ; إِلَّا أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ، رَوَاهَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَتَنْظُرَ كُلَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ جِدَّةٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ ; مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ " لَفْظُ سَعِيدٍ، وَلَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: لِيَمُتْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا - يَقُولُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - رَجُلٌ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ وَجَدَ لِذَلِكَ سَعَةً، وَخُلِّيَتْ سَبِيلُهُ.
قُلْتُ: وَإِذَا انْضَمَّ هَذَا الْمَوْقُوفُ إِلَى مُرْسَلِ ابْنِ سَابِطٍ، عُلِمَ أَنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلًا، وَمَحْمَلُهُ عَلَى مَنِ اسْتَحَلَّ التَّرْكَ، وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ خَطَأُ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ مِنَ التَّلْخِيصِ الْحَبِيرِ بِلَفْظِهِ.
وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَمَحْمَلُهُ عَلَى مَنِ اسْتَحَلَّ التَّرْكَ، هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْكُفْرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [3 \ 97] يُحْمَلُ عَلَى مُسْتَحِلِّ التَّرْكِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمَقَالِ أَنَّهَا تُصَرِّحُ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِثْمِ إِلَّا مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْحَجِّ؛ كَالْمَرَضِ، أَوِ الْحَاجَةِ الظَّاهِرَةِ، أَوِ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ. فَلَوْ كَانَ تَرَاخِيهِ لِغَيْرِ الْعُذْرِ الْمَذْكُورِ لَكَانَ قَدْ مَاتَ، وَهُوَ آثِمٌ بِالتَّأْخِيرِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّرَاخِي فِيهِ إِلَّا لِعُذْرٍ، وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ الطُّرُقَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ: وَهَذِهِ الطُّرُقُ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. وَبِذَلِكَ تَتَبَيَّنُ مُجَازَفَةُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي عَدِّهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ، فَإِنَّ مَجْمُوعَ تِلْكَ الطُّرُقِ لَا يَقْصُرُ عَنْ كَوْنِ الْحَدِيثِ حَسَنًا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مُحْتَجٌّ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْعُقَيْلِيِّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ: لَا يَصِحُّ فِي الْبَابِ شَيْءٌ ; لِأَنَّ نَفْيَ الصِّحَّةِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْحُسْنِ. اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ، مَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرَجَ فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ " قَالَ عِكْرِمَةُ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ - يَعْنِي حَدِيثَ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْمَذْكُورَ فَقَالَا: صَدَقَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ثَابِتٌ مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ، والْبَيْهَقِيُّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ وَالْمُنْذِرِيُّ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَنَّ النَّوَوِيَّ قَالَ فِيهِ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ والْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ، عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ: " فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ " ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: " مِنْ قَابِلٍ " دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَضَاءَ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُحْصَرِ بِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَى الْمُحْصَرِ فِي غَيْرِهَا، وَبَيَّنَّا أَدِلَّةَ ذَلِكَ هُنَاكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [2 \ 196] وَالرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا هُنَاكَ: " فَقَدْ حَلَّ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى "، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ قَدْ بَيَّنَتْهَا رِوَايَةُ: " وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ " وَهِيَ ثَابِتَةٌ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى الْفَوْرِ، مُفَسِّرَةٌ لِلرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا هُنَاكَ.
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ - مَعَ تَعَدُّدِهَا وَاخْتِلَافِ طُرُقِهَا - تَدُلُّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ، وَتَعْتَضِدُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا، وَتَعْتَضِدُ بِمَا سَنَذْكُرُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأُصُولِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَأَنَّ حَدِيثَ: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ " - مَعَ ضَعْفِهِ - حُجَّةٌ لَهُمْ لَا عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ وَكَلَ الْأَمْرَ إِلَى إِرَادَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا يَقِلُّ مَجْمُوعُهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاحْتِجَاجِ، عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ.
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ، هُوَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ، وَأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ قَالُوا: إِنَّ الشَّرْعَ وَاللُّغَةَ وَالْعَقْلَ كُلَّهَا دَالٌّ عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْفَوْرَ. أَمَّا الشَّرْعُ فَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْمُبَادَرَةِ فَوْرًا لِامْتِثَالِ أَوَامِرِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [3 \ 133] ، وَكَقَوْلِهِ: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَةَ [57 \ 21] ، وَبَيَّنَّا دَلَالَةَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْفَوْرَ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ.
