موضوع عشوائي

آخر المواضيع

سلسلة نقولات وذكريات في فضل من علم الناس ومات - الوالد الأستاذ إبراهيم الشرقاوي (الرجل العصامي) - رحمه الله - 3

 بسم الله الرحمن الرحيم

7-صيانة العلم ، حافظ على كل ما لديه من كتب إنجليزية وفرنسية وعربية في شتى العلوم ، وهي ما تزال في مكتبته ببيت العائلة ، وكنت أدمنت التقليب فيها ، حتى عثَرت ذات يوم على نسخ قديمة من "كيف يُتْلَى القرآن" للشيخ عامر عثمان - رحمه الله - ، و"متن الشاطبية" بتحقيق الشيخ الضباع - رحمه الله - ، و"هداية المريد إلى رواية أبي سعيد" (ورش من الشاطبية) للضباع (19) ؛ فغيرت هذه الكتب مسار حياتي من الإنجليزية إلى القراءات القرآنية ، وذات يوم - وأنا في الفرقة الأولى من الكلية (آداب E) رأيت الشيخ عبد الحميد كشك في المنام ، فسألته ماذا أقرأ ؟ قال "عندك مكتبة الوالد" ، فوقع في نفسي بعد الاستيقاظ أن المقصود أن أنظر إلى الأغلب في مكتبة الوالد : اللغة أم العلوم الدينية ، وسبحان الله ! مرت السنون ، ولم ألتفت لتأويل الرؤيا إلا الآن .

8-صيانة النعم ، كان يأمرنا بجمع الخبز الساقط على الأرض ، وأن نحسن مجاورة نعم الله . وكان يحدثنا كثيرًا عن نفسه ، وعما رأى ، وأن الله أكرمه بالقرآن ، وليس ذلك كبرًا ولا عُجْبًا ، وإنما من باب قول الله - تعالى - : ((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)) (الضحى 11) .


9-خفة الظل ، كان يكثر من مداعبتنا بذكر محاسن خلق الله لنا ، وأذكر أنه كان يداعبني ذات يوم أثناء تناول الطعام ، ويقول لي "قل الحمد لله" فأقول الحمد لله ، فيقول "قم ، ولا تكمل ؛ لأن الحمد لله تكون في آخر الطعام" ، ويقول لنا "غمِّسُوا أُذُنَ قِطَّة" . وكان أحيانا يتكلم بكلام مسجوع مضحك كان على دراية باللغة العربية ، حتى حدثني شيخي المعمر محمد مصطفى كمال الترزي (16) قال "يا بني أبوك هو الذي علمني اللغة العربية" . ومع ذلك كانت له هيبة ، بحيث إذا رآه أحدنا يخاف من أن يتحدث أمامه إلا إجابة عن سؤال ، وكنت أحيانا أراه في الشارع من بعيد - بنظارته الشمسية ومِشيته المعتادة - فأختبئ في المسجد حتى يمر . وأما اليوم فحدث ولا حرج عن استهانة الأبناء بآبائهم إلا من رحم الله ، وقليل ما هم ، اللهم أصلحنا وأصلح أبناءنا .


10-التلقائية ، فقد كان أريحيا في كلامه ، متواضعًا في معاملته ، وكان يخلط بعض المأكولات ثم يطهيها (أو يطهوها) دون سابق علم بها أو وصف لها .

11-المحافظة على الصحة والأمن ، لأنه يعلم أن كل ناجح له أعداء ، كان يحرص على إحكام إغلاق الأبواب والشبابيك بالأقفال ، وذلك لسَعَة الدار وكثرة بيوته (الغرف) .

12-المحافظة على الأوراق ، فقد كان لا يفرط في قصقوصة (ورقة صغيرة) ، كما رأيت ذلك في حقائبه الجامعةِ أوراقَه ، فالشهادات والصور والرسائل والمذكرات ..... حتى تذاكرَ السفر .

13-كتابة المذكرات ، كان يدون مذكراته ، حتى الحساب اليومي كم أنفق من المال ، وكما رأيت لكتابة المذكرات فوائد كثيرة ، ولذة لا يعرفها إلا من جربها ، وإنما الحياة الذكريات كما قال الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - .

14-الإصرار على تحقيق الأهداف ، وهذا أمر ظاهر في جُلِّ تصرفاته - رحمه الله -كما تقدم .

15-مساعدة الزوجة في الأعمال اليومية ، فقد كان لا يتواني في مساعدة أمي - حفظها الله - ، وقبل وفاته بأيام وقعت بينهما مشاجرة ، فاستسمحها أمامنا ، وقال لي في جَمْع "خذ بالك من أمك ، وما تزعلهاش" .


