(*) بسم الله الرحمن
الرحيم (*) سلسلة اخترت لكم 53 (*)
لعل من الشخصيات الخالدة التي لم تأخذ حقها من الدراسة والعناية والرعاية سواء في عصرها أو ما تلاها من العصور مرورا بعصرنا الراهن، شخصية العلامة المصري الفقيه والمحدث ومعلم الناس في عصره...
الإمام المصري الليث بن سعد (رضي الله عنه) (94 هـ - 175 هـ) (1)...
ومن هذا المكان نسلط الأضواء على هذه الشخصية التي ظُلمت بسبب إهمالها عبر التاريخ على الرغم من أنها قد نشرت التسامح والعلوم وقبول الآخر، والأخلاق في شتى جنبات المجتمع المصري والعربي والإسلامي أنذاك... وليسمح لي القارئ العزيز أن نتجول في حياة هذا الرجل؛ لنرى معالم القدوة في أسمى معانيها. محظوظة هي تلك القرية التي خُلِّدت بمولد الإمام الليث فيها... إنها فعلا قرية حسنة المنظر غزيرة الفواكه من أرض مصر، تسمى قلقشندة وتتبع الآن مركز طوخ بمحافظة القليوبية، وتبعد عن القاهرة بحوالي عشرين كيلو مترًا..
وكان مولده أيضا في ليلة مباركة هادئة، مليئة بالروحانيات.. ليلة طاب هواؤها.. وصفت سماؤها..
هي ليلة النصف من شهر شعبان المكرم من العام الرابع والتسعين للهجرة، ويؤكد ابن بكير ذلك فيقول: سمعت الليث يقول: «ولدت في شعبان سنة أربع وتسعين»، وكان ذلك يوم الجمعة.. والمصريون يعتبرون ليلة النصف من شعبان ليلة مباركة.. لذلك تفاءل أهل الوليد بمقْدِمه في تلك الليلة، كما تفاءل أهلُ القرية جميعًا بهذا القادم الجديد، ابن عميد الأسرة الغنية الذي كان يفيض بكرمه على كل من حوله..
أما نسبه فهو أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي (شيخ الإسلام.. الإمام الحافظ.. عالم الديار المصرية).
اختلف في أصله، فقيل: من خراسان، وقيل: من أصبهان، وقيل: غير ذلك، وأهل بيته يقولون: نحن من أصبهان، وقال ابن خلكان أصله من قلقشندة(2). والمشهور أنه (فَهْمِّي) - نسبة إلى فهم، وهي بطن من قيس عيلان ومرجعهم إلى العدنانية – عربي.. ومما يدل على ذلك، أنه كان ابن عم الوليد بن رفاعة بن ثابت بن ظاعن الفَهْمِّي الذي تولى حكم مصر سنة 109هـ، وتوفى وهو والٍ عليها سنة 117هـ، والوليد بن رفاعة عربي أصيل، ليس في نسبه خلاف بين العلماء، ولما كان الليث ابن عمه، فهو أيضًا عربي مثله.. قال القضاعي في خططه في الكلام على دار الليث بالفسطاط: «.. وكان له دار بقلقشندة بالريف، بناها، فهدمها ابن رفاعة أمير مصر؛ عنادًا له، وكان ابن عمه، فبناها الليث ثانيا، فهدمها، فلما كانت الثالثة أتاه آت في منامه فقال له: يا ليث: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ (سورة القصص: 5). أضف إلى ذلك أن أسماء آبائه وأجداده كلها عربية ليس فيها اسم أعجمي، مما يدل على أنهم كانوا من العرب.
ولا شك أن إجادته اللغة العربية إجادة تامة، وخبرته الواسعة بأعراف العرب في الاستعمال اللغوي، ومعرفته الدقيقة بلهجاتهم المختلفة، وقدرته على التمييز بين جيد اللغة ورديئها، وسهولة أسلوبه وجزالته، وخلوه من اللحن واللكنة الأعجمية والتكلف الذي نراه في كتب الأعاجم من المتعربين، وغير ذلك مما وجدناه في آثاره الباقية، يجعلنا نكاد نقطع بعروبته.
هذه بعض الأدلة وإن لم تكن تفيد اليقين، فهي تفيد الظن القوى بأن الليث بن سعد لم يكن أعجميًا في روحه وفكره وأسلوبه وثقافته وأخلاقه، وهذا الأمر يحملنا على القول بأن الليث بن سعد مصري عربي أصيل. بيد أن بعض المؤرخين يرون رأيًا آخر، ويكفينا المشهور من أنه العربي الأصيل، ابن عم أمير مصر ابن رفاعة العربي الأصيل الذي ليس في نسبه خلاف كما جاء في سير أعلام النبلاء للذهبي، والأعلام للزركلي، وحلية الأولياء للأصبهاني، والليث بن سعد للدكتور عبد الحليم محمود، وصبح الأعشى للقلقشندي، والبداية والنهاية لابن كثير، والمحدثون في مصر للدكتور أحمد عمر هاشم، وأئمة الفقه التسعة لعبد الرحمن الشرقاوي، وأعلام في التاريخ الإسلامي في مصر د. سامح كريم، والإمام المصري الليث بن سعد. للدكتور عبد الله شحاتة، الليث بن سعد فقيه مصر للدكتور السيد أحمد خليل. ويشاء الله عز وجل أن يتوفى الليث في ذات الليلة المكرمة، ليلة النصف من شعبان سنة مائة وخمس وسبعين للهجرة (175هـ) بعد أن ملأ الدنيا من حوله بالخير، والعلم، والمعرفة، وآداب السلوك، وأسباب المحبة، على مدى اثنين وثمانين عاما ...
الإمام الليث.. والنشأة المصرية الفريدة:
نشأ الليث في بحبوحة من الرزق وسعة من العيش، فكان أبوه واسع الغنى يملك في قرية قلقشندة بريف مصر –مسقط رأس الليث بن سعد- وما حولها ضيعة واسعة خصبة تنتج خير الثمار من زرع وفاكهة.. فلديه المال والبنون زينة الحياة الدنيا. وكانت قلقشندة بلدة طيبة الهواء، خصبة التربة غنية بالثمرات والخيرات.. تشتهر بجودة الفاكهة.
لقد أدرك والده أن العلم هو خير ما يزين الرجل العاقل، فوفر له كل ما من شأنه إدراك العلم والنبوغ فيه. فشرع يعلمه على الصورة المألوفة حينئذ، حيث كانوا يبدؤون بحفظ القرآن، ويتعلمون عن طريق ذلك الكتابة والقراءة، ثم يتعلمون علوم القرآن، والحديث واللغة العربية والفقه وعلوم الإسلام على وجه العموم كما قال صاحب كتاب أئمة الفقه التسعة. ولقد ظهرت نجابة الفتى في سن مبكرة بعد أن أتم حفظ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة والحديث الشريف والفقه، وبعضا من العلوم والفنون الأخرى وهو صغير السن.. ثم ظهر نبوغه السريع في العلوم المختلفة، ففي اللغة أدرك أن النصوص ليست أمرا ظاهريا فحسب بل هي روح.. لها دلالات وفحوى، وبالتالي فالذي يتقن اللغة العربية ويصل إلى معرفة أسرار بلاغتها، حَرِيٌّ بأن يفهم النصوص ظاهرها وروحها.. من أجل هذا عكف الليث -بعد أن حفظ القرآن وكثيرًا من الأحاديث النبوية الشريفة- على حفظ الشعر العربي، الذي قيل قبل نزول الوحي بالقرآن وخلال نزوله؛ ليدرك أسرار اللغة كما قال ابن خلكان في الوفيات، حتى صار إمامًا يفتى، وهو في بواكير شبابه..
روى ابن حجر العسقلاني عن يحيى بن بكير أنه قال: سمعت شرحبيل بن يزيد يقول: «أدركت الناس في زمن هشام بن عبد الملك، وهم متوافرون مثل يزيد بن حبيب، وعبيد الله بن أبي جعفر، وجعفر بن أبي ربيعة، والحارث بن يزيد، وابن هبيرة، ومن يقدم مصر من علماء أهل المدينة ومن علماء أهل الشام للرباط، والليث بن سعد يومئذ حدث شاب، وإنهم ليعرفون فضله، ويقدمونه ويشار إليه». وقال يحيى بن بكير سمعت الليث يقول: «رآني يحيى بن الأنصاري وقد فعلت شيئًا من المباحات فقال: لا تفعل، فإنك إمام منظور إليك». ويحيى تابعي من شيوخ الليث.
لقد كان الليث إمامًا منظورًا إليه وهو يومئذ حَدَثٌ شاب، وإذا كان هذا الحدث الشاب بلغ هذا المبلغ فإنه قد بلغه بجده واجتهاده، وبذكائه المتوقد، وذاكرته القوية. وظل الليث يتجه إلى جامع عمرو -وهو أول مسجد جامع أنشأه المسلمون في إفريقية، بناه عمرو بن العاص سنة 21هـ لنشر مبادئ الدين الإسلامي وتعاليمه القويمة، وكان نواة لحركة علمية كبرى في مصر، وبلغت حلقات العلم به بضعًا وأربعين حلقة لا تكاد تنفض منه، ومن ثم أصبح مركزًا علميًّا مهما لنشر الحضارة الإسلامية- لكي ينهل من علوم أساتذة عظام، حتى أصبح عَلَمًا يشار إليه بالبنان.
ثم ذهب ليحج بيت الله الحرام -وكانت أول حجة له سنة ثلاث عشرة ومائة- فأخذ عن علماء الحجاز. يقول الليث: «سمعت من ابن شهاب الزهري بمكة سنة ثلاث عشرة» وكان الليث يُجِلُّه، ويحبه ويحترمه لعلمه وفضله ومكانه.. روى ابن حجر عن عمرو بن خالد قال: قلت لليث: بلغني أنك أخذت بركاب ابن شهاب الزهري، قال: نعم للعلم، فأما لغير ذلك فلا، والله ما فعلته بأحد قط، ويقول ابن حجر عن الليث: «وقد سمع الليث من ابن شهاب الزهري كثيرًا، ويدخل بينه وبين الزهري الواسطة بواحد، وباثنين، وبثلاثة». كما أخذ عن نافع مولى ابن عمر (رضي الله عنهم جميعا)، الذي عُدَّ من أوثق الرواة عن ابن عمر، ولم يختلف في ذلك أحد من المحدثين.
يقول الليث: دخلت على نافع مولى ابن عمر، فقال: من أين؟ قلت: من أهل مصر. قال: ممن؟ قلت: من قيس. قال: ابن كم؟ قلت: ابن عشرين. قال: أما لحيتك فلحية ابن أربعين.!! وكان نافع أسود اللون. ومن طريف ما يروى عن الليث في حَجَّتِه هذه أنه لم يحج وحده وإنما رافقه ابن لهيعة، يقول الليث: حججت أنا وابن لهيعة، فرأيت نافعًا مولى ابن عمر، فدخلت معه إلى دكان علاف، فحدثني، فمر بنا ابن لهيعة.. فقال: من هذا؟ قلت: مولى لنا. فلما رجعنا إلى مصر جعلت أحدث عن نافع، فأنكر ذلك ابن لهيعة وقال: أين لقيته؟! قلتُ: أما رأيت العبد الذي كان في دكان العلاف؟ هو ذاك كما جاء في الليث بن سعد إمام أهل مصر للدكتور عبد الحليم محمود.
ولم يكتف الإمام الليث بن سعد بالعلم الذي حصَّله والأحاديث التي جمعها وحفظها في مصر والمدينة فقط، بل كان الترحال دأبه. فكان (رضي الله عنه) شغوفًا بطلب العلم، مولعًا بأهله، محبا للترحال في سبيله مهما كلفه ذلك من مال أو عناء.. ولقد ساعده ثراؤه الواسع في بلوغ مرامه وإشباع نهمه.. لقد ظل يسافر ويعاني ويلات السفر ومشقاته طيلة حياته لتحصيل العلم.. وكانت أولى رحلاته إلى الحجاز، وفي المدينة التقى بالإمام مالك بن أنس وكانت بينهما صلات ومراسلات، وسافر بعد الستين إلى العراق في شهر شوال سنة إحدى وستين ومائة ينشد العلم بها عند رجل أصغر منه سنًا!! فكان -رحمه الله- إذا عَلِمَ بمكان حديث ذهب إليه ولو كان ذلك على بعد مئات الأميال.. فقد ظل طوال حياته محبا للسفر والترحال في طلب العلم والحديث الشريف.. فاستحق أن يقول عنه ابن وهب: «والله الذي لا إله إلا هو ما رأينا أحدًا قط أفقه من الليث» (3)...
كما جاء في وفيات الأعيان، وتقريب التهذيب، وشذرات الذهب، أعلام في التاريخ الإسلامي في مصر للدكتور سامح كريم.
وهكذا لم يَنَمْ الليثُ على شهرته التي بلغها، ولا على تقديره الذي حظى به وسط العلماء، وإنما واصل الليل بالنهار في الدراسة والأخذ عن العلماء، وكان أستاذًا يدرس للجمهور، وتلميذًا يتلقى عن العلماء، واستمر كذلك إلى نهاية حياته. فصار أحد العلماء الأفذاذ الذين كانت لهم مكانة بارزة بين الأعلام وبصمات واضحة في كل من حوله من الطلاب والعلماء والخلفاء.. الليث.. وفلسفة العطاء بغير حدود: قيل بأن لكل شخصية مفتاحا يميزها عن غيرها، ونحن نتحدث عن الإمام الليث بن سعد، نجد أن لشخصيته مفاتيح عدة.. لقد اتسمت شخصيته بالسخاء والعطاء الروحي والمعنوي والفكري والمادي، فكان رضي الله عنه يألف قلوب زملائه بحسن أدبه وظرفه وسعة علمه وكرمه.. فإذا لاحظ فقر أحد زملائه وصله بالمال سرًّا.. وإن وجد فيهم من يَبْعُد مسكنه عن جامع عمرو ويجهده المسير إلى حلقات الدرس يعطيه دابة.. ولكي لا يُحرج المحتاج من زملائه كان يزعم لهم أنه يقدم للواحد منهم قرضًا حسنًا يرده عندما يكبر.. !! لم تشغله الدنيا (4) بكثرة زخارفها عن بذل ماله في سبيل الله عن طيب نفس، حسبة لله وتقربًا إليه.. فكان يتمتع بخلال حميدة.. باذلا العلم والمال في سبيل الله والفوز برضاه، ولعل صفة الجود والكرم كانت من أهم مفاتيح هذه الشخصية الفريدة، ونعرض هنا بعض المواقف التي تدل على سعة كرمه وبذله وجوده. فعلى الرغم مما تمتع به الإمام الليث بن سعد من ثراء عريض.. إلا أنه لم تجب عليه الزكاة قط!! فبسبب كرمه -المنقطع المثيل- وإنفاقه لأمواله في وجوه الخير، وجوده على الداني والقاصى، ووصله لأصحابه، لم يَحل على دَخْلِه الحول (أي لم يمر على دخله العام).. ومن ثم لم تجب عليه الزكاة..!!
وقد اختلفت الروايات فيما يتعلق بدخله السنوي، وتراوحت الأقوال فيما بين عشرين ألف، وثمانين ألف دينار، ولعل هذا الاختلاف والتباين في دخله، مرجعه إلى فترات من حياته، فقد يكون دخله في مقتبل عمره عشرين ألف، ودخله في نهاية حياته ثمانين ألف دينار.. وهكذا. وقد يفسر بتذبذب الإنتاج نتيجة عوامل بيئية أو جغرافية أو مناخية متغيرة...إلخ.. على أية حال فالروايات تشير إلى أنه لم يكن يدخر من دخله شيئًا، بل قد يكون مدينا في آخر العام، من كثرة العطاء..!! ومن جميل عطائه كما قال الدكتو عبد الحليم محمود في بحثه الليث بن سعد إمام أهل مصر، أنه كان يصلى في المسجد كل صلاة، يجيء على فرسه ويتصدق في كل صلاة على ثلاثمائة مسكين.
وكان الليث يعلم تمام العلم أن المال مال الله، وما هو إلا مستخلف عليه ومسؤول عنه أمام الله –تعالى- يوم القيامة، فاستغل هذه الأموال لطاعة الله والقرب منه عز وجل، ووصل أصحابه وزملاءه.. ولم يكتف بذلك، بل وضع لنفسه منهاجًا تربويا يسير على دربه لتعديل سلوك السائلين.. يقول محمد بن موسى الصائغ: سمعت منصور بن عمار يقول: تكلمت في جامع مصر يومًا فإذا رجلان قد وقفا على الحلقة فقالا: أجب الليث، فدخلت عليه فقال: أنت المتكلم في المسجد؟ قلت: نعم: قال رد علىَّ الكلام الذي تكلمت به. فأخذت في ذلك المجلس بعينه، فرقَّ وبكى حتى رحمته. ثم قال: ما اسمك؟ قلت: منصور. قال: ابن من؟ قلت: ابن عمار. قال: أنت أبو السرى؟ قلت: نعم. قال الحمد لله الذي لم يمتنى حتى رأيتك، ثم قال: يا جارية فجاءت بكيس فيه ألف دينار، فقال: يا أبا السرى، خذ هذا لك وصن هذا الكلام أن تقف به على أبواب السلاطين، ولا تمدحن أحدًا من المخلوقين بعد مدحتك لرب العلمين، ولك على في كل سنة مثلها، فقلت: رحمك الله إن الله قد أحسن إلى وأنعم، قال: لا ترد علىَّ شيئًا أصلك به، فقبضتها وخرجت. قال: لا تبطئ علىَّ، فلما كان في الجمعة الثانية أتيته، فقال لي: اذكر شيئا فتكلمت. فبكى وكثر بكاؤه، فلما أردت أن أقوم قال: انظر ما في ثنى هذه الوسادة وإذا خمسمائة دينار، فقلت: عهدي بصلتك بالأمس قال: لا تردن علىَّ شيئًا أصلك به، متى رأيتك؟ قلت: الجمعة الداخلة ؟ قال: كأنك فتت عضوًا من أعضائي، فلما كانت الجمعة الداخلة أتيته مودعًا فقال لي: خُذْ في شيء أذكرك به، فتكلمت فبكى وكثر بكاؤه، ثم قال لي: يا منصور انظر ما في ثنى الوسادة، فإذا ثلثمائة دينار قد أعدها للحج، ثم قال: يا جارية، هاتي ثياب إحرام منصور، فجاءت بإزار فيها أربعون ثوبًا.. قلت: رحمك الله، أكتفي بثوبين، فقال لي: أنت رجل كريم ويصحبك قوم فأعطهم، وقال: هذه الجارية لك هكذا جاءت القصة السابقة في صفة الصفوة للإمام أبى الفرج عبد الرحمن بن الجوزى .. وللحديث بقية.
(1) المقالان للدكتور أحمد سليمان - حفظه الله - كما هو مدون في آخرهما ، وهذا دأبنا في هذه السلسلة .
قال الإمام الذهبي رحمه الله : "الإِمَامُ، الحَافِظُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، وَعَالِمُ الدِّيَارِ المِصْرِيَّةِ، انظر ترجمته الفخيمة في سير أعلام النبلاء (الطبقة السابعة) (12) (8 / 136 : 163) ، من كبار أتباع التابعين روى له ( البخاري - مسلم - أبو داود - الترمذي - النسائي - ابن ماجه ) ، وقال ابن حجر (ثقة ثبت فقيه إمام)
موسوعة رواة التهذيبيين (5684) .
(2) قلت (الشرقاوي) : ويقال لها أيضا قرقشندة (سير أعلام النبلاء 8 / 137) . لكن الأشهر باللام .
(3) قلت : وروى الإمام أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأنصاري المعروف بأبِي الشيخ الأصبهاني (ت 369هـ) عن إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ , عَنِ الرَّبِيعُ , عَنِ الشَّافِعِيِّ , قَالَ: «كَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ أَفْقَهَ مِنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إِلَّا أَنَّهُ ضَيَّعَهُ أَصْحَابُهُ» . طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها (1 / 406) أي ضيعوا مذهبه الفقهي أما أحاديثه فقد بلغت الآفاق ، والحمد لله رب العالمين .وقال أحمد بن حنبل: الليث كثير العلم، صحيح الحديث، ليس فى هؤلاء المصريين أثبت منه، ما أصح حديثه، فقال أحمد: رأيت من رأيت، فلم أر مثل الليث، كان فقيه البدن، عربى اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن الذاكرة، وعد خصالاً جميلة عنه حتى بلغ عشرًا. وأقوال العلماء فى فضله كثيرة مشهورة. تهذيب الأسماء واللغات للإمام أبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت 676هـ) (2 / 74) .
(4) ومن ذلك ما ذكره الذهبي ، قال : "كَانَ اللَّيْثُ -رَحِمَهُ اللهُ- فَقِيْهَ مِصْرَ، وَمُحَدِّثَهَا، وَمُحْتَشِمَهَا، وَرَئِيْسَهَا، وَمَنْ يَفتَخِرُ بِوُجُوْدِهِ الإِقْلِيْمُ، بِحَيْثُ إِنَّ مُتَوَلِّي مِصْرَ، وَقَاضِيَهَا، وَنَاظِرَهَا مِنْ تَحْتِ أَوَامِرِه، وَيَرْجِعُوْنَ إِلَى رَأْيِهِ، وَمَشُوْرَتِهِ، وَلَقَدْ أَرَادَهُ المَنْصُوْرُ عَلَى أَنْ يَنُوبَ لَهُ عَلَى الإِقْلِيْمِ، فَاسْتَعْفَى مِنْ ذَلِكَ". (سير أعلام النبلاء 8 / 143) .
لعل من الشخصيات الخالدة التي لم تأخذ حقها من الدراسة والعناية والرعاية سواء في عصرها أو ما تلاها من العصور مرورا بعصرنا الراهن، شخصية العلامة المصري الفقيه والمحدث ومعلم الناس في عصره...
الإمام المصري الليث بن سعد (رضي الله عنه) (94 هـ - 175 هـ) (1)...
ومن هذا المكان نسلط الأضواء على هذه الشخصية التي ظُلمت بسبب إهمالها عبر التاريخ على الرغم من أنها قد نشرت التسامح والعلوم وقبول الآخر، والأخلاق في شتى جنبات المجتمع المصري والعربي والإسلامي أنذاك... وليسمح لي القارئ العزيز أن نتجول في حياة هذا الرجل؛ لنرى معالم القدوة في أسمى معانيها. محظوظة هي تلك القرية التي خُلِّدت بمولد الإمام الليث فيها... إنها فعلا قرية حسنة المنظر غزيرة الفواكه من أرض مصر، تسمى قلقشندة وتتبع الآن مركز طوخ بمحافظة القليوبية، وتبعد عن القاهرة بحوالي عشرين كيلو مترًا..
وكان مولده أيضا في ليلة مباركة هادئة، مليئة بالروحانيات.. ليلة طاب هواؤها.. وصفت سماؤها..
هي ليلة النصف من شهر شعبان المكرم من العام الرابع والتسعين للهجرة، ويؤكد ابن بكير ذلك فيقول: سمعت الليث يقول: «ولدت في شعبان سنة أربع وتسعين»، وكان ذلك يوم الجمعة.. والمصريون يعتبرون ليلة النصف من شعبان ليلة مباركة.. لذلك تفاءل أهل الوليد بمقْدِمه في تلك الليلة، كما تفاءل أهلُ القرية جميعًا بهذا القادم الجديد، ابن عميد الأسرة الغنية الذي كان يفيض بكرمه على كل من حوله..
أما نسبه فهو أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي (شيخ الإسلام.. الإمام الحافظ.. عالم الديار المصرية).
اختلف في أصله، فقيل: من خراسان، وقيل: من أصبهان، وقيل: غير ذلك، وأهل بيته يقولون: نحن من أصبهان، وقال ابن خلكان أصله من قلقشندة(2). والمشهور أنه (فَهْمِّي) - نسبة إلى فهم، وهي بطن من قيس عيلان ومرجعهم إلى العدنانية – عربي.. ومما يدل على ذلك، أنه كان ابن عم الوليد بن رفاعة بن ثابت بن ظاعن الفَهْمِّي الذي تولى حكم مصر سنة 109هـ، وتوفى وهو والٍ عليها سنة 117هـ، والوليد بن رفاعة عربي أصيل، ليس في نسبه خلاف بين العلماء، ولما كان الليث ابن عمه، فهو أيضًا عربي مثله.. قال القضاعي في خططه في الكلام على دار الليث بالفسطاط: «.. وكان له دار بقلقشندة بالريف، بناها، فهدمها ابن رفاعة أمير مصر؛ عنادًا له، وكان ابن عمه، فبناها الليث ثانيا، فهدمها، فلما كانت الثالثة أتاه آت في منامه فقال له: يا ليث: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ (سورة القصص: 5). أضف إلى ذلك أن أسماء آبائه وأجداده كلها عربية ليس فيها اسم أعجمي، مما يدل على أنهم كانوا من العرب.
ولا شك أن إجادته اللغة العربية إجادة تامة، وخبرته الواسعة بأعراف العرب في الاستعمال اللغوي، ومعرفته الدقيقة بلهجاتهم المختلفة، وقدرته على التمييز بين جيد اللغة ورديئها، وسهولة أسلوبه وجزالته، وخلوه من اللحن واللكنة الأعجمية والتكلف الذي نراه في كتب الأعاجم من المتعربين، وغير ذلك مما وجدناه في آثاره الباقية، يجعلنا نكاد نقطع بعروبته.
هذه بعض الأدلة وإن لم تكن تفيد اليقين، فهي تفيد الظن القوى بأن الليث بن سعد لم يكن أعجميًا في روحه وفكره وأسلوبه وثقافته وأخلاقه، وهذا الأمر يحملنا على القول بأن الليث بن سعد مصري عربي أصيل. بيد أن بعض المؤرخين يرون رأيًا آخر، ويكفينا المشهور من أنه العربي الأصيل، ابن عم أمير مصر ابن رفاعة العربي الأصيل الذي ليس في نسبه خلاف كما جاء في سير أعلام النبلاء للذهبي، والأعلام للزركلي، وحلية الأولياء للأصبهاني، والليث بن سعد للدكتور عبد الحليم محمود، وصبح الأعشى للقلقشندي، والبداية والنهاية لابن كثير، والمحدثون في مصر للدكتور أحمد عمر هاشم، وأئمة الفقه التسعة لعبد الرحمن الشرقاوي، وأعلام في التاريخ الإسلامي في مصر د. سامح كريم، والإمام المصري الليث بن سعد. للدكتور عبد الله شحاتة، الليث بن سعد فقيه مصر للدكتور السيد أحمد خليل. ويشاء الله عز وجل أن يتوفى الليث في ذات الليلة المكرمة، ليلة النصف من شعبان سنة مائة وخمس وسبعين للهجرة (175هـ) بعد أن ملأ الدنيا من حوله بالخير، والعلم، والمعرفة، وآداب السلوك، وأسباب المحبة، على مدى اثنين وثمانين عاما ...
الإمام الليث.. والنشأة المصرية الفريدة:
نشأ الليث في بحبوحة من الرزق وسعة من العيش، فكان أبوه واسع الغنى يملك في قرية قلقشندة بريف مصر –مسقط رأس الليث بن سعد- وما حولها ضيعة واسعة خصبة تنتج خير الثمار من زرع وفاكهة.. فلديه المال والبنون زينة الحياة الدنيا. وكانت قلقشندة بلدة طيبة الهواء، خصبة التربة غنية بالثمرات والخيرات.. تشتهر بجودة الفاكهة.
لقد أدرك والده أن العلم هو خير ما يزين الرجل العاقل، فوفر له كل ما من شأنه إدراك العلم والنبوغ فيه. فشرع يعلمه على الصورة المألوفة حينئذ، حيث كانوا يبدؤون بحفظ القرآن، ويتعلمون عن طريق ذلك الكتابة والقراءة، ثم يتعلمون علوم القرآن، والحديث واللغة العربية والفقه وعلوم الإسلام على وجه العموم كما قال صاحب كتاب أئمة الفقه التسعة. ولقد ظهرت نجابة الفتى في سن مبكرة بعد أن أتم حفظ القرآن الكريم وتعلم القراءة والكتابة والحديث الشريف والفقه، وبعضا من العلوم والفنون الأخرى وهو صغير السن.. ثم ظهر نبوغه السريع في العلوم المختلفة، ففي اللغة أدرك أن النصوص ليست أمرا ظاهريا فحسب بل هي روح.. لها دلالات وفحوى، وبالتالي فالذي يتقن اللغة العربية ويصل إلى معرفة أسرار بلاغتها، حَرِيٌّ بأن يفهم النصوص ظاهرها وروحها.. من أجل هذا عكف الليث -بعد أن حفظ القرآن وكثيرًا من الأحاديث النبوية الشريفة- على حفظ الشعر العربي، الذي قيل قبل نزول الوحي بالقرآن وخلال نزوله؛ ليدرك أسرار اللغة كما قال ابن خلكان في الوفيات، حتى صار إمامًا يفتى، وهو في بواكير شبابه..
روى ابن حجر العسقلاني عن يحيى بن بكير أنه قال: سمعت شرحبيل بن يزيد يقول: «أدركت الناس في زمن هشام بن عبد الملك، وهم متوافرون مثل يزيد بن حبيب، وعبيد الله بن أبي جعفر، وجعفر بن أبي ربيعة، والحارث بن يزيد، وابن هبيرة، ومن يقدم مصر من علماء أهل المدينة ومن علماء أهل الشام للرباط، والليث بن سعد يومئذ حدث شاب، وإنهم ليعرفون فضله، ويقدمونه ويشار إليه». وقال يحيى بن بكير سمعت الليث يقول: «رآني يحيى بن الأنصاري وقد فعلت شيئًا من المباحات فقال: لا تفعل، فإنك إمام منظور إليك». ويحيى تابعي من شيوخ الليث.
لقد كان الليث إمامًا منظورًا إليه وهو يومئذ حَدَثٌ شاب، وإذا كان هذا الحدث الشاب بلغ هذا المبلغ فإنه قد بلغه بجده واجتهاده، وبذكائه المتوقد، وذاكرته القوية. وظل الليث يتجه إلى جامع عمرو -وهو أول مسجد جامع أنشأه المسلمون في إفريقية، بناه عمرو بن العاص سنة 21هـ لنشر مبادئ الدين الإسلامي وتعاليمه القويمة، وكان نواة لحركة علمية كبرى في مصر، وبلغت حلقات العلم به بضعًا وأربعين حلقة لا تكاد تنفض منه، ومن ثم أصبح مركزًا علميًّا مهما لنشر الحضارة الإسلامية- لكي ينهل من علوم أساتذة عظام، حتى أصبح عَلَمًا يشار إليه بالبنان.
ثم ذهب ليحج بيت الله الحرام -وكانت أول حجة له سنة ثلاث عشرة ومائة- فأخذ عن علماء الحجاز. يقول الليث: «سمعت من ابن شهاب الزهري بمكة سنة ثلاث عشرة» وكان الليث يُجِلُّه، ويحبه ويحترمه لعلمه وفضله ومكانه.. روى ابن حجر عن عمرو بن خالد قال: قلت لليث: بلغني أنك أخذت بركاب ابن شهاب الزهري، قال: نعم للعلم، فأما لغير ذلك فلا، والله ما فعلته بأحد قط، ويقول ابن حجر عن الليث: «وقد سمع الليث من ابن شهاب الزهري كثيرًا، ويدخل بينه وبين الزهري الواسطة بواحد، وباثنين، وبثلاثة». كما أخذ عن نافع مولى ابن عمر (رضي الله عنهم جميعا)، الذي عُدَّ من أوثق الرواة عن ابن عمر، ولم يختلف في ذلك أحد من المحدثين.
يقول الليث: دخلت على نافع مولى ابن عمر، فقال: من أين؟ قلت: من أهل مصر. قال: ممن؟ قلت: من قيس. قال: ابن كم؟ قلت: ابن عشرين. قال: أما لحيتك فلحية ابن أربعين.!! وكان نافع أسود اللون. ومن طريف ما يروى عن الليث في حَجَّتِه هذه أنه لم يحج وحده وإنما رافقه ابن لهيعة، يقول الليث: حججت أنا وابن لهيعة، فرأيت نافعًا مولى ابن عمر، فدخلت معه إلى دكان علاف، فحدثني، فمر بنا ابن لهيعة.. فقال: من هذا؟ قلت: مولى لنا. فلما رجعنا إلى مصر جعلت أحدث عن نافع، فأنكر ذلك ابن لهيعة وقال: أين لقيته؟! قلتُ: أما رأيت العبد الذي كان في دكان العلاف؟ هو ذاك كما جاء في الليث بن سعد إمام أهل مصر للدكتور عبد الحليم محمود.
ولم يكتف الإمام الليث بن سعد بالعلم الذي حصَّله والأحاديث التي جمعها وحفظها في مصر والمدينة فقط، بل كان الترحال دأبه. فكان (رضي الله عنه) شغوفًا بطلب العلم، مولعًا بأهله، محبا للترحال في سبيله مهما كلفه ذلك من مال أو عناء.. ولقد ساعده ثراؤه الواسع في بلوغ مرامه وإشباع نهمه.. لقد ظل يسافر ويعاني ويلات السفر ومشقاته طيلة حياته لتحصيل العلم.. وكانت أولى رحلاته إلى الحجاز، وفي المدينة التقى بالإمام مالك بن أنس وكانت بينهما صلات ومراسلات، وسافر بعد الستين إلى العراق في شهر شوال سنة إحدى وستين ومائة ينشد العلم بها عند رجل أصغر منه سنًا!! فكان -رحمه الله- إذا عَلِمَ بمكان حديث ذهب إليه ولو كان ذلك على بعد مئات الأميال.. فقد ظل طوال حياته محبا للسفر والترحال في طلب العلم والحديث الشريف.. فاستحق أن يقول عنه ابن وهب: «والله الذي لا إله إلا هو ما رأينا أحدًا قط أفقه من الليث» (3)...
كما جاء في وفيات الأعيان، وتقريب التهذيب، وشذرات الذهب، أعلام في التاريخ الإسلامي في مصر للدكتور سامح كريم.
وهكذا لم يَنَمْ الليثُ على شهرته التي بلغها، ولا على تقديره الذي حظى به وسط العلماء، وإنما واصل الليل بالنهار في الدراسة والأخذ عن العلماء، وكان أستاذًا يدرس للجمهور، وتلميذًا يتلقى عن العلماء، واستمر كذلك إلى نهاية حياته. فصار أحد العلماء الأفذاذ الذين كانت لهم مكانة بارزة بين الأعلام وبصمات واضحة في كل من حوله من الطلاب والعلماء والخلفاء.. الليث.. وفلسفة العطاء بغير حدود: قيل بأن لكل شخصية مفتاحا يميزها عن غيرها، ونحن نتحدث عن الإمام الليث بن سعد، نجد أن لشخصيته مفاتيح عدة.. لقد اتسمت شخصيته بالسخاء والعطاء الروحي والمعنوي والفكري والمادي، فكان رضي الله عنه يألف قلوب زملائه بحسن أدبه وظرفه وسعة علمه وكرمه.. فإذا لاحظ فقر أحد زملائه وصله بالمال سرًّا.. وإن وجد فيهم من يَبْعُد مسكنه عن جامع عمرو ويجهده المسير إلى حلقات الدرس يعطيه دابة.. ولكي لا يُحرج المحتاج من زملائه كان يزعم لهم أنه يقدم للواحد منهم قرضًا حسنًا يرده عندما يكبر.. !! لم تشغله الدنيا (4) بكثرة زخارفها عن بذل ماله في سبيل الله عن طيب نفس، حسبة لله وتقربًا إليه.. فكان يتمتع بخلال حميدة.. باذلا العلم والمال في سبيل الله والفوز برضاه، ولعل صفة الجود والكرم كانت من أهم مفاتيح هذه الشخصية الفريدة، ونعرض هنا بعض المواقف التي تدل على سعة كرمه وبذله وجوده. فعلى الرغم مما تمتع به الإمام الليث بن سعد من ثراء عريض.. إلا أنه لم تجب عليه الزكاة قط!! فبسبب كرمه -المنقطع المثيل- وإنفاقه لأمواله في وجوه الخير، وجوده على الداني والقاصى، ووصله لأصحابه، لم يَحل على دَخْلِه الحول (أي لم يمر على دخله العام).. ومن ثم لم تجب عليه الزكاة..!!
وقد اختلفت الروايات فيما يتعلق بدخله السنوي، وتراوحت الأقوال فيما بين عشرين ألف، وثمانين ألف دينار، ولعل هذا الاختلاف والتباين في دخله، مرجعه إلى فترات من حياته، فقد يكون دخله في مقتبل عمره عشرين ألف، ودخله في نهاية حياته ثمانين ألف دينار.. وهكذا. وقد يفسر بتذبذب الإنتاج نتيجة عوامل بيئية أو جغرافية أو مناخية متغيرة...إلخ.. على أية حال فالروايات تشير إلى أنه لم يكن يدخر من دخله شيئًا، بل قد يكون مدينا في آخر العام، من كثرة العطاء..!! ومن جميل عطائه كما قال الدكتو عبد الحليم محمود في بحثه الليث بن سعد إمام أهل مصر، أنه كان يصلى في المسجد كل صلاة، يجيء على فرسه ويتصدق في كل صلاة على ثلاثمائة مسكين.
وكان الليث يعلم تمام العلم أن المال مال الله، وما هو إلا مستخلف عليه ومسؤول عنه أمام الله –تعالى- يوم القيامة، فاستغل هذه الأموال لطاعة الله والقرب منه عز وجل، ووصل أصحابه وزملاءه.. ولم يكتف بذلك، بل وضع لنفسه منهاجًا تربويا يسير على دربه لتعديل سلوك السائلين.. يقول محمد بن موسى الصائغ: سمعت منصور بن عمار يقول: تكلمت في جامع مصر يومًا فإذا رجلان قد وقفا على الحلقة فقالا: أجب الليث، فدخلت عليه فقال: أنت المتكلم في المسجد؟ قلت: نعم: قال رد علىَّ الكلام الذي تكلمت به. فأخذت في ذلك المجلس بعينه، فرقَّ وبكى حتى رحمته. ثم قال: ما اسمك؟ قلت: منصور. قال: ابن من؟ قلت: ابن عمار. قال: أنت أبو السرى؟ قلت: نعم. قال الحمد لله الذي لم يمتنى حتى رأيتك، ثم قال: يا جارية فجاءت بكيس فيه ألف دينار، فقال: يا أبا السرى، خذ هذا لك وصن هذا الكلام أن تقف به على أبواب السلاطين، ولا تمدحن أحدًا من المخلوقين بعد مدحتك لرب العلمين، ولك على في كل سنة مثلها، فقلت: رحمك الله إن الله قد أحسن إلى وأنعم، قال: لا ترد علىَّ شيئًا أصلك به، فقبضتها وخرجت. قال: لا تبطئ علىَّ، فلما كان في الجمعة الثانية أتيته، فقال لي: اذكر شيئا فتكلمت. فبكى وكثر بكاؤه، فلما أردت أن أقوم قال: انظر ما في ثنى هذه الوسادة وإذا خمسمائة دينار، فقلت: عهدي بصلتك بالأمس قال: لا تردن علىَّ شيئًا أصلك به، متى رأيتك؟ قلت: الجمعة الداخلة ؟ قال: كأنك فتت عضوًا من أعضائي، فلما كانت الجمعة الداخلة أتيته مودعًا فقال لي: خُذْ في شيء أذكرك به، فتكلمت فبكى وكثر بكاؤه، ثم قال لي: يا منصور انظر ما في ثنى الوسادة، فإذا ثلثمائة دينار قد أعدها للحج، ثم قال: يا جارية، هاتي ثياب إحرام منصور، فجاءت بإزار فيها أربعون ثوبًا.. قلت: رحمك الله، أكتفي بثوبين، فقال لي: أنت رجل كريم ويصحبك قوم فأعطهم، وقال: هذه الجارية لك هكذا جاءت القصة السابقة في صفة الصفوة للإمام أبى الفرج عبد الرحمن بن الجوزى .. وللحديث بقية.
(1) المقالان للدكتور أحمد سليمان - حفظه الله - كما هو مدون في آخرهما ، وهذا دأبنا في هذه السلسلة .
قال الإمام الذهبي رحمه الله : "الإِمَامُ، الحَافِظُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، وَعَالِمُ الدِّيَارِ المِصْرِيَّةِ، انظر ترجمته الفخيمة في سير أعلام النبلاء (الطبقة السابعة) (12) (8 / 136 : 163) ، من كبار أتباع التابعين روى له ( البخاري - مسلم - أبو داود - الترمذي - النسائي - ابن ماجه ) ، وقال ابن حجر (ثقة ثبت فقيه إمام)
موسوعة رواة التهذيبيين (5684) .
(2) قلت (الشرقاوي) : ويقال لها أيضا قرقشندة (سير أعلام النبلاء 8 / 137) . لكن الأشهر باللام .
(3) قلت : وروى الإمام أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأنصاري المعروف بأبِي الشيخ الأصبهاني (ت 369هـ) عن إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ , عَنِ الرَّبِيعُ , عَنِ الشَّافِعِيِّ , قَالَ: «كَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ أَفْقَهَ مِنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إِلَّا أَنَّهُ ضَيَّعَهُ أَصْحَابُهُ» . طبقات المحدثين بأصبهان والواردين عليها (1 / 406) أي ضيعوا مذهبه الفقهي أما أحاديثه فقد بلغت الآفاق ، والحمد لله رب العالمين .وقال أحمد بن حنبل: الليث كثير العلم، صحيح الحديث، ليس فى هؤلاء المصريين أثبت منه، ما أصح حديثه، فقال أحمد: رأيت من رأيت، فلم أر مثل الليث، كان فقيه البدن، عربى اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن الذاكرة، وعد خصالاً جميلة عنه حتى بلغ عشرًا. وأقوال العلماء فى فضله كثيرة مشهورة. تهذيب الأسماء واللغات للإمام أبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت 676هـ) (2 / 74) .
(4) ومن ذلك ما ذكره الذهبي ، قال : "كَانَ اللَّيْثُ -رَحِمَهُ اللهُ- فَقِيْهَ مِصْرَ، وَمُحَدِّثَهَا، وَمُحْتَشِمَهَا، وَرَئِيْسَهَا، وَمَنْ يَفتَخِرُ بِوُجُوْدِهِ الإِقْلِيْمُ، بِحَيْثُ إِنَّ مُتَوَلِّي مِصْرَ، وَقَاضِيَهَا، وَنَاظِرَهَا مِنْ تَحْتِ أَوَامِرِه، وَيَرْجِعُوْنَ إِلَى رَأْيِهِ، وَمَشُوْرَتِهِ، وَلَقَدْ أَرَادَهُ المَنْصُوْرُ عَلَى أَنْ يَنُوبَ لَهُ عَلَى الإِقْلِيْمِ، فَاسْتَعْفَى مِنْ ذَلِكَ". (سير أعلام النبلاء 8 / 143) .
وكان لليث بن سعد جود
في الشتاء.. وجود في الصيف؛ فكان
يطعم الناس الهرائس بعسل النحل،
وسمن البقر في الشتاء، وكان
يطعمهم في الصيف بشيء من اللوز
والسكر.. كما ورد في الليث بن سعد
إمام أهل مصر. ولعل تخصيصه لهذه
المأكولات في تلك الأوقات لعلمه
أن الجسم يحتاج لهذه العناصر في
هذه الأوقات، أو أن مواد تصنيع هذه
المأكولات كانت لا تتوافر إلا في
هذه الأوقات.. ..
وكان الليث يُعين على نوائب الدهر ومصائبه، فكما ورد في مختصر تاريخ دمشق «ولما احترقت كتب ابن لهيعة بعث إليه الليث بن سعد بألف دينار»؛ ليساعده على شراء الكتب التي تلزمه لمواصلة البحث والدرس.. ومن أجمل أنواع الكرم الليثي ما تعبر عنه القصة التالية التي يرويها الحارث بن مسكين، يقول: «اشترى قوم من الليث بن سعد ثمرة فاستغلوها، فاستقالوه فأقالهم، ثم دعا بخريطة فيها أكياس، فأمر لهم بخمسين دينار، وقال: اللهم غفرا، إنهم قد كانوا أملوا فيه أملاً، فأحببت أن أعوِّضهم من أملهم بهذا..». وجاءت امرأة إلى الليث فقالت: يا أبا الحارث، إن ابنًا لي عليلًا، واشتهى عسلاً، فقال: يا غلام، أعطها مرطًا (المرط مائة وعشرون رطلاً) من عسل، وكان مع المرأة إناء صغير الحجم، فلما رآه كاتب الليث راجع الليث قائلاً، إنها تطلب قليلاً من العسل، فقال الليث: إنها طلبت على قدرها، ونحن نعطيها على قدرنا، وأمره أن يعطيها المرط كما جاء في تذكرة الحفاظ.
وهكذا كان الليث بن سعد -رحمه الله- مثالا يُحتذى به في الخلق النبيل.. كان لين الجانب.. رقيق النفس.. رضيَّ الخلق، وكان مقصد ذوي الحاجة، لا حجاب بينه وبينهم، وكان رقيق القلب، عطوفًا على الناس، رحيما بهم، لا يألو جهدًا في التوسعة عليهم والرفق بهم، لا سيما إذا علم من أمر أحدهم ما يقتضى ذلك. وبعد هذا العرض لبعض ما تحلى به الليث من خلال عظيمة وصفات نبيلة لا سيما صفة الجود والكرم، أقول: إن كان العَرب قد جعلوا حاتم الطائي مضرب المثل في الجود والكرم، فإن الليث بن سعد يكاد أن يساويه في ذلك أو يزيد عليه..
موسوعية الليث العلمية.. ومحنة هارون الرشيد: لم يأل الليث جهدًا في سبيل تعليم تلاميذه أو مريديه، ولم يتكاسل عنهم يومًا من الأيام، فظل طيلة حياته باذلاً العلم والمال ابتغاء مرضاة الله، وما كان له أن يتقاعس عن هذا الواجب وهو الإمام الذي علم فعمل، فكان له في كل يوم أربعة مجالس يجلس فيها، فأما أولها: فيجلس فيه لنائبة السلطان في حوائجه ونوائبه، وكان (رحمه الله) يغشاه السلطان –أي يأتيه ويحمله على القدوم إليه بمجلسه-، فإذا أنكر من القاضي أمرًا، أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين فيأتيه العزل..!! وأما المجلس الثاني: فكان يجلس فيه لأصحاب الحديث. وكان يقول: نجحوا أصحاب الحوانيت فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم. وأما المجلس الثالث: فكان يجلس فيه للمسائل، يغشاه الناس فيسألونه في أمور دينهم، فيفتيهم. وأما المجلس الرابع: فكان يجلس فيه لقضاء حوائج الناس، لا يسأله أحد من الناس فيرده، كبرت حاجته أم صغرت.كما جاء في تاريخ بغداد. ولا شك أن تنظيمـه لهـذه المجالس وترتيبه لها على هذا النحو لَتَدلُ على أنـه -بالإضافة إلى كونه إمام عصره- كان رجلا موسوعيًّا يجمع بين العلم والإدارة والمكانة الرفيعة عند الناس، وعند الخلفاء، وهذه المكانة لم يصل إليها بالزلفى؛ ولكنه وصل إليها بعلمه وحلمه، وجوده وكرمه، وإخلاصه لله رب العالمين. ومن هنا وفد إليه طلاب العلم لينهلوا من بحر علمه الفياض، ويرووا عنه أحاديث المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، فنشأ منهم جيل أخذوا على عاتقهم خدمة الحديث النبوي الشريف فتتلمذوا على يدي الليث بن سعد وحدثوا ورووا عنه. فقد روى عنه خلق كثير، منهم: محمد بن عجلان وهشام بن سعد وهما من شيوخه، وقيس بن الربيع، وعطاف بن خالد وابن لهيعة، وهشيم بن بشير وهم من أقرانه. وعبد الله بن وهب بن مسلم القرشي ويحيى بن بكير وعبد الله بن المبارك وقتيبة بن سعيد وعمرو بن خالد وعبد الله بن صالح وسعيد بن عفير وسعيد بن أبي مريم وأبو الجهم علاء بن موسى وآدم بن أبي إياس وشعيب بن الليث بن سعد وعلى بن نصر الجهضمي الكبير، وغيرهم كثير كما جاء في سير أعلام النبلاء وعوالي الليث بن سعد وتهذيب التهذيب، طبقات علماء الحديث، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وحلية الأولياء، تاريخ بغداد، تهذيب التهذيب. وقد حرص تلاميذه على مجالسه ودروسه والأخذ عنه، فتأثروا به ونهجوا نهجه، وساروا على دربه في شتى النواحي.. وعلى الرغم من ذلك لم يدونوا علمه كما سبق.
هذا وقد مر بهارون الرشيد محنة حينما قال لزوجته زبيدة: أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة -وبذلك تكون زوجته طالقا منه إذا لم يكن من أهل الجنة- فجمع الرشيد فقهاء الأمصار فما استطاع أحد أن يحلها إلا الليث.. فعن أبي علي الحسن بن مليح الطرائفي قال: قال خادم الرشيد: جري بين هارون الرشيد وبين ابنة عمه زبيدة مناظرة وملاحاة في شيء من الأشياء، فقال هارون لها في عرض كلامه: أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة، ثم ندم، واغتما بهذا اليمين، ونزلت بهما مصيبة لوضع ابنة عمه منه، فجمع الفقهاء وسألهم عن هذه اليمين فلم يجد منها مخرجا، ثم كتب إلى عماله في سائر الأمصار أن يحملوا إليه الفقهاء من بلدانهم، فلما اجتمعوا جلس لهم وأدخلوا عليه، وكنت واقفًا بين يديه لأمر إن حدث يأمرني بما شاء فيه، فسألهم عن يمينه، وكنت المعبر عنه، وهل له منها مخلص، فأجابه الفقهاء بأجوبة مختلفة، وكان إذ ذاك فيهم الليث بن سعد فيمن أشخص من مصر، وهو جالس في آخر المجلس لم يتكلم بشيء، وهارون يراعي الفقهاء واحدًا واحدًا، فقال له: بقي ذلك الشيخ في آخر المجلس لم يتكلم بشيء، فقلت له، إن أمير المؤمنين يقول لك: مالك لا تتكلم كما تكلم أصحابك؟!. فقال: قد سمع أمير المؤمنين قول الفقهاء وفيه مقنع، فقال: قل إن أمير المؤمنين يقول: لو أردنا ذلك سمعنا من فقهائنا ولم نشخصكم من بلدانكم، ولما أحضرت هذا المجلس، فقال: يخلى أمير المؤمنين مجلسه إن أراد أن يسمع كلامي في ذلك، فانصرف من كان بمجلس أمير المؤمنين من الفقهاء والناس.. ثم قال: تكلم، فقال يدنيني أمير المؤمنين، فقال: ليس بالحضرة إلا هذا الغلام ليس عليك منه عين، فقال: يا أمير المؤمنين، أتكلم على الأمان وعلى طرح التعمل والهيبة والطاعة لي من أمير المؤمنين في جميع ما آمر به؟ قال: لك، قال: يدعو أمير المؤمنين بمصحف جامع، فأمر به فأحضر، فقال: يأخذه أمير المؤمنين فيتصفحه حتى يصل إلى سورة الرحمن، فأخذه وتصفحه حتى وصل إلى سورة الرحمن، فقال: يقرأ أمير المؤمنين، فقرأ، فلما بلغ قوله تعالي:« ولمن خاف مقام ربه جنتان» (الرحمن: 46). قال: قف يا أمير المؤمنين ههنا، فوقف، فقال: يقول أمير المؤمنين: والله، فاشتد على الرشيد وعلى ذلك، فقال له هارون: ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، على هذا وقع الشرط، فنكس أمير المؤمنين رأسه، وكانت زبيدة في بيت مسبل عليه ستر قريب من المجلس تسمع الخطاب ثم رفع هارون رأسه فقال: والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إلى أن بلغ آخر اليمين، ثم قال: إنك يا أمير المؤمنين تخاف مقام الله، قال هارون: إني أخاف مقام الله.
فقال: يا أمير المؤمنين، فهي جنتان وليست بجنة واحدة كما ذكر الله تعالى في كتابه، فسمعت التصفيق والفرح من خلف الستر، وقال هارون: أحسنت والله، بارك الله فيك، ثم أمر بالجوائز والخلع لليث بن سعد، ثم قال هارون: يا شيخ اختر ما شئت، وسل ما شئت تجب عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، وهذا الخادم الواقف على رأسك، فقال: وهذا الخادم، فقال: يا أمير المؤمنين، والضياع التي لك بمصر ولابنة عمك أكون عليها وتسلم إلىّ لأنظر في أمورها، قال: بل نقطعك إقطاعا، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أريد من هذا شيئا، بل تكون في يدي لأمير المؤمنين فلا يجري على حيف العمال وأعز بذلك، وأمر أن يكتب له ويسجل بما قال، وخرج من بين يدي أمير المؤمنين بجميع الجوائز والخلع والخادم وأمرت زبيدة له بضعف ما أمر به الرشيد، فحمل إليه واستأذن في الرجوع إلى مصر فحمل مكرمًا أو كما قال، كما جاء في سير أعلام النبلاء، وفي الليث بن سعد، للدكتور عبد الحليم محمود. وهكذا يتبين لنا أن الليث كانت له علاقات حميمة مع بعض الخلفاء والولاة سواء من الأمويين أو العباسيين وأثمرت هذه العلاقات ثمرات طيبة أسهمت في تنظيم الحياة العامة في مصر آنذاك، وحظي بمكانة علمية سامية عند هؤلاء الخلفاء، فأضحى المراقب على الولاة والقضاء في مصر فلا يقضون بشيء إلا بمشورته... وإذا فعلوا ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وعظهم، فإذا أصروا كاتب الخلفاء بذلك فيأتي العزل للمخالف.. هذا هو الليث الذي أتته الدنيا وهي راغمة، فرفضها، وولي ظهره لها، وجعلها مطية إلى الدار الآخرة دار البقاء والخلود.. بكاء المصريين لوفاة الإمام الليث: وبعد حياة حافلة بالحلم والعلم، والجود والكرم، والتقوى والورع، والحياء، والجهاد، توفى إمام أهل المصريين، الذي ظل طوال حياته باذلاً العلم والمال، لا يرجو إلا الله، والفوز برضاه، عازفًا عن الدنيا، راغبا فيما عند الله، حتى أذن الله أن يتوفاه إليه بعد أن مرض أياما قلائل لم يُرهق خلالها بمرضه أحدا.. ثم جاءه أمر الله، فمات بعد أن ملأ الدنيا علما وخيرًا وفضلا ونبلاً.
واختلف المؤرخون في تاريخ وفاته. فذكر ابن سعد في الطبقات أن وفاته كانت سنة 165هـ. بينما يرى جمهور المؤرخين وعلى رأسهم الخطيب البغدادي، وأبو عمرو محمد بن يوسف ابن يعقوب الكندي أنه توفى في سنة 175ه. وكانت وفاته في خلافة الرشيد وكانت الوفاة يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقين من شعبان «ليلة النصف من شعبان» وله إحدى وثمانون سنة، وصلى عليه موسى بن عيسى الهاشمي، ودفن في مقابر الصدفيين بالقرافة الصغرى بمصر بعد الجمعة وشيعته جموع عديدة -ما اجتمع مثلها من قبل في مصر- لقد كان حادث موته خبرًا فاجعًا للنفوس القاصية والدانية، وأحدث خروجه من الدنيا فراغًا كبيرًا تأثر به أهل مصر الذين بكوه أحرَّ بكاء.. بعد أن ظل يعلم الناس، ويرعى أهل العلم، ويتصدق على ذوي الحاجات، ويسدد الدَّيْن عمن يثقله الدَّيْن، ويعمر البيوت، ويحسن للناس كما أحسن الله إليه، ويعين الآخرين.. ولم ينقطع يوما عن حلقته في مسجد عمرو، أو في بيته، حتى بلغ بضعًا وثمانين سنة، وهو محتفظ بقوة البدن وصحوة الفكر.. أما عن وصف جنازته فأنقل للقارئ ما قاله صاحب كتاب تاريخ الإسلام: "قال خالد بن عبد السلام الصدفي: شهدت جنازة الليث مع والدي، فما رأيت جنازة قطّ أعظم منها!!. ورأيت النّاس كلهم عليهم الحزن، وهم يُعزون بعضهم بعضًا ويبكون، فقلت: يا أبي كأنّ كل واحدٍ من الناس صاحب هذه الجنازة.!! فقال: يا بني لا ترى مثله أبدًا". وعن وصف قبره يقول حسن عبد الوهاب صاحب كتاب تاريخ المساجد الأثرية: "وكان قبره كالمصطبة مكتوبًا عليه «الإمام الفقيد الزاهد العالم الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث المصري مفتي أهل مصر".
وبعد سنة 640 هـ 1242م أقام أبو زيد المصري كبير التجار بناءً على القبر، واستمر أهل الخير يتبارون في زيادة هذا البناء في المراحل المختلفة.. وإذا ذهبت إلى مسجد الإمام الليث تهبط بضع درجات، وأول ما يقابلك باب حديد ثبتت عليه لوحتان مؤرختان سنة 1194- 1201 تقرأ على السفلى منها: إذا رمت المكارم من كريمٍ فيمم من بني للفضل بيتا فذاك الليث من يحمي حماه ويكرم جاره حيا ومَيْتَا
ومنذ سنة 700هـ -1300م أو بعدها بقليل اعتاد القراء الاجتماع كل يوم جمعة بعد الظهر بهذا المسجد لتلاوة القرآن تلاوة مجودة، يختمونه فيها عند السحر، وظلت هذه العادة إلى وقت قريب، أما الآن فيجتمع كبار القراء بالمسجد كل يوم جمعة من قبيل العصر إلى قبيل الغروب ويتناوبون قراءة القرآن، ويأتي كثير من الصالحين لزيارة المسجد يوم الجمعة والاستماع لقراءة القرآن فيه. كما جاء في والرحمة الغيثية بالترجمة الليثية لابن حجر وتاريخ مولد العلماء ووفياتهم ومختصر تاريخ دمشق لابن عساكر، والإمام المصري الليث بن سعد للدكتور عبد الله شحاتة ووفيات الأعيان والمحدثون في مصر والأزهر ودورهم في إحياء السنة النبوية الشريفة للدكتور أحمد عمر هاشم.. رحم الله الإمام الليث بن سعد رحمة واسعة، وأسكنه فراديس الجنان، وجزاه الله خير الجزاء على ما قدمه للعلم والعلماء والناس أجمعين..
وُلِدَ في ليلة النصف من شعبان ومات فيها: لقطات نورانية من حياة الإمام الليث بن سعد (1/2) (2/2)
د. أحـمد علي سليمان - حفظه الله -
أصل المقالين :
http://almesryoon.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9% 82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA/53-%D9%88%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D9%8 6%D8%B8%D8%B1/494765-%D9%84%D9%82%D8%B7%D8%A7%D8%AA-%D9%86%D 9%88%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%AD%D9%8A %D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9% 84%D9%84%D9%8A%D8%AB-%D8%A8%D9%86-%D8%B3%D8%B9%D8%AF-1-2
http://almesryoon.com/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9% 8A%D8%A7-%D9%88%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%AF%D8%AB/53-%D9%88%D8%A C%D9%87%D8%A9-%D9%86%D8%B8%D8%B1/497493-%D9%84%D9%82%D8%B7%D 8%A7%D8%AA-%D9%86%D9%88%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%85 %D9%86-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8% A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%8A%D8%AB-%D8%A8%D9%86-%D8%B3% D8%B9%D8%AF-2-2
وكان الليث يُعين على نوائب الدهر ومصائبه، فكما ورد في مختصر تاريخ دمشق «ولما احترقت كتب ابن لهيعة بعث إليه الليث بن سعد بألف دينار»؛ ليساعده على شراء الكتب التي تلزمه لمواصلة البحث والدرس.. ومن أجمل أنواع الكرم الليثي ما تعبر عنه القصة التالية التي يرويها الحارث بن مسكين، يقول: «اشترى قوم من الليث بن سعد ثمرة فاستغلوها، فاستقالوه فأقالهم، ثم دعا بخريطة فيها أكياس، فأمر لهم بخمسين دينار، وقال: اللهم غفرا، إنهم قد كانوا أملوا فيه أملاً، فأحببت أن أعوِّضهم من أملهم بهذا..». وجاءت امرأة إلى الليث فقالت: يا أبا الحارث، إن ابنًا لي عليلًا، واشتهى عسلاً، فقال: يا غلام، أعطها مرطًا (المرط مائة وعشرون رطلاً) من عسل، وكان مع المرأة إناء صغير الحجم، فلما رآه كاتب الليث راجع الليث قائلاً، إنها تطلب قليلاً من العسل، فقال الليث: إنها طلبت على قدرها، ونحن نعطيها على قدرنا، وأمره أن يعطيها المرط كما جاء في تذكرة الحفاظ.
وهكذا كان الليث بن سعد -رحمه الله- مثالا يُحتذى به في الخلق النبيل.. كان لين الجانب.. رقيق النفس.. رضيَّ الخلق، وكان مقصد ذوي الحاجة، لا حجاب بينه وبينهم، وكان رقيق القلب، عطوفًا على الناس، رحيما بهم، لا يألو جهدًا في التوسعة عليهم والرفق بهم، لا سيما إذا علم من أمر أحدهم ما يقتضى ذلك. وبعد هذا العرض لبعض ما تحلى به الليث من خلال عظيمة وصفات نبيلة لا سيما صفة الجود والكرم، أقول: إن كان العَرب قد جعلوا حاتم الطائي مضرب المثل في الجود والكرم، فإن الليث بن سعد يكاد أن يساويه في ذلك أو يزيد عليه..
موسوعية الليث العلمية.. ومحنة هارون الرشيد: لم يأل الليث جهدًا في سبيل تعليم تلاميذه أو مريديه، ولم يتكاسل عنهم يومًا من الأيام، فظل طيلة حياته باذلاً العلم والمال ابتغاء مرضاة الله، وما كان له أن يتقاعس عن هذا الواجب وهو الإمام الذي علم فعمل، فكان له في كل يوم أربعة مجالس يجلس فيها، فأما أولها: فيجلس فيه لنائبة السلطان في حوائجه ونوائبه، وكان (رحمه الله) يغشاه السلطان –أي يأتيه ويحمله على القدوم إليه بمجلسه-، فإذا أنكر من القاضي أمرًا، أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين فيأتيه العزل..!! وأما المجلس الثاني: فكان يجلس فيه لأصحاب الحديث. وكان يقول: نجحوا أصحاب الحوانيت فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم. وأما المجلس الثالث: فكان يجلس فيه للمسائل، يغشاه الناس فيسألونه في أمور دينهم، فيفتيهم. وأما المجلس الرابع: فكان يجلس فيه لقضاء حوائج الناس، لا يسأله أحد من الناس فيرده، كبرت حاجته أم صغرت.كما جاء في تاريخ بغداد. ولا شك أن تنظيمـه لهـذه المجالس وترتيبه لها على هذا النحو لَتَدلُ على أنـه -بالإضافة إلى كونه إمام عصره- كان رجلا موسوعيًّا يجمع بين العلم والإدارة والمكانة الرفيعة عند الناس، وعند الخلفاء، وهذه المكانة لم يصل إليها بالزلفى؛ ولكنه وصل إليها بعلمه وحلمه، وجوده وكرمه، وإخلاصه لله رب العالمين. ومن هنا وفد إليه طلاب العلم لينهلوا من بحر علمه الفياض، ويرووا عنه أحاديث المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، فنشأ منهم جيل أخذوا على عاتقهم خدمة الحديث النبوي الشريف فتتلمذوا على يدي الليث بن سعد وحدثوا ورووا عنه. فقد روى عنه خلق كثير، منهم: محمد بن عجلان وهشام بن سعد وهما من شيوخه، وقيس بن الربيع، وعطاف بن خالد وابن لهيعة، وهشيم بن بشير وهم من أقرانه. وعبد الله بن وهب بن مسلم القرشي ويحيى بن بكير وعبد الله بن المبارك وقتيبة بن سعيد وعمرو بن خالد وعبد الله بن صالح وسعيد بن عفير وسعيد بن أبي مريم وأبو الجهم علاء بن موسى وآدم بن أبي إياس وشعيب بن الليث بن سعد وعلى بن نصر الجهضمي الكبير، وغيرهم كثير كما جاء في سير أعلام النبلاء وعوالي الليث بن سعد وتهذيب التهذيب، طبقات علماء الحديث، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وحلية الأولياء، تاريخ بغداد، تهذيب التهذيب. وقد حرص تلاميذه على مجالسه ودروسه والأخذ عنه، فتأثروا به ونهجوا نهجه، وساروا على دربه في شتى النواحي.. وعلى الرغم من ذلك لم يدونوا علمه كما سبق.
هذا وقد مر بهارون الرشيد محنة حينما قال لزوجته زبيدة: أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة -وبذلك تكون زوجته طالقا منه إذا لم يكن من أهل الجنة- فجمع الرشيد فقهاء الأمصار فما استطاع أحد أن يحلها إلا الليث.. فعن أبي علي الحسن بن مليح الطرائفي قال: قال خادم الرشيد: جري بين هارون الرشيد وبين ابنة عمه زبيدة مناظرة وملاحاة في شيء من الأشياء، فقال هارون لها في عرض كلامه: أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة، ثم ندم، واغتما بهذا اليمين، ونزلت بهما مصيبة لوضع ابنة عمه منه، فجمع الفقهاء وسألهم عن هذه اليمين فلم يجد منها مخرجا، ثم كتب إلى عماله في سائر الأمصار أن يحملوا إليه الفقهاء من بلدانهم، فلما اجتمعوا جلس لهم وأدخلوا عليه، وكنت واقفًا بين يديه لأمر إن حدث يأمرني بما شاء فيه، فسألهم عن يمينه، وكنت المعبر عنه، وهل له منها مخلص، فأجابه الفقهاء بأجوبة مختلفة، وكان إذ ذاك فيهم الليث بن سعد فيمن أشخص من مصر، وهو جالس في آخر المجلس لم يتكلم بشيء، وهارون يراعي الفقهاء واحدًا واحدًا، فقال له: بقي ذلك الشيخ في آخر المجلس لم يتكلم بشيء، فقلت له، إن أمير المؤمنين يقول لك: مالك لا تتكلم كما تكلم أصحابك؟!. فقال: قد سمع أمير المؤمنين قول الفقهاء وفيه مقنع، فقال: قل إن أمير المؤمنين يقول: لو أردنا ذلك سمعنا من فقهائنا ولم نشخصكم من بلدانكم، ولما أحضرت هذا المجلس، فقال: يخلى أمير المؤمنين مجلسه إن أراد أن يسمع كلامي في ذلك، فانصرف من كان بمجلس أمير المؤمنين من الفقهاء والناس.. ثم قال: تكلم، فقال يدنيني أمير المؤمنين، فقال: ليس بالحضرة إلا هذا الغلام ليس عليك منه عين، فقال: يا أمير المؤمنين، أتكلم على الأمان وعلى طرح التعمل والهيبة والطاعة لي من أمير المؤمنين في جميع ما آمر به؟ قال: لك، قال: يدعو أمير المؤمنين بمصحف جامع، فأمر به فأحضر، فقال: يأخذه أمير المؤمنين فيتصفحه حتى يصل إلى سورة الرحمن، فأخذه وتصفحه حتى وصل إلى سورة الرحمن، فقال: يقرأ أمير المؤمنين، فقرأ، فلما بلغ قوله تعالي:« ولمن خاف مقام ربه جنتان» (الرحمن: 46). قال: قف يا أمير المؤمنين ههنا، فوقف، فقال: يقول أمير المؤمنين: والله، فاشتد على الرشيد وعلى ذلك، فقال له هارون: ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، على هذا وقع الشرط، فنكس أمير المؤمنين رأسه، وكانت زبيدة في بيت مسبل عليه ستر قريب من المجلس تسمع الخطاب ثم رفع هارون رأسه فقال: والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إلى أن بلغ آخر اليمين، ثم قال: إنك يا أمير المؤمنين تخاف مقام الله، قال هارون: إني أخاف مقام الله.
فقال: يا أمير المؤمنين، فهي جنتان وليست بجنة واحدة كما ذكر الله تعالى في كتابه، فسمعت التصفيق والفرح من خلف الستر، وقال هارون: أحسنت والله، بارك الله فيك، ثم أمر بالجوائز والخلع لليث بن سعد، ثم قال هارون: يا شيخ اختر ما شئت، وسل ما شئت تجب عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، وهذا الخادم الواقف على رأسك، فقال: وهذا الخادم، فقال: يا أمير المؤمنين، والضياع التي لك بمصر ولابنة عمك أكون عليها وتسلم إلىّ لأنظر في أمورها، قال: بل نقطعك إقطاعا، فقال: يا أمير المؤمنين، ما أريد من هذا شيئا، بل تكون في يدي لأمير المؤمنين فلا يجري على حيف العمال وأعز بذلك، وأمر أن يكتب له ويسجل بما قال، وخرج من بين يدي أمير المؤمنين بجميع الجوائز والخلع والخادم وأمرت زبيدة له بضعف ما أمر به الرشيد، فحمل إليه واستأذن في الرجوع إلى مصر فحمل مكرمًا أو كما قال، كما جاء في سير أعلام النبلاء، وفي الليث بن سعد، للدكتور عبد الحليم محمود. وهكذا يتبين لنا أن الليث كانت له علاقات حميمة مع بعض الخلفاء والولاة سواء من الأمويين أو العباسيين وأثمرت هذه العلاقات ثمرات طيبة أسهمت في تنظيم الحياة العامة في مصر آنذاك، وحظي بمكانة علمية سامية عند هؤلاء الخلفاء، فأضحى المراقب على الولاة والقضاء في مصر فلا يقضون بشيء إلا بمشورته... وإذا فعلوا ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وعظهم، فإذا أصروا كاتب الخلفاء بذلك فيأتي العزل للمخالف.. هذا هو الليث الذي أتته الدنيا وهي راغمة، فرفضها، وولي ظهره لها، وجعلها مطية إلى الدار الآخرة دار البقاء والخلود.. بكاء المصريين لوفاة الإمام الليث: وبعد حياة حافلة بالحلم والعلم، والجود والكرم، والتقوى والورع، والحياء، والجهاد، توفى إمام أهل المصريين، الذي ظل طوال حياته باذلاً العلم والمال، لا يرجو إلا الله، والفوز برضاه، عازفًا عن الدنيا، راغبا فيما عند الله، حتى أذن الله أن يتوفاه إليه بعد أن مرض أياما قلائل لم يُرهق خلالها بمرضه أحدا.. ثم جاءه أمر الله، فمات بعد أن ملأ الدنيا علما وخيرًا وفضلا ونبلاً.
واختلف المؤرخون في تاريخ وفاته. فذكر ابن سعد في الطبقات أن وفاته كانت سنة 165هـ. بينما يرى جمهور المؤرخين وعلى رأسهم الخطيب البغدادي، وأبو عمرو محمد بن يوسف ابن يعقوب الكندي أنه توفى في سنة 175ه. وكانت وفاته في خلافة الرشيد وكانت الوفاة يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة بقين من شعبان «ليلة النصف من شعبان» وله إحدى وثمانون سنة، وصلى عليه موسى بن عيسى الهاشمي، ودفن في مقابر الصدفيين بالقرافة الصغرى بمصر بعد الجمعة وشيعته جموع عديدة -ما اجتمع مثلها من قبل في مصر- لقد كان حادث موته خبرًا فاجعًا للنفوس القاصية والدانية، وأحدث خروجه من الدنيا فراغًا كبيرًا تأثر به أهل مصر الذين بكوه أحرَّ بكاء.. بعد أن ظل يعلم الناس، ويرعى أهل العلم، ويتصدق على ذوي الحاجات، ويسدد الدَّيْن عمن يثقله الدَّيْن، ويعمر البيوت، ويحسن للناس كما أحسن الله إليه، ويعين الآخرين.. ولم ينقطع يوما عن حلقته في مسجد عمرو، أو في بيته، حتى بلغ بضعًا وثمانين سنة، وهو محتفظ بقوة البدن وصحوة الفكر.. أما عن وصف جنازته فأنقل للقارئ ما قاله صاحب كتاب تاريخ الإسلام: "قال خالد بن عبد السلام الصدفي: شهدت جنازة الليث مع والدي، فما رأيت جنازة قطّ أعظم منها!!. ورأيت النّاس كلهم عليهم الحزن، وهم يُعزون بعضهم بعضًا ويبكون، فقلت: يا أبي كأنّ كل واحدٍ من الناس صاحب هذه الجنازة.!! فقال: يا بني لا ترى مثله أبدًا". وعن وصف قبره يقول حسن عبد الوهاب صاحب كتاب تاريخ المساجد الأثرية: "وكان قبره كالمصطبة مكتوبًا عليه «الإمام الفقيد الزاهد العالم الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث المصري مفتي أهل مصر".
وبعد سنة 640 هـ 1242م أقام أبو زيد المصري كبير التجار بناءً على القبر، واستمر أهل الخير يتبارون في زيادة هذا البناء في المراحل المختلفة.. وإذا ذهبت إلى مسجد الإمام الليث تهبط بضع درجات، وأول ما يقابلك باب حديد ثبتت عليه لوحتان مؤرختان سنة 1194- 1201 تقرأ على السفلى منها: إذا رمت المكارم من كريمٍ فيمم من بني للفضل بيتا فذاك الليث من يحمي حماه ويكرم جاره حيا ومَيْتَا
ومنذ سنة 700هـ -1300م أو بعدها بقليل اعتاد القراء الاجتماع كل يوم جمعة بعد الظهر بهذا المسجد لتلاوة القرآن تلاوة مجودة، يختمونه فيها عند السحر، وظلت هذه العادة إلى وقت قريب، أما الآن فيجتمع كبار القراء بالمسجد كل يوم جمعة من قبيل العصر إلى قبيل الغروب ويتناوبون قراءة القرآن، ويأتي كثير من الصالحين لزيارة المسجد يوم الجمعة والاستماع لقراءة القرآن فيه. كما جاء في والرحمة الغيثية بالترجمة الليثية لابن حجر وتاريخ مولد العلماء ووفياتهم ومختصر تاريخ دمشق لابن عساكر، والإمام المصري الليث بن سعد للدكتور عبد الله شحاتة ووفيات الأعيان والمحدثون في مصر والأزهر ودورهم في إحياء السنة النبوية الشريفة للدكتور أحمد عمر هاشم.. رحم الله الإمام الليث بن سعد رحمة واسعة، وأسكنه فراديس الجنان، وجزاه الله خير الجزاء على ما قدمه للعلم والعلماء والناس أجمعين..
وُلِدَ في ليلة النصف من شعبان ومات فيها: لقطات نورانية من حياة الإمام الليث بن سعد (1/2) (2/2)
د. أحـمد علي سليمان - حفظه الله -
أصل المقالين :
http://almesryoon.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9% 82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA/53-%D9%88%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D9%8 6%D8%B8%D8%B1/494765-%D9%84%D9%82%D8%B7%D8%A7%D8%AA-%D9%86%D 9%88%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%AD%D9%8A %D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9% 84%D9%84%D9%8A%D8%AB-%D8%A8%D9%86-%D8%B3%D8%B9%D8%AF-1-2
http://almesryoon.com/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9% 8A%D8%A7-%D9%88%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%AF%D8%AB/53-%D9%88%D8%A C%D9%87%D8%A9-%D9%86%D8%B8%D8%B1/497493-%D9%84%D9%82%D8%B7%D 8%A7%D8%AA-%D9%86%D9%88%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%85 %D9%86-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8% A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%8A%D8%AB-%D8%A8%D9%86-%D8%B3% D8%B9%D8%AF-2-2
ليست هناك تعليقات: