موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة اخترت لكم 9 من الذكريات 1 ابنتي بنان

(*) بسم الله الرحمن الرحيم (*)
(*) سلسلة اخترت لكم 9 (*)
من الذكريات 1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابنتي بنان رحمها الله , و هذه أول مرة أذكر فيها اسمها , أذكره والدّمع يملأ عيني , والخفقان بعصف بقلبي , أذكره أول مرة بلساني وما غاب عن ذهني لحظة و لا صورتها عن جناني.
أفتنكرون عليّ أن أجد في كل مأتم مأتمها و في كل خبر وفاة وفاتها؟
واذا كان كل شجىّ يثير شجاه لأخيه ؛ أفلا يثير شجاي لبنتي؟
إنّ كل أب يحب أولاده ، ولكن ما رأيت ، لا والله ما رأيت من يحبّ بناته مثل حبي بناتي . ما صدقت إلى الآن وقد مرّ على استشهادها أربع سنوات ونصف السنة وأنا لا أصدق بعقلي الباطن أنها ماتت , إنني أغفل أحيانا فأظنّ إن رنّ جرس الهاتف أنّها ستعلمني على عادتها بأنّها بخير لأطمئنّ عليها.
تكلمني مستعجلة , ترصف ألفاظها رصفًا "مستعجلة دائما " كأنها تحسّ أن الردى لن يبطئ عنها , وأنّ هذا المجرم , هذا النذل ... هذا... يا أسفي , فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يطلق على مثله ؛ ذلك لأنها لغة قوم لا يفقدون الشرف حتى عند الإجرام, إن في العربية كلمات النّذالة والخسّة والدناءة ، وأمثالها , ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط الى حيث نزل هذا الذي هدد الجارَة بالمسدس حتى طرقت عليها الباب لتطمئنّ فتفتح لها , ثم اقتحم عليها , على امرأة وحيدة في دارها , فضربها ضرب الجبان , والجبان إذا ضرب أوجع , أطلق عليها خمس رصاصات تلقتها في صدرها وفي وجهها . ما هربت حتى تقع في ظهرها , كأنّ فيها بقية من أعراق أجدادها الذين كانوا يقولون :
ولسنا على الاعقاب تدمى كلومنا ............ ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
ثم داس ال...لا أدري والله بم أصفه ؟
إن قلت المجرم ، فمِنَ المجرمين من فيه بقية من مروءة تمنعه من أن يدوس بقدميه النجستين على التي قتلها ظلمًا ؛ ليتوثّق من موتها .
ربما كان في المجرم ذرّة من إنسانية تحجزه عن أن يخوض في هذه الدّماء الطاهرة التي أراقها .

ولكنه فعل ذلك كما أوصاه من بعث به لاغتيالها , دعس عليها برجليه ليتأكد من نجاح مهمته , قطع الله يديه ورجليه , لا , بل ادعه وادع من بعث به لله , لعذابه , لانتقامه , ولعذاب الآخرة أشدّ من كل عذاب يخطر على قلوب البشر.

لقد كلمتها قبل الحادث بساعة واحدة ,
قلت: أين عصام؟
قالت : خبّروه بأنّ المجرمين يريدون اغتياله و أبعدوه عن البيت .
قلت: فكيف تبقين وحدك؟
قالت: بابا لا تشغل بالك بي, أنا بخير. ثق والله يا بابا انني بخير . إن الباب لا يفتح الاّ إن فتحته أنا ، ولا أفتح إلاّ إن عرفت من الطّارق وسمعت صوته . إنّ هنا تجهيزات كهربائية تضمن لي السّلامة ، والمسلّم هو الله .
ما خطر على بالها أنّ هذا الوحش , هذا الشيطان سيهدد جارتها بمسدسه حتى تكلمها هي, فتطمئنّ فتفتح لها الباب.
و مرت الساعة فقرع جرس الهاتف , و سمعت من يقول لي : كلّم وزارة الخارجية.
قلت: نعم.

فكلمني رجل أحسست أنه يتلعثم و يتردد , كأنه كُلّف بما تعجز عن الادلاء به بلغاء الرجال , بأن يخبرني..كيف يخبرني؟
و تردد ورأيته بعين خيالي كأنه يتلفت يطلب منجى من هذا الموقف الذي وقّفوه فيه ثم قال: ما عندك أحد أكلمه؟
و كان عندي أخي , فقلت لأخي: خذ اسمع ما يقول,

و سمع ما يقول, و رأيته قد ارتاع مما سمع , وحار ماذا يقول لي , وكأني أحسست أنّ المخابرة من ألمانيا , وأنّه سيلقي عليّ خبرًا لا يسرني , وكنت أتوقع أن ينال عصامًا مكروهٌ فسألته: هل أصاب عصامًا شيء ؟
قال: لا, ولكن..

قلت: ولكن ماذا؟ عجّل يا عبدة فإنك بهذا التردد كما يبتر اليد التي تقرر بترها بالتدريج , قطعة بعد قطعة , فيكون الألم مضاعفًا أضعافًا ، فقل وخلّصني مهما كان سوء الخبر.
قال: بنان.
قلت: ما لها؟
قال , وبسط يديه بسط اليائس الذي لم يبق في يده شيء.
و فهمت وأحسست كأنّ سكّينًا قد غرس في قلبي , ولكني تجلدتّ , وقلت هادئًا هدوءًا ظاهريًا , والنار تتضرم في صدري:
حدّثني بالتفصيل بكل ما سمعت.

فحدثني.
و ثقوا أنني لا أستطيع مهما أوتيت من طلاقة اللسان , و من نفاذ البيان , أن أصف لكم ماذا فعل بي هذا الذي سمعت.
وانتشر في الناس الخبر ولمست فيهم العطف والحب والمواساة ...
ووصلتني برقيات تواسيني و إنها لمنة ممن بعث بها وممن كتب ، يعجز لسان الشكر عن وفاء حقها ، ولكني سكت فلم أشكرها ولم أذكرها ؛ لأن المصيبة عقلت لساني , و هدت أركاني ، وأضاعت عليّ سبيل الفكر فعذرًا وشكرًا لأصحاب البرقيات والرسائل.....
كنت أحسبني جلدًا صبورًا , أثبت للأحداث , و أواجه المصائب ، فرأيت أني لست في شيء من الجلادة ولا من الصبر ولا من الثبات...

صحيح أنه:
ولا بدّ من شكوى إلى ذي مروءة ...... يواسيك أو يسليك أو يتوجع
و لكن لا مواساة في الموت , والسلو مخدر أثره سريع الزوال ، والتّوجع يشكر ولكن لا ينفع شيئًا.
وأغلقت عليّ بابي ، وكلما سألوا عني أبتغى أهلي المعاذير , يصرفونهم عن المجيء , ومجيئهم فضل منهم , ولكني لم أكن أستطيع أن أتكلم في الموضوع.
لم أرد أن تكون مصيبتي مضغة الأهواء , و لا مجالًا لإظهار البيان , أنها مصيبتي وحدي فدعوني أتجرعها وحدي على مهل.
ثم فتحت بابي , و جعلت أكلم من جاءني , جاءني كثير ممن أعرفه ويعرفني وممن يعرفني ولا أعرفه.
وجعلت أتكلم في كل موضوع الا الموضوع الذي جاؤوا من أجله , استبقيت أحزاني لي , وحدثتهم كل حديث حتى لقد أوردت نكتًا و نوادر . أتحسبون ذلك من شذوذ الأدباء ؟ أم من المخالفات التي يريد أصحابها أن يعرفوا بها ؟
لا والله ، ولكن الأمر ما قلت لكم.
كنت أضحك و أُضحِك القوم وقلبي وكل خلية في جسدي تبكي.
فما كل ضاحك مسرور:
لا تحسبوا رقصي بينكم طربا ...... فالطير يرقص مذبوحًا من الألم
إني لأتصوّر الآن حياتها كلها مرحلة مرحلة , ويومًا يومًا تمر أمامي متعاقبة كأنها شريط أراه بعيني.
لقد ذكرت مولدها وكانت ثانية بناتي , ولقد كنت أتمنّى أن يكون بكري ذكرًا ، وقد أعددت له أحلى الأسماء ، ما خطر على بالي أن يكون أنثى . وسميتها عنان وولدت بعدها بسنتين بنان اللهم ارحمها ، وهذه أول مرة أو الثانية التي أقول فيها اللهم ارحمها
وإني لأرجو الرحمة لها ولكني لا أستطيع ان أتصور موتها.

ولما صار عمرها أربع سنوات ونصف السنة أصرت على أن تذهب إلى المدرسة مع أختها , فسعيت أن تقبل من غير تسجل رسميًا.
فلما كان يوم الامتحان ووزعت علاماتها المدرسية وقد كتب لها ظاهريًا لتسر بها ولم تسجل عليها.

قلت : هيه؟ ماذا حدث؟
فقفزت مبتهجة مسرورة و قالت بلهجتها السريعة الكلمات, المتلاحقة الألفاظ:
بابا كلها أصفار أصفار أصفار.
تحسب الأصفار هي خير ما ينال.
وماذا يهم الآن بعدما فارقت الدنيا أكانت أصفارًا أم كانت عشرات , وماذا ينفع المسافر الذي ودع بيته إلى غير عودة , وخلّف متاعه وأثاثه , ماذا ينفع طراز فرش البيت ولونه وشكله .
أديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله (الذكريات : 6/122) .


الكــاتــب

    • مشاركة

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©