موضوع عشوائي

آخر المواضيع

تقاييد على كتاب الله المجيد - لماذا قال الحق - سبحانه وتعالى - لترون الجحيم ولم يقل لترون النعيم ؟

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فيقول الله - تعالى - في كتابه العزيز في سورة التكاثر المكية : ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)) (الكوثر 1 : 8) .
وسواء كان نزول الآية في اليهود أم قريش(1) فإن السورة على قصر آياتها تحمل من المعاني ما تَئِطُّ به السماء ، وحُقَّ لها أن تَئط(2) ، ومن ذلك :
أولًا : دقة اللفظ القرآني "ألهاكم" لأن اللهو هو ما شغلك عن الحق ، وكل شيء شغلك عن شيء فقد ألهاك(3)  ويكون في مرحلة الشباب ، بخلاف اللعب فيكون في مرحلة الصبا ، ومن أجل ذلك قدم الله - عز وجل - اللعب على اللهو في أكثر المواضع القرآنية :
((وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)) (الأنعام 32) .
((إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ...)) ((سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - 36) .
((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ...)) (الحديد 20) .
((وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ...)) (الأنعام 70) .
وقريب من هذا فى تقديم لفظ اللعب على اللَّهو قوله {وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ} (الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - 17) .
ونقل بعض علمائنا "تذكر يا من تموت لهو ولعب بالعنكبوت" وأضفت "ولهوًا ولعبًا بالاعراف" . تأخر ذكر اللعب في الموضعين الشهيرين بالأعراف والعنكبوت :
أما الأعراف ((الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا..)) (الأعراف 51)
فلأَنَّ ذلك فى القيامة، فذكر على ترتيب ما انقضى، وبدأَ بما به الإِنسان انتهى من الحالتين.
وأما العنكبوت ((وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) (العنكبوت 64)
فالمراد بذكرها زمانُ الدُّنيا ، وأَنَّه سريع الانقضاءِ، قليل البقاءِ، وإِنَّ الدَّار الآخرة لهى الحيوان أَى الحياة الَّتى لا بداية لها، ولا نهاية لها، فبدأَ بذكر اللهو؛ لأَنَّه فى زمان الشَّباب، وهو أَكثر من زمان اللعب، وهو زمان الصِّبا. (4)
وما ترى حريصًا على الدنيا إلا ويرى نفسه شابًا يافعًا مهما تقدم به الزمان ، وهذا من دلائل إعجاز النبوة ، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - :  " يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ " (5) ،

ثانيًا : قوله - تعالى - ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)) خطاب لعموم الناس ؛ لأن أكثر الناس مشغولون بالدنيا ، لاهون عن الآخرة بتفاوت بينهم في مقدار اللهو ، وهذا واقع مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولو تتبعت الكثرة في القرآن لوجدتها في معظم المواضع مذمومة ، أمامي الآن 58 موضعًا ، 20 "أكثر الناس" ، 38 "أكثرهم" كلها ذم :
20 "أكثر الناس" ، تفصيلها كالتالي :
3 ((لا يشكرون)) (البقرة 243 ، يوسف 38 ، غافر 61) .
 3 ((لا يؤمنون)) (هود 17 ، الرعد 1 ، غافر 59) .
11 ((لا يعلمون)) (الأعراف 187 ، يوسف 21 ، 40 ، 68 ، النحل 38 ، الروم 6 ، 30 ، سبأ 28 ، 36 ، غافر 57 ، الجاثية 26) .
1 ((وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)) (يوسف 103) .
2 ((فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا)) (الإسراء 89 ، والفرقان 50) .
 و38 "أكثرهم" ، تفصيلها كالتالي :
15 ((لا يعلمون)) (الأنعام 37 ، الأعراف 131 ، الأنفال 34 ، يونس 55 ، النحل 75 ، 101 ، الأنبياء 24 ، النمل 61 ، القصص 13 ، 57 ، لقمان 25 ، الزمر 29 ، 49 ، الدخان 39 ، الطور 47) .
1 ((لا يؤمنون)) (البقرة 100) .
1 ((يجهلون)) (الأنعام 111) .
1 ((فهم لا يسمعون)) (فصلت 4) .
2 ((لا يعقلون)) (العنكبوت 63 ، الحجرات 4) .
2 ((لا يشكرون)) (يونس 60 ، النمل 73) .
1 ((وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)) (الأعراف 17)
1 ((وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)) (الأعراف 102)
1 ((وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا)) (يونس 36)
1 ((وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)) (يوسف 106)
1 ((أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ)) (الفرقان 44)
1 ((فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ)) (الروم 42)
1 (( بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)) (سبأ 41)
1 ((لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)) (يس 7)
8 ((وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)) (الشعراء 8 ، 67 ، 103 ، 121 ، 139 ، 158 ، 174 ، 190)

ثالثًا : أكثر الناس حريصون على الدنيا والمال ، ويسعَوْن إلى التكاثر في المال والأولاد والتجارة والقبائل والعشائر ، مهما زادت أموالهم وكثرت عيالهم ، ولو أدركوا حقيقة الدنيا ما حَرَصُوا عليها وما استحوذت على قلوبهم ، فما حقيقة الدنيا ؟
قال الله - تبارك وتعالى - :
((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)) (الحديد 20) .
{اعْلَمُوْا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} كلعب الصبيان {وَلَهْوٌ} كلهو الشبَّان {وَزِيْنَةٌ} كزينة النِّسوان {وَتَفَاخُرٌ} كتفاخر الإِخوان {وَتَكَاثُرٌ} كتكاثر السُّلطان. (6)  
(( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)) (يونس 24) 
((وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا)) (الكهف 45) .
وعن عبد الله بن الشِّخِير - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، قَالَ: " يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ "(7) وفي رواية "فأبقيت"(8)

رابعًا : قوله - تعالى - ((حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)) (التكاثر 2) يدل أصالة على قصر مدة المكث في القبر ، ويدل تفريعًا على قصر مدة المكث في الدنيا من باب أولى ؛ لأن القبر هو مرحلة سريعة ينتقل العبد بعدها إلى مثواه الأخير ، إما جنة أو سعير ، أسأل الله أن يكرمني وإياكم بالجنة ونعوذ بالله من النار ، وهناك آيات قرآنية وأحاديث شريفة تدل على هذا المعنى ، منها :
قول الله - سبحانه وتعالى - ((وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ..)) (يونس 45)
، وقول الله - جل ذِكْرُه - ((كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)) (النازعات 46) 
، وقول الله - تباركت أسماؤه - ((كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ)) (الأحقاف 35)
ونجمع الثلاثة بقولنا "لم يلبثوا قول الشافي ... يونسُ نازِعُ الأحقافِ
وقد اختلف المفسرون في تأويل قوله - تعالى - "لم يلبثوا" على قولين :
الأول : مدة مكثهم في الدنيا كما قال مقاتل ، والثاني : مدة مكثهم في القبور كما قال ابن عباس ، ويشبهه قول الضحاك: قَصُرَ عندهم مقدار الوقت الذي بين موتهم وبعثهم، فصار كالساعة من النهار، لهول ما استقبلوا من القيامة .
وقد رُوِيَ أن أعرابيًّا سمع الآية فقال : الله أكبر ، لقد قامت القيامة ، فقيل : "ولمَ" فقال : "إن الزائر غير مقيم" ؛ لأن الله - سبحانه - قال "حتى زرتم المقابر" ولم يقل "حتى سكنتم"  كما نقول يا بخت من زار وخَفَّفَ ، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: «لاَ بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَقَالَ لَهُ: «لاَ بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» قَالَ: قُلْتُ: طَهُورٌ؟ كَلَّا، بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ، أَوْ تَثُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ القُبُورَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَعَمْ إِذًا» (10) فمات الرجل ، ومن ثَمَّ كان الأظهر في التفسير أن المراد بـ" زرتم المقابر" أدرككم الموت ، ورجحه ابن كثير وغيره .
فما أقصر الدنيا ! دنياي ودنياك أيها القارئ الكريم والقارئة الكريم هي مدة بقاء أجساد كل منا على قيد الحياة ، ومن وافته مَنِيَّتُه فقد قامت قيامته ، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ» (11) فما مقدار مكثي أو مكثك في الدنيا أخي الكريم وأختي الكريمة طال بنا العمر أو قَصُر إلا عُشْرُ يوم من أيام يوم القيامة ، قال الله - تعالى - : ((وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)) (الحج 47) ،
«وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ - وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ - فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟» (12) ،

نَبْكي على الدّنْيا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ جَمَعَتْهُمُ الدّنْيا فَلَمْ يَتَفَرّقُوا
أينَ الأكاسِرَةُ الجَبابِرَةُ الأُلى كَنَزُوا الكُنُوزَ فَما بَقينَ وَلا بَقوا
من كلّ مَن ضاقَ الفَضاءُ بجيْشِهِ حتى ثَوَى فَحَواهُ لَحدٌ ضَيّقُ
خُرْسٌ إذا نُودوا كأنْ لم يَعْلَمُوا أنّ الكَلامَ لَهُمْ حَلالٌ مُطلَقُ
فَالمَوْتُ آتٍ وَالنُّفُوسُ نَفائِسٌ وَالمُسْتَعِزُّ بِمَا لَدَيْهِ الأحْمَقُ
وَالمَرْءُ يأمُلُ وَالحَيَاةُ شَهِيّةٌ وَالشّيْبُ أوْقَرُ وَالشّبيبَةُ أنْزَقُ(13)

خامسًا : التهديد الأكيد والوعيد الشديد بتكرار قول الله - سبحانه - ((كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)) ، أي "سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إذا نزل بكم الموت. وقيل: العلم الأول: يقع عند نزول الموت. والثاني: عند نزول القبر". (14) وقيل "كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ فِي الْقُبُورِ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ فِي الْبَعْثِ: غَايَرَ بَيْنَهُمَا بِحَسَبِ التَّعَلُّقِ، وَتَبْقَى ثُمَّ عَلَى بَابِهَا مِنَ الْمُهْلَةِ فِي الزَّمَانِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الزَّجْرُ الْأَوَّلُ وَوَعِيدُهُ لِلْكَافِرِينَ، وَالثَّانِي لِلْمُؤْمِنَيْنِ" . (15)

سادسًا : قوله - تعالى - ((كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ)) يحتمل وجهين : 
الأول : أن جواب لو مقدر محذوف ، والمعنى : "لو تعلمون الأمر علماً يقيناً لَشَغَلَكم ما تعلمون عن التكاثر، والتفاخر" أو "لرجعتم عن عن الكفر" (16) ، ويكون قوله - سبحانه - ((لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)) كلامًا مستأنفًا غيرَ مرتبط بشرط ؛ "لأنه أمر محقق الوقوع ". (17) وتحتمل الرؤية معنين : الأول الرؤية البصرية على الظاهر ، وتلك يتلبس بها كل الناس المؤمنين والكافرين ؛ إعمالا لآية الورود : ((وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا)) (مريم 71) على قول جماهير المفسرين بتأويل الورود بالمرور ؛ لأن السراط على ظهرانَيْ جهنم - أعاذني الله وإياكم منها ، والثاني الرؤية بمعنى الدخول ، ويرجع ضمير الخطاب إلى الكافرين فقط ، ويكون الورود في الآية بمعنى الدخول للكافرين فقط كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما .  (18)

ويؤكد ذلك المعنى قراءةُ الشامي والكسائي ((لَتُرَوُنَّ الجحيم)) على البناء للمفعول ؛ إذ يقصد به الكفار فقط ، من باب الإكراه والإجبار ، نسأل الله السلامة والعافية .  