وَأَمَّا اللُّغَةُ: فَإِنَّ أَهْلَ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اسْقِنِي مَاءً، فَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَدَّبَهُ، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: صِيغَةُ افْعَلْ فِي قَوْلِكَ: اسْقِنِي مَاءً، تَدُلُّ عَلَى التَّرَاخِي، وَكُنْتُ سَأَمْتَثِلُ بَعْدَ زَمَنٍ مُتَرَاخٍ عَنِ الْأَمْرِ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ الصِّيغَةَ أَلْزَمَتْكَ فَوْرًا، وَلَكِنَّكَ عَصَيْتَ أَمْرَ سَيِّدِكَ بِالتَّوَانِي وَالتَّرَاخِي.
وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَإِنَّا لَوْ قُلْنَا: إِنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّرَاخِي لَهُ غَايَةٌ مُعَيَّنَةٌ يَنْتَهِي عِنْدَهَا، وَإِمَّا لَا، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ ; لِأَنَّ الْحَجَّ لَمْ يُعَيَّنْ لَهُ زَمَنٌ يَتَحَتَّمُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ، بَلِ الْعُمُرُ كُلُّهُ تَسْتَوِي أَجْزَاؤُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ تَعْيِينُ غَايَةٍ لَهُ لَمْ يُعَيِّنْهَا الشَّرْعُ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي الَّذِي هُوَ: أَنَّ تَرَاخِيَهُ لَيْسَ لَهُ غَايَةٌ يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِهِ ; لِأَنَّ مَا جَازَ تَرْكُهُ جَوَازًا لَمْ تُعَيَّنْ لَهُ غَايَةٌ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، فَإِنَّ تَرْكَهُ جَائِزٌ إِلَى غَيْرِ غَايَةٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِهِ، وَالْمَفْرُوضُ وُجُوبُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: غَايَتُهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بَقَاؤُهُ إِلَيْهِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْبَقَاءَ إِلَى زَمَنٍ مُتَأَخِّرٍ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّهُ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً، فَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ يَظُنُّ أَنَّهُ يَبْقَى سِنِينَ فَيَخْتَرِمُهُ الْمَوْتُ فَجْأَةً، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [7 \ 185] وَلَا يَنْتَهِي إِلَى حَالَةٍ يَتَيَقَّنُ الْمَوْتَ فِيهَا إِلَّا عِنْدَ عَجْزِهِ عَنِ الْعِبَادَاتِ، وَلَا سِيَّمَا الْعِبَادَاتُ الشَّاقَّةُ كَالْحَجِّ. وَالْإِنْسَانُ طَوِيلُ الْأَمَلِ، يَهْرَمُ، وَيَشِبُّ أَمَلُهُ، وَتَحْدِيدُ وَجُوبِهَ بِسِتِّينَ سَنَةً تَحْدِيدٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
فَهَذِهِ جُمْلَةُ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ، وَمَنَعُوا أَدِلَّةَ الْمُخَالِفِينَ، قَالُوا إِنَّ قَوْلَكُمْ: إِنَّ الْحَجَّ فُرِضَ سَنَةَ خَمْسٍ بِدَلِيلِ قِصَّةِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّ قُدُومَهُ سَنَةَ خَمْسٍ، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوبَ الْحَجِّ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ الْآيَةَ [2 \ 196] نَزَلَتْ عَامَ سِتٍّ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ مَفْرُوضٌ عَامَ سِتٍّ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَهُ بَعْدَ فَرْضِهِ إِلَى عَامِ عَشْرٍ، كُلُّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ، بَلِ الْحَجُّ إِنَّمَا فُرِضَ عَامَ تِسْعٍ، قَالُوا: وَالصَّحِيحُ أَنَّ قُدُومَ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ السَّعْدِيِّ كَانَ سَنَةَ تِسْعٍ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْإِصَابَةِ فِي تَرْجَمَةِ ضِمَامٍ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: وَزَعَمَ الْوَاقِدَيُّ أَنَّ قُدُومَهُ كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ قُدُومَهُ كَانَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَهَذَا عِنْدِي أَرْجَحُ. اهـ مِنْهُ، وَانْظُرْ تَرْجِيحَ ابْنِ حَجَرٍ لِكَوْنِ قُدُومِهِ عَامَ تِسْعٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ قُدُومَ ضِمَامٍ الْمَذْكُورِ فِي حَوَادِثِ سَنَةِ تِسْعٍ، مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ قُدُومَهُ كَانَ قَبْلَ عَامِ خَمْسٍ، هَذَا وَجْهُ رَدِّهِمْ لِلِاحْتِجَاجِ بِقِصَّةِ ضِمَامٍ، وَأَمَّا وَجْهُ رَدِّهِمْ لِلِاحْتِجَاجِ بِآيَةِ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [2 \ 196] فَهُوَ أَنَّهَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا إِلَّا وُجُوبُ الْإِتْمَامِ بَعْدَ الشُّرُوعِ، فَلَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى ابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ، وَوُجُوبُ الْإِتْمَامِ بَعْدَ الشُّرُوعِ لَا يَسْتَلْزِمُ ابْتِدَاءَ الْوُجُوبِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [2 \ 196] فَإِنَّهَا وَإِنْ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَلَيْسَ فِيهَا فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا فِيهَا الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِ وَإِتْمَامِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِمَا، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الِابْتِدَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ تَأَخُّرُ نُزُولِ فَرْضِهِ إِلَى التَّاسِعَةِ أَوِ الْعَاشِرَةِ؟

قِيلَ: لِأَنَّ صَدْرَ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ نَزَلَ عَامَ الْوُفُودِ، وَفِيهِ: قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَالْجِزْيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ عَامَ تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَفِيهَا نَزَلَ صَدْرُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَنَاظَرَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَدَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْمُبَاهَلَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ، وَجَدُوا فِي نُفُوسِهِمْ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ التِّجَارَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [9 \ 28] فَأَعَاضَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الْجِزْيَةَ، وَنُزُولُ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْمُنَادَاةُ بِهَا إِنَّمَا كَانَ عَامَ تِسْعٍ، وَبَعَثَ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ فِي مَكَّةَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ، وَأَرْدَفَهُ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَدْ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مِنْ زَادِ الْمَعَادِ.
فَتَحَصَّلَ أَنَّ آيَةَ: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [2 \ 196] ، لَمْ تَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ إِتْمَامِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَلَوْ كَانَ يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ يَدُلُّ عَلَى ابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ لَمَا حَصَلَ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ الْعُمْرَةِ، وَالْخِلَافُ فِي وُجُوبِهَا مَعْرُوفٌ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِيضَاحُهُ.
بَلِ الَّذِي أَجْمَعُوا عَلَيْهِ: هُوَ وُجُوبُ إِتْمَامِهَا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَأَنَّ قِصَّةَ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، كَانَتْ عَامَ تِسْعٍ كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَغَيْرُهُ، فَظَهَرَ سُقُوطُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا وَبِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَنَّ الْحَجَّ إِنَّمَا فُرِضَ عَامَ تِسْعٍ كَمَا أَوْضَحَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا ; لِأَنَّ آيَةَ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [3 \ 97] هِيَ الْآيَةُ الَّتِي فُرِضَ بِهَا الْحَجُّ.
وَهِيَ مِنْ صَدْرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَقَدْ نَزَلَ عَامَ الْوُفُودِ، وَفِيهِ قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ، وَصَالَحَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَالْجِزْيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ عَامَ تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وَعَلَى كَوْنِ الْحَجِّ إِنَّمَا فُرِضَ عَامَ تِسْعٍ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي تَأْخِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ ; لِأَنَّهُ انْصَرَفَ مِنْ مَكَّةَ وَالْحَجُّ قَرِيبٌ، وَلَمْ يَحُجَّ لِأَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ.
فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ سَبَبَ تَأْخِيرِهِ الْحَجَّ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، أَنَّ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدِ اعْتَرَفْتُمْ بِأَنَّ الْحَجَّ فُرِضَ عَامَ تِسْعٍ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُجَّ عَامَ تِسْعٍ، بَلْ أَخَّرَ حَجَّهُ إِلَى عَامِ عَشْرٍ، وَهَذَا يَكْفِينَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَهُ عَلَى التَّرَاخِي؛ إِذْ لَوْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَخَّرَهُ بَعْدَ فَرْضِهِ إِلَى عَامِ عَشْرٍ.
فَالْجَوَابُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ عَامَ تِسْعٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِيهِ النَّبِيُّ، وَأَصْحَابُهُ مِنْ مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَهُمْ عُرَاةٌ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّ مَنْعَهُمْ مِنْ قُرْبَانِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ الَّذِي هُوَ عَامُ تِسْعٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [9 \ 28] ، وَ (عَامِهِمْ هَذَا) هُوَ عَامُ تِسْعٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ مَنْعُهُمْ عَامَ تِسْعٍ، وَلِذَا أَرْسَلَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ يُنَادِي بِـ " بَرَاءَةٌ " وَأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا عُرْيَانٌ، فَلَوْ بَادَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحَجِّ عَامَ تِسْعٍ لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى رُؤْيَتِهِ الْمُشْرِكِينَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَهُمْ عُرَاةٌ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ فِيهَا مَنَاسِكَ حَجِّهِمْ، فَأَوَّلُ وَقْتٍ أَمْكَنَهُ فِيهِ الْحَجُّ صَافِيًا مِنَ الْمَوَانِعِ وَالْعَوَائِقِ بَعْدَ وُجُوبِهِ: عَامُ عَشْرٍ، وَقَدْ بَادَرَ بِالْحَجِّ فِيهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِمْ: كَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ لَمْ يَسُوقُوا الْهَدْيَ، أَنْ يَفْسَخُوا حَجَّهُمْ فِي عُمْرَةٍ، دَلِيلٌ عَلَى تَأْخِيرِ الْحَجِّ ; لِأَنَّهُمْ بَعْدَ مَا أَحْرَمُوا فِيهِ فَسَخُوهُ فِي عُمْرَةٍ، وَحَلُّوا مِنْهُ - بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ تَأْخِيرُ الْحَجِّ لِعَزْمِهِمْ عَلَى أَنْ يَحُجُّوا فِي تِلْكَ السَّنَةِ بِعَيْنِهَا، وَتَأْخِيرُ الْحَجِّ إِنَّمَا هُوَ بِتَأْخِيرِهِ مِنْ سَنَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَذَلِكَ لَيْسَ بِوَاقِعٍ هُنَا، فَلَا تَأْخِيرَ لِلْحَجِّ فِي الْحَقِيقَةِ ; لِأَنَّهُمْ حَجُّوا فِي عَيْنِ الْوَقْتِ الَّذِي حَجَّ فِيهِ مَنْ لَمْ يَفْسَخْ حَجَّهُ فِي عُمْرَةٍ، فَلَا تَأْخِيرَ كَمَا تَرَى، وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَوْ أَخَّرَهُ مِنْ سَنَةٍ إِلَى أُخْرَى، أَوْ سِنِينَ، ثُمَّ فَعَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسَمَّى مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ حَرُمَ التَّأْخِيرَ لَكَانَ قَضَاءً - بِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْعِبَادَةِ الْمُوَقَّتَةِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ ثُمَّ خَرَجَ ذَلِكَ الْوَقْتُ الْمُعِينُ لَهَا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، وَالْحَجُّ لَمْ يُوَقَّتْ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، وَالْعُمُرُ كُلُّهُ وَقْتٌ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي وُجُوبَ الْمُبَادَرَةِ خَوْفًا مَنْ طُرُوِّ الْعَوَائِقِ، أَوْ نُزُولِ الْمَوْتِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ ثُمَّ أَخَّرَهُ ثُمَّ فَعَلَهُ، لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ فِيمَا بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَأْخِيرِهِ. وَلَوْ كَانَ التَّأْخِيرُ حَرَامًا لَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِارْتِكَابِهِ مَا لَا يَجُوزُ - بِأَنَّهُ مَا كُلُّ مَنِ ارْتَكَبَ مَا لَا يَجُوزُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ، بَلْ لَا تُرَدُّ إِلَّا بِمَا يُؤَدِّي إِلَى الْفِسْقِ، وَهُنَا قَدْ يَمْنَعُ مِنَ الْحُكْمِ بِتَفْسِيقِهِ مُرَاعَاةُ الْخِلَافِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَرْتَكِبْ حَرَامًا، وَشُبْهَةُ الْأَدِلَّةِ الَّتِي أَقَامُوهَا عَلَى ذَلِكَ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي وَأَلْيَقُهُمَا بِعَظْمَةِ خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ هُوَ أَنَّ وُجُوبَ أَوَامِرِهِ جَلَّ وَعَلَا - كَالْحَجِّ - عَلَى الْفَوْرِ لَا عَلَى التَّرَاخِي، لِمَا قَدَّمْنَا مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمُبَادَرَةِ، وَلِلْخَوْفِ مِنْ مُبَاغَتَةِ الْمَوْتِ كَقَوْلِهِ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَةَ [3 \ 133] وَمَا قَدَّمْنَا مَعَهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَكَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [7 \ 185] وَلِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الشَّرْعَ وَاللُّغَةَ وَالْعَقْلَ كُلُّهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَ اللَّهِ تَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَوْجُهَ الْجَوَابِ عَنْ كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ إِلَّا سَنَةَ عَشْرٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ وُجُوبَ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ بِقَوْلِهِ : وَكَوْنُهُ لِلْفَوْرِ أَصْلُ الْمَذْهَبِ وَهُوَ لَدَى الْقَيْدِ بِتَأْخِيرِ أَبِي .
العلامة محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي رحمه الله (أضواء البيان 4/ 329 : 342) .
(*) سلسلة اخترت لكم 48 (*)
عُج بِالمدينةِ تلقَ ثمّ كَريما ... خيرَ الوَرى نَسباً وأكرم خيما
هوَ مَن قَد غدا بالمُؤمنينَ رَحيما ... هو خيرةُ اللَّهِ القديمِ قديما

صلّوا عليهِ وسلّموا تسليما
أَقبِل عَلى أعتابهِ متأدّبا
... مُستعطفاً متلطّفاً مُتحبّبا
مُتنظّفاً متطهّراً متطيّبا
... وَمُصلّياً ومسلّماً تسليما
صلّوا عليه وسلّموا تَسليما
وَاِسكُب هناكَ محاسن العبراتِ
... وَاِغسل مَساوي سالف الزلّاتِ (1)
وَاِخلع ذُنوبكَ واِلبس الخلعاتِ
... فَلَقد قَصدتَ أخا الرجاءِ كريما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تَسليما
اِقصد بِصدقٍ والقبولُ محقّق
... وَإِذا قُبلت فبدرُ سعدك مشرقُ
وَعُصمتَ مِن نارٍ تشبّ فتحرقُ
... إِذ قَد أتيت السيّد المَعصوما
صلّوا عليه وسلّموا تسليما
وَاِذكر فديتكَ لَوعَتي وتلهّفي
... وَتفرّقي وتحرّفي وتأسّفي
وَقلِ السلامُ عليكم من يوسف
... يا خيرَ مَن أروى العطاشَ الهيما
صلّوا عليه وسلّموا تسليما
فَإذا أَجابَ فذاكَ غايات المنى
... زالَ الصدى زالَ الردى زالَ العنا
حصَل الرِضا حصلَ الجَدى حصلَ الهنا
... وأحوزُ مِن إكرامهِ التَكريما
صلّوا عليهِ وسلّموا تسليما
هوَ سيّدُ الرسلِ الكرام الأكرمُ
... أَرقاهمُ رُتباً وأعلى أعلمُ
وَعليهمُ في المكرُمات مقدّمُ
... وَاللَّه أولى ذلكَ التقديما
صلّوا عليهِ وسلِّموا تَسليما
هوَ صفوةُ الرحمنِ خيرةُ خلقهِ
... في علوهِ في سفلهِ في أفقهِ
في أرضهِ في غربهِ في شرقهِ
... عظّمهُ جهدكَ لَن تكون مَلوما
صلّوا عليهِ وسلّموا تَسليما
حَسدَ السماءُ الأرضَ منذ ولادته
... أَسفاً عليه فأكرمت بوفادَتِه
فَتَساوَتا بعدَ السرى بسعادته
... سُبحانَ مَن أَسرى بهِ تَعظيما
صلّوا عليهِ وسلّموا تسليما
الأنبياءُ جَميعُهم أحياءُ
... لمّا أَتى البيتَ المقدّس جاؤوا
صلّى بِهم وهمُ لديه ولاءُ
... كانَ الإمامَ وكلّهم مأموما
صلّوا عليهِ وسلّموا تَسليما
شَرُفت بهِ الأرضونَ حين وجودهِ
... وسَمت بهِ الأفلاك حين صعودهِ
وَهُما ومَن حَوتا بحكم حسودهِ
... لمّا رأى لا كيفَ لا تَجسيما
صلّوا عليهِ وسلّموا تَسليما
تاللَّه ما في الخلقِ أصدق لهجةً
... منهُ ولا أَبهى وأبهرُ بهجة
كلّا وَلا أَقوى وأثبتُ حجّةً
... منهُ ولا أسمى علاً وعلوما
صلّوا عليهِ وسلّموا تسليما
قُرآنهُ شهدَ الجميعُ بأنّهُ
... لَم يحكِ حُسن القول أجمع حسنه
فاقَ الفنونَ فلم تُشابه فنّه
... وَالكتب طرّاً حادثاً وقديما
صلّوا عليهِ وسلّموا تسليما
هذا كلامُ اللَّه جلّ جلالهُ
... مَعدومةٌ أشباههُ أمثالهُ
خيرُ الكلامِ ولا يحدُّ كماله
... وبهِ حبيبُ اللَّه كان كليما
صلّوا عليه وسلّموا تسليما
خصُّوا أبا جهلٍ بذمٍّ يفضحُ
... وهو الحريُّ بكلّ وصفٍ يقبحُ
وَهوَ الجهولُ وجهلهُ لا يشرحُ
... بِعدواةِ المختارِ حلَّ جَحيما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تسليما
لكنّهُ قَد سادَ في أزمانهِ
... مِن قبلِ بعثتهِ على أقرانهِ
فَاِستاءَ من حَسدٍ برفعةِ شانهِ
... فَغَدا بجحدِ محمّدٍ مَذموما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تسليما
وَأشدُّ منهُ جَهالةً من يكفرُ
... بِمحمّدٍ والحقُّ أبلج أظهرُ
وَتَرى الكثيرَ قُلوبهم لا تنكرُ
... صدقَ النبيِّ ويلزمونَ اللوما
صلّوا عليه وسلّموا تسليما
عمّم أبا جَهلٍ فكلٌّ جاهل
... ظنَّ الإقامةَ وهو سارٍ راحلُ
وإِلى لَظى عمّا قريبٍ واصلُ
... وَيكون فيها بالنبيّ عليما
صلّوا عليهِ وسلّموا تسليما
جمعَ التليدَ مِن الضلالِ وطارفا
... وَتراهُ مِن بحرِ الغِوايةِ غارفا
ومنَ الهدايةِ عارياً لا عارفا
... لَم يعرفِ الهادي فعاشَ بَهيما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تسليما
تاللَّه إنّ البهمَ أحسنُ حالةً
... ممّن حَوى بالهاشميّ جهالةً
وَالبهمُ أعظمُ حُرمةً وجلالةً
... ممّن يَرى من هدبهِ مَحروما
صلّوا عليهِ وسلّموا تسليما
هَذي الغزالةُ خاطبتهُ وسلّمت
... شهدَت له أَثَنت عليه تألّمت
فَأجابَها وكذا البعيرُ قد اِنفلت
... فَأجارهُ لمّا أَتى مَظلوما
صلّوا عليهِ وسلّموا تسليما
وَالعنكبوتُ حبتهُ دِرعاً مُحكما
... ردَّ السيوفَ كليلةً والأسهما
وَببيضِها ستَرته ورقاءُ الحما
... كرَماً وأكرِم بالحِمام كَريما
صلّوا عليهِ وسلّموا تسليما
وَالضبُّ أفصحُ بالرسالةِ يشهدُ
... وَتعجّبَ السرحانُ ممّن يجحدُ
يا ليتَ مَن جَحدوه بالبهمِ اِقتدوا
... فَقدِ اِهتدت وهمُ أضلُّ حلوما
صلّوا عليهِ وسلّموا تسليما
يا لَيتَهم كانوا اِقتدوا بالحجرِ
... يا لَيتَهم كانوا اِقتدوا بالشجرِ
هذا أَطاع أَتى بدون تأخّر
... وَدَعاه ذاكَ مسلّماً تسليما
صلّوا عليهِ وسلّموا تسليما
بعدَ الغروبِ الشمسُ عادَت أذرعا
... وَالبدرُ خرَّ على الجبالِ مصدّعا
وَغَدا الغمامُ مصاحباً أنّى سَعى
... فَوقاهُ من حرِّ الهجيرِ سموما
صلّوا عليهِ وسلّموا تسليما
وَالجذعُ حنَّ لبعدهِ متضرّراً
... حتّى أتاهُ فضمّه فتصبّرا
وَحَكى الذراعُ لهُ الحديثَ كما جرى
... إِذ أَحضروه لأكلهِ مَسموما
صلّوا عليهِ وسلّموا تسليما
وَرَمى قُريشاً بالترابِ وقد سرى
... عَلَناً فمَا أحدٌ هنالكَ أبصرا
وَرَمى بكفّ حصاً فبدّد عَسكرا
... وَاِرتدّ جيشُ عدوّه مَهزوما
صلّوا عليهِ وسلّموا تَسليما
وَبكفّهِ الحصباءُ كانت تفصحُ
... عَن صدقهِ فيما اِدّعى فتسبّحُ
قَد صمَّ جاحدهُ فأنّى يفلحُ
... وَعَماهُ كانَ عن النبيّ عَميما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تسليما
وَالماءُ مِن بينِ الأصابعِ نابع
... أَروى الخميسَ ولَم يزل يتتابعُ
وَكَفى المئينَ بصاعهِ فَتراجعوا
... لَم يَفقدوا مِن صاعهِ مَطعوما
صلّوا عليهِ وسلّموا تَسليما
وَأعادَ عينَ قتادةٍ نجلاء
... مِن بعدِ ما ساءَت وسالت ماءَ
وشَفى عليّاً إِذ حباهُ لواءَ
... وَبِفتحِ خيبرَ كان عنهُ زَعيما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تَسليما
اِذكُر شَفاعتهُ بيوم المحشرِ
... وَالخلقُ في كَربٍ هنالك أكبر
قَصدوا أباهُ آدماً بتحيّر
... موسى وَعيسى نوحاً اِبراهيما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تسليما
كلٌّ تذكّرَ منهُ فعلاً ماضيا
... فأَجابَهم نَفسي اِذهبوا لِسوائِيا
حتّى أتَوا هذا النبيّ الماحيا
... فَدَنا فحكّمَ فيهمُ تَحكيما
صلّوا عليهِ وسلّموا تَسليما
وَأجابَهم غضب الإلهِ قدِ اِنتهى
... وَأَنا لَها وَأَنا لَها وأنا لَها
بِمحامدٍ حمدَ الإله أتى بِها
... بِفتوحهِ لا حفظَ لا تَعليما
صلّوا عليهِ وسلّموا تسليما
وَأَطالَ سجدتهُ وقد قيلَ اِرفعِ
... سَل تُعط واِشفع في الجميع تشفّعِ
اللَّه ميّزهُ بذاك المجمعِ
... وَأنالهُ شَرفاً هناك عَميما
صلّوا عليهِ وسلّموا تَسليما
أَبدى الإلهُ مقامهُ المَحمودا
... يومَ القِيامة ظاهِراً مَشهودا
أَبداهُ بينَ العالمين فريدا
... قَد سلَّموا تَفضيلهُ تَسليما
صلّوا عليهِ وسلّموا تَسليما
أَولاهُ مَولاهُ اللِواءَ الأعظما
... مِن تحتهِ جعلَ الجميعَ وآدما
أَخفاهُ في ذا الكونِ عن أهلِ العَمى
... وَهُناكَ أظهرَ قدرهُ المَعلوما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تَسليما
أَرجو وَآملُ أَن أكونَ بظلِّهِ
... في ذلكَ اليومِ العظيمِ وهولهِ
وَأنالَ مِن جدواهُ خالصَ فضلهِ
... فَأفوزَ فَوزاً بالنبيِّ عَظيما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تسليما
وَأنالَ منهُ شَفاعةً لا تنكرُ
... عندَ الكريمِ وَنعمةٍ لا تحصرُ
فَأروحَ مِن بعدِ الشكايةِ أشكرُ
... وبهِ أكونُ المذنبَ المَرحوما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تَسليما
وَأَرى المساويَ ثمَّ صرنَ مَحاسنا
... وَمخاوِفي في الحشرِ عُدنَ مآمِنا
وَيُقالَ لي بمحمّدٍ كُن آمِنا
... فَبهِ لَقد نلتَ النعيمَ مُقيما
صلّوا عليهِ وسلّموا تَسليما
يا ربِّ بِالمُختارِ عبدك أسألُ
... منكَ الرِضا وَبجاههِ أتوسّلُ (2)
لا تَفضحنّي إِنّ ستركَ أجملُ
... وَبِحقّهِ اِغفِر ذنبيَ المَكتوما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تَسليما
يا ربِّ هَبني يا رحيمُ مَراحما
... فَقد اِقترفتُ جَرائراً وجَرائما
كَم ذا ظُلمتُ وكَم أتيتُ مظالِما
... بِحياتهِ اِرحم ظالِماً مَظلوما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تَسليما
يا ربِّ هذا العبدُ بابك يقرعُ
... وَبخيرِ مَن شفّعته يتشفّعُ
خصّصتهُ بشفاعَةٍ لا تُدفعُ
... وَجَعلتهُ بِالمؤمنين رَحيما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تَسليما
يا ربِّ رُبَّ فتىً جَنى فاِستَأمنا
... بِمحمَّدٍ قَد قال غاياتِ المُنى
فَبِجاههِ اِغفِر ما جنيتُ فَها أنا
... لِندامَتي قَد صرتُ ربِّ نَديما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تَسليما
يا ربِّ إنّي في جواركَ لائذ
... وَبحصنِ عفوكَ من عذابك عائذُ
ولَديكَ جاهُ المُصطفى هو نافذ
... وَله اِلتجأتُ فَلن أُرى مَحروما
صلّوا عليهِ وسلّموا تَسليما
يا ربِّ صلّ عليهِ والآلِ الأُلى
... حازوا بِنسبتهِ المقامَ الأفضلا
وَعلى صَحابتهِ الكرامِ وَزِد عَلى
... أَتباعهِ حتّى المعادِ عُموما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تَسليما
وَاِخصُص بِها يا ربّنا الصدّيقا
... خيرَ الجميعِ وبعدهُ الفاروقا
عثمانَ مَن بالحقِّ كان حَقيقا
... وَأبا بنيهِ السيّدَ المَعلوما
صلّوا عليهِ وَسلّموا تسليما
فَعَلى الجميعِ وآله الرضوانُ
... وَعَلى البغيضِ وحزبه الخذلانُ
ما زالَ حبُّ الكلِّ وهو أمانُ
... مَع حبِّ طه لازماً ملزوما
صلّوا عليهِ وسلّموا تسليما
قَد كنتُ قبلَ مديحِ أحمدَ مُجرما
... وَبهِ غدوتُ بحمدِ ربّي مُسلما
فَاِجعَل إِلهي منّةً وتكرّما
... أَجَلي بدينِ محمّدٍ مَختوما
صلّوا عليهِ وسلّموا تَسليما

قصيدة
عُج بِالمدينةِ تلقَ ثمّ كَريما للشاعر يوسف النبهاني رحمه الله


(1) إن كان الشاعر - رحمه الله - يقصد دعاء شخص النبي صلى الله عليه وسلم فلا نزاع بين السلف على بدعية هذا العمل وحرمته مهما كان صاحبه متأولا ، والدعاء عبادة فلا يدعى إلا الله وحده ، وينبغي أن يُنصَح من يفعل هذا بالحكمة والموعظة الحسنة ، وبالله التوفيق .
(2) في التوسل بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وجاهه خلاف مشهور عن السلف والأصح تركه ، والله أعلم .




الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©