16-الكرم والسخاء ، وهذا يعرفه فيه كل من خالطه ، فما زلت أذكر عادته في استضافة بعض الناس في البيت ، وتقديمه لهم مشروبين : ساخن وبارد . ويستحيل أن يدخل بيتنا أحد دون أن يأكل أو يشرب ، والشراقوة عمومًا مشهورون بالكرم .

بسم الله الرحمن الرحيم : ((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)) (الشرح 11)
ألا في سبيل المجدِ ما أنا فاعِلُ ... عَفافٌ وإقدامٌ وحَزمٌ ونائِلُ
أعِندي ، وقد مارستُ كلَّ خَفيَّةٍ ... يُصَدَّق واشٍ ، أو يُخَيَّبُ سائِلُ؟!
تُعَدُّ ذنوبي عند قَومٍ كثيرةً ... ولا ذنبَ لي إلا العُلي والفضائِلُ
وقد سار ذِكري في البلادِ ، فمَنْ لهُم ... بإخفاءِ شمسٍ ، ضوؤُها مُتكامِلُ؟
وإنِّي وإن كُنتُ الأَخيرَ زمانُهُ .
.. لآتٍ بِما لمْ تَسْتَطِعْهُ الأوائلُ
وإن كانَ في لُبسِ الفتى شَرفٌ لهُ ... فما السيفُ إلا غِمْدُهُ والحَمائلُ
لَدى مَوطِنٍ ، يشتاقُهُ كُلُّ سيِّدٍ ... وَيَقصُرُ عن إدراكهِ المُتناولُ
ولمَّا رأيتُ الجَهلَ في الناسِ فاشياً ...تَجاهَلتُ ، حتى ظُنَّ أنِّي جاهِلُ
فَوا عَجَباً ! كم يَدَّعي الفضلَ ناقِصٌ ... ووا أسفاً ! كم يُظْهِرُ النقصَ فاضلُ
إذا وصَفَ الطائيَّ ، بالبُخلِ ، مادِرٌ ... وعَيَّرَ قُساً ، بالفهاهةِ باقِلُ

وقال السُّهى للشمس : أنتِ خفيَّةٌ ... وقال الدُجى : يا صُبحُ لونُكَ حائلُ
وطاولتِ الأرضُ السماءَ سفاهَةً ... وفاخرتِ الشُهُبَ الحصى والجنادِلُ
فيا موتُ زُرْ ! إن الحياةَ ذميمةٌ ... ويا نفسُ جِدِّي ! إن دَهرَكِ هازِلُ
 

 (أبو العلاء المعري)


صورة نادرة لقدوتي وقرة عيني والدي أ/إبراهيم الشرقاوي - رحمه الله - الرجل العِصامي ، صاحب المبادئ والقيم .

وصورتان نادرتان : الأولى : تم التقاطها عام 1424 هـ = 2003 م تقريبًا .

 والثانية : تم التقاطها عام 1427 هـ = 2006 م تقريبًا .







وإني - يا أبي - على ذاتِ الدَّرْب سائرُ ... وإن قَصَّرَت بالرَّكْب منِّي الأناملُ


 وختامًا ، الوالد بشر كسائر البشر يخطئ ويصيب ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : «لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا» . (17) ، وقال - صلوات الله وسلامه عليه - : «اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ، وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِئِهِمْ» . (18) ، وأقولها صدقًا لا مجاملة ، ومن خلال ما رأيت وعلمت "لقد رجحت كفة حسناته على كفة سيئاته - غفر الله له - " ، وإنا لنرجو له الجنة ، وقد رأيته في عدد من المنامات ، منها ما كنت أخطأت في ذنب من الذنوب فجاءني وعاتبني ، وكنت أبيت في حجرته التي ينام فيها قبل الوفاة ، وبعد وفاته كنت أتذكره وأشم رائحة من أطيب الريح ، والخلاصة ليس كل ما قلته كثيرًا على ذلك الوالد الكريم - رحمه الله - ، ليس لرابطة الأبُوَّة فقط ، وإنما لشدة تأثري بشخصيته وأخلاقه ، ولما مات ما بكيتُ مثله إلى الآن ، ولعل من عاصروا ذلك وقرأوا كلماتي يذكرونه جيدًا ، ومع شغبي في هذه المرحلة ، حتى مع أساتذتي جاءت بعض مدرساتي - اللائي لم يسلمن من شغبي - يعزينني في وفاة والدي - رحمه الله - .
بسم الله الرحمن الرحيم

((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا)) (الكهف 30 ، 31) .
رحم الله الوالد رحمة واسعة ، وجعل سعيه مشكورًا وذنبه مغفورًا ، وجمعنا به في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقًا ، والحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(19) ولا أدري سر اقتنائه لهذه الكتب ، وقيل إنه كان مجازًا من الشيخ الحصري - رحمه الله - أو قرأ عليه ، ولا أدري مدى صحة هذا القول .

الكــاتــب

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©