الثاني : أن جواب ((لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ)) هو قول الله - عز وجل - ((لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ))  "أَيْ لَوْ تَعْلَمُونَ الْيَوْمَ فِي الدُّنْيَا، عِلْمَ الْيَقِينَ فِيمَا أَمَامَكُمْ، مِمَّا وَصَفْتُ: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ بِعُيُونِ قُلُوبِكُمْ، فَإِنَّ عِلْمَ الْيَقِينِ يُرِيكَ الْجَحِيمَ بِعَيْنِ فُؤَادِكِ، وَهُوَ أَنْ تُتَصَوَّرَ لَكَ تَارَاتً الْقِيَامَةُ ، وَقَطْعُ مَسَافَاتِهَا. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ: أَيْ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ بِعَيْنِ الرَّأْسِ، فَتَرَاهَا يَقِينًا، لَا تَغِيبُ عن عينك. ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ: فِي مَوْقِفِ السُّؤَالِ وَالْعَرْضِ" . (19)
وهذا ما نرجحه ؛ لأن الخطاب لأكثر البشر كما تقدم في قوله - تعالى - ((ألهاكم التكاثر)) ، بل من آيات السورة ما يتوجه به الخطاب إلى كل الناس بلا استثناء كما في قوله - سبحانه - في آخر السورة : (( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ))  قال قتادة ، قال ابن الجوزي : "والصحيح أنه عام في كل نعيم ، وعام في جميع الخلق، فالكافر يُسْأل توبيخاً إذا لم يشكر المنعم، ولم يوحِّده. والمؤمن يُسْأل عن شكرها" . (20)
قال النووي : "قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْمُرَادُ السُّؤَالُ عَنِ الْقِيَامِ بِحَقِّ شُكْرِهِ وَالَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ السُّؤَالَ هُنَا سُؤَالُ تَعْدَادِ النِّعَمِ وإعلام بالامتنان بها وإظهار الكرامة بإسباغها لا سؤال تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ وَمُحَاسَبَةٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ" (21)
ونقول كذا الخطاب عام لكل الناس في هذه الآية ((لَتَروُنَّ الجحيم)) - على البناء للفاعل "قراءة الجمهور" - وهي الرؤية القلبية المجازية كما قال حنظلة الأُسَيْدِي - رضي الله عنه - :
"يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ أو رأيَ عَيْن" (22)
ويبقى السؤال : لِمَ قال الله - عز وجل - : ((لَتَروُنَّ الجحيم)) ، ولم يقل "لَتَروُنَّ النعيم" ؟
والإجابة في كلمتين :
الأولى : لأن النعيم لا يراه إلا المؤمنون ، بينما الجحيم يراه كل الناس ؛ قال الله - تعالى - في أهل الجنة :
((قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)) (الصافات 51 : 55) .  
ولأن النار تحت السراط الذي يمر به كل الخلائق كما تقدم ، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - :
"وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُهَا، وَلاَ يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ"  ... حتى قال "تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ المُوبَقُ بَقِيَ بِعَمَلِهِ - أَوِ المُوثَقُ بِعَمَلِهِ -، وَمِنْهُمُ المُخَرْدَلُ، أَوِ المُجَازَى، أَوْ نَحْوُهُ ..." (23) نسأل الله أن يغفر لنا ويدخلنا الجنة من غير سابقة حساب ولا عذاب برحمته وكرمه .
الثانية : لأن أعمالنا لا ترتقي إلى درجة الكمال ، فنحن بين إفراط في الذنوب وتفريط في حق علام الغيوب ؛ فلو عاملنا الله - عز وجل - بعدله لأدخلنا النار ، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : "لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ" (24)
ومن أجل ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو أتقانا وأخشانا لله :
 «لَنْ يُنَجِّيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا» (25)
نسأل الله - تبارك وتعالى - بأسمائه الحسنى وصفاته العليا واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب أن يدخلنا الجنة برحمته ، وأن يقينا السوء والبلاء والعذاب في الدنيا والآخرة ، والحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، والله أعلم بمراده .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ذكر إمامنا ابن الجوزي - رحمه الله - في نزولها قولين ؛ أحدهما: أنّ اليهود قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، فألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلّالا، فنزلت هذه فيهم، قاله قتادة.
وهو ضعيف ، قال محققه ذ/عبد الرزاق المهدي - حفظه الله - في الأول : ضعيف. أخرجه الطبري 37869، 37870 عن قتادة، وليس فيه ذكر اليهود، والخبر ضعيف لإرساله، وذكر اليهود يبطل الخبر لأن المصنف نقل الإجماع على أن السورة مكية، وأخبار يهود مدنية.
(1567) والثاني: أنّ حيين من قريش: بني عبد مناف، وبني سهم كان بينهما لحاء، فقال هؤلاء: نحن أكثر سيّدا، وأعزّ نفرا. وقال أولئك مثل هذا، فتعادّوا السّادة والأشراف أيّهم أكثر، فكثّرهم بنو عبد مناف، ثم قالوا: نعدّ موتانا، فزاروا القبور، فعدّوا موتاهم، فكثّرهم بنو سهم، لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية، فنزلت هذه فيهم قاله ابن السّائب، ومقاتل.
وهو ضعيف ، قال محققه ذ/عبد الرزاق المهدي - حفظه الله - عزاه المصنف لابن السائب الكلبي ومقاتل، وكلاهما ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.
(2) الأطيط صوت الأقتاب وأطيط الإبل أصواتهم وحنينها ، وهو كلام تقريب لتقرير عظمة كلام الله - سبحانه وتعالى - كما ذكر العلامة الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي - ت 1388 هـ رحمه الله - تعليقًا على حديث "إِنَّ السَّمَاءَ أَطَّتْ، وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ" . حسن ، رواه ابن ماجه (4190) (2/ 1402) والترمذي (2312) (4/ 556) وغيرهما .
(3) قال ابن فارس - ت 395 هـ رحمه الله - :
(لَهَوَ) اللَّامُ وَالْهَاءُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ أَصْلَانِ صَحِيحَانِ: أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى شُغْلٍ عَنْ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، وَالْآخَرُ عَلَى نَبْذِ شَيْءٍ مِنَ الْيَدِ.
فَالْأَوَّلُ اللَّهْوُ، وَهُوَ كُلُّ شَيْءٍ شَغَلَكَ عَنْ شَيْءٍ، فَقَدْ أَلْهَاكَ. وَلَهَوْتُ مِنَ اللَّهْوِ. وَلَهِيتُ عَنِ الشَّيْءِ، إِذَا تَرَكْتَهُ لِغَيْرِهِ. وَالْقِيَاسُ وَاحِدٌ وَإِنْ تَغَيَّرَ اللَّفْظُ أَدْنَى تَغَيُّرٍ. وَيَقُولُونَ: إِذَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِشَيْءٍ فَالْهَ عَنْهُ، أَيِ اتْرُكْهُ وَلَا تَشْتَغِلْ بِهِ. مقاييس اللغة (5/ 213) .
(4) كذا قال العلامة الفيروزآبادي - ت 817 هـ رحمه الله - في بصائر ذوي التمييز (1/ 192 ، 193) .
(5) رواه مسلم (1047) (2/ 724) .
(6) هذه عبارة العلامة الفيروزآبادي في البصائر (1/ 193) .
(7) رواه مسلم (2958) (4/ 2273) .
(8) رواية ابن عساكر في تاريخ دمشق (1215) (2/ 952) .
(9) انظر زاد المسير للإمام ابن الجوزي (2/ 333) ، (4/ 114) ، (4/ 398) .
(10) رواه البخاري (3616) (4/ 202) .
(11) حسن ، رواه الترمذي (3550) (5/ 553) وابن ماجه (4263) (2/ 1415) وغيرهما .
(12) رواه مسلم (2858) (4/ 2193) . 
(13) شعر المتنبي من قصيدة له ، مطلعها أرَقٌ عَلى أرَقٍ وَمِثْلي يَأرَقُ ... وَجَوًى يَزيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ. 
(14) زاد المسير (4/ 486) . 
(15) البحر المحيط لأبي حيان (10/ 537) .
(16) زاد المسير (4/ 486) ، والجدول في إعراب القرآن للعلامة محمود صافي (30/ 398) .
(17) إعراب القرآن وبيانه للعلامة محيي الدين درويش (10/ 569) .
(18) البحر المحيط لأبي حيان (10/ 537) ، وزاد المسير (3/ 142) .
(19) تفسير القرطبي (20/ 174) .
(20) زاد المسير (4/ 486) .
(21) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (13/ 214) .
(22) روام مسلم (2750) (4/ 2106) .
(23) رواه البخاري (7437) (9/ 128) ومسلم (183) (1/ 167) بلفظ  "فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ" . نسأل الله السلامة والعافية وأن يجيزنا الله الصراط أنا وكل من يقرأ هذه الكلمات كالبرق إلى جنات النعيم برحمته ؛ إنه جواد كريم ، يا رب .
(24) صحيح ، رواه أبو داود (4699) (4/ 225) وابن ماجه (77) (1/ 29) وغيرهما .
(25) رواه البخاري (6463) (8/ 98) ومسلم (2816) (4/ 2170) .

الكــاتــب

    • مشاركة

هناك تعليق واحد:

جميع الحقوق محفوظة لــ مَقْرَأَةُ الدُّرَّة الْمُضِيَّة العالمية للعلوم العربيّة والإسلاميّة 2019 